محمد غمري
“وعلى أي نحو ستبحث يا سقراط عن شيء لا تعرف مطلقا ما هو؟ فأي شيء مما لا تعرف تضعه موضوعا لبحثك؟ وحتى إذا حدث على أحسن الفروض أن وقعتَ عليه، فكيف ستعرف أنه هو ذلك الذي لم تكن تعرِف؟”[1]
يضعنا هذا السؤال أمام منزلق خطير، فتساؤل مينون ذو حمولة عميقة البعد، إذ يدعي من خلال تساؤله أنه لا يمكن لنا أن نعرف ما لا نعرفه، لأننا -بكل بساطة- لا نعرفه، وإذا كنا نعرف فلا فائدة من البحث عما نعرفه مسبقا، يقول ميشيل مايير (M. Meyer) معلِّقا على هذه المفارقة: “لا يفضي الجدل بوصفه تساؤلا، إلا إلى معرفةٍ محدودةٍ تؤكد اليقين بالجهل. إنه لا يسمح بتقدم المعرفة إلى ما هو أبعد من الإقرار باللامعرفة. مفارقةُ مينون واضحة في هذه النقطة: أن نتساءل من أجل تعلُّم الحقيقة يظل أمرا غير ممكن”[2].
يعني ذلك أن تساؤلا من قبيل “ما الفضيلة؟” هو تساؤل غير ذي معنى لأننا إما أن نكون على علم بماهية الفضيلة، وبالتالي لا حاجة لنا للبحث، وإما أننا لا نعلم ماهيتها، وبالتالي فلا يمكن أن نعرف ما لا نعرف.. إزاء هذه المفارقة، تنتفي كل إمكانية للتساؤل ومعها تنتفي كل إمكانية للمعرفة والتعلم، ذلك أن سقراط عندما يطرح سؤاله بحرف “ما” فإنه لا يعرف بالضبط عمَّاذا يبحث، ولا يغامر بافتراض أية معرفة حول موضوع تساؤله، فموضوع السؤال هو الماهية، والماهية التي لا نعرف عنها شيئا، يمكن أن تكون كل شيء، مثلما أن يمكن أن تكون لا شيء.
نعم، إن مفارقة مينون تكشف عن أزمة الفكر السوفسطائي وتضع إمكانية قيام المعرفة تحت رهن الإقامة الجبرية محاصرةً بين سؤال الماهية “ما” وسؤال الوجود “هل”، إذ لا يمكن تحديد ماهية شيء لا نعرف وجودَه من عدمِه، وفي نفس الحين لا يمكن معرفة وجود شيءٍ ما لم تكن لدينا سابق معرفة بماهيته. وهو ما يعني في نهاية المطاف أن السؤال السقراطي يسبح في الفراغ المعرفي.
هل ثمة من سبيل نحو الخروج من هذا الفراغ؟ هل هناك إمكانية للتأسيس من جديد لقيام المعرفة، بحيث تكون هذه المعرفة نفسها قابلة للتعلم؟
التذكر بوصفه وسيطا بين اللامعرفة والمعرفة:
لأزمة الفكريقترح سقراط تصورا يمكن من خلاله تجاوز هذه المفارقة، والتأسيس لإمكانية قيام المعرفة، ومن ثمة إبطال الحجج السوفسطائية، حيث يقوم بعرض نظرية التذكر، وينطلق في ذلك من القول، بأن النفس الإنسانية خالدة، وأنها تنتقل من جسد إلى آخر عبر ثنائية الولادة والموت، وحيث أنها ظلت مُقيمةً في عالم الحقائق المطلقة قبل أن تحلَّ في الجسد فإنها قد رأت كل شيء وتعلمت كل شيء، وبناء على هذا فإن النفس تتذكر معارفها من خلال عمليتي التعلم والبحث عن المعرفة، يقول سقراط في [81 د]: “لما كانت الطبيعة كلها من جنس واحد، وكانت النفس قد تعلمت كل شيء، فليس هناك ما يمنع أنها بتذكرها لشيء واحد، تجد بمفردها كل الأشياء الأخرى، هذا إذا كان المرء شجاعا ولا يتعب من البحث”[3]. ويقوم سقراط بتبرير طرحه والبرهنة عليه من خلال استدعاء أحد عبيد مينون، ثم البحث فيما إذا كان يمكنه تذكر بعض المعارف التي تعلمها قبل أن تحل نفسه في جسمه.
يرسم سقراط مربعا، ويدفع العبد إلى معرفة أن المربع مكون من أربعة أضلاع متساوية، ثم يقسم المربع من الداخل بخطين ويدفعه إلى معرفة أن هذين الخطين متساويان، ثم يحفزه على تذكُّر أنه إذا كان طول الضلع الأول قدمين، وطول الضلع الثاني قدمين، فإن عدد أقدام الكل هو أربعة، ثم يُعمِّق فعل التذكر لدى العبد من خلال افتراض وجود ضعف هذا الشكل المربع ذي الأربعة أقدام، حيث يتوصل العبد إلى أن مجموع أقدام الشكل الجديد سيكون ستة عشر، ومن ثمة سوف يتذكر القاعدة التي تقول: “الشكل المضعف يبنى ابتداء من الضلع المضعف[83]”[4] ، وهكذا يستمر العبد في تذكر معارفه من خلال بعض الأسئلة التي يوجهها سقراط إليه.
يعود سقراط إلى مينون ويحدثه حول فعالية “الرعشة” التي جعل العبدَ يستشعرها، والتي ساعدته على تذكر بعض معارفه، دون أن تسيء إليه، ثم يعاود مساءلة العبد ويدفعه إلى معرفة أن “المربع المضاعف يبنى على الخط القطري [85]”[5]؛ ثم يخلص رفقة مينون إلى أن العبد كانت لديه أفكار موجودة في نفسه، لكنها بحاجة إلى الإيقاظ والتنبيه من خلال التعلم والبحث، يقول: “والآن، فإن تلك الأفكار تأخذ في النهوض عنده، وكأنها حلم، وإذا ما أنت ألقيت عليه أسئلة كثيرة حول نفس المسائل وبأشكال متنوعة، فكن متأكدا أنه في النهاية، لن تَقِلَّ معرفته دقة حولها عن أي شخص آخر [85 د]”[6].
ما مصدر هذه الأفكار والمعارف التي ثبت وجودها لدى العبد؟ يقدم سقراط افتراضين: إما أن العبد سبق له أن تلقى دروسا في الرياضيات، وإما أنه يحوزها دائما، وبما أن مينون يؤكد على كون العبد لم يتلق أية تعاليم على يد أحد، فهذا يعني أنه يحوزها بشكل مسبق، لكنها في حالة كمون، وتحتاج إلى إيقاظها من خلال التساؤل والتعلم الَّذيْن يقودان إلى تذكر المعرفة.
يخلص سقراط رفقة مينون إلى النتيجة التالية: “إذن، فإذا كانت حقيقةُ الموجودات توجد دائما في نفوسنا، فلا بد أن تكون النفس خالدة، وهكذا فيجب أن يكون جَسورا ذلك الذي يحدثُ ألا يكون عالِما، ولكنه يحاول أن يبحث ويتذكر [86 ب]”[7]. ومعنى ذلك أن السبيل للخروج من حالة التيه واللامعرفة، يكمن في الإقرار بوجود وسيط “التذكر” بينهما، ولا شك أننا نلمَح هنا التأثر السقراطي بالتعاليم الفيثاغورية التي أرست نموذج الترابط بين النفس والمعرفة في إطار نظرية الانسجام وتأثيث بنية الكون انطلاقا من عملية إحداث التماهي بين كل العناصر المكونة له.
وبعد، فإن أهمية نظرية التذكر تنبع من كونها تنقذ المعرفة من دائرة التشكيك المطلق، وتتيح إمكانية بناء المعرفة وفق أسس متعالية عن الذات وبواسطة منهج موضوعي هو المنهج الفرضي الاستنباطي، فضلا عن ذلك إن الطريقة السقراطية في الجدل تبلغ أوجها في هذه المحاورة عندما تعبر عن خاصية الفكر الفلسفي بوصفه فكرا مزعجا، إذ لا يتوانى سقراط نفسُه عن وصف نفسه بأن عمله شبيه بعمل الذبابة التي تزعج حصانا ثقيل الحركة لضخامته، غير أن ما يقوم سقراط بإفاقته من السبات والخمول هو حالة الاطمئنان إلى البداهات واليقينيات والأحكام المسبقة غير القابلة للتمحيص والتفكيك.
ولئن كان من الصعب رسم الخطوط الفاصلة بين شخصي سقراط وأفلاطون، فإنه يمكن القول بأن الطرح الأفلاطوني هو أكثر عمقا وتفصيلا مما أشار إليه سقراط في هذه المحاورة، ـ ذلك أن المحاورات الأفلاطونية المتأخرة سوف تكشف عن سبُل إحداث الانتقال من اللامعرفة إلى المعرفة، وستشكل إعادةُ تفكيره في مفارقة مينون مدخلا نحو إرساء الأسس التي انبنت عليها نظريته في المعرفة والوجود.
الحل الأفلاطوني: المعرفة وجود، والوجود معرفة
يعمل أفلاطون على تجاوز هذا المأزق الإشكالي من خلال تعديله لصيغة السؤال بنقله من “ما [س]؟” إلى الصيغة التالية: “ما هو هذا [س]؟”، حيث أننا لا نتساءل عن [س] إلا إذا كنا نعرف أنه “شيء”، أي أنه موجود، ومن ثمة سوف يتم مع أفلاطون إضمار حرف “هل” في حرف “ما”، بحيث أن طرح سؤال “ما [س]؟” معناه الإقرار ضمنيا بوجود [س].
إن ما يترتب عن هذا التوجه الجديد هو إحداث التطابق بين نظرية الوجود ونظرية المعرفة، كما أن البحث الفلسفي نفسه سوف ينتقل من الاقتصار على الخاصية التساؤليةالإشكالاتية المنبثقة مع سقراط إلى الخاصية الأنطولوجية ذات الوجود المفارق والموضوعي.
من هنا شكلت نظرية عالم المثل مكمن الوجود الحقيقي لكل [س]، أي لكل ما يمكن للعقل أن يدركه إدراكا تاما بغض النظر عن التمظهرات المتغيرة والأشباح المستوطنة في عالم الدوكسا، وسوف يكون المنهج المؤدي إلى إدراك هاته المعرفة الكاملة هو المنهج الجدلي الاستنباطي الذي يتدرج منطلقا من الوهمي إلى الظني إلا الخطابي وصولا إلى المعرفة الحدسية التي تشكل مجال الإدراك المتكامل لعالم المثل باعتباره يمثل عالم الحقائق العقلية ذات الوجود الموضوعي.
بناء على ذلك سوف يشكل الجدل مسلك الخروج من دائرة الفراغ المعرفي إلى رحاب الامتلاء الأنطولوجي الذي تتخذ ثيمة “الخير Le Bien” قيمته المطلقة، باعتباره مثال المثل، وبالتالي سوف يتخذ الجدل أهميته من منبع الكشف عن الماهيات الكلية بوصفها مسعى كل تساؤل فلسفي، يقول جان بران J. Brun وهو أحد المتخصصين في الفلسفة اليونانية: “ينشغل الجدل بالانتقال من العموميات نحو الماهية (…) إذا كان أفلاطون قد تحدَّث عن هذا الانتقال، فذلك لأن كلَّ تعميمٍ يهدف التوجه نحو المثال Idée،الماهية، أي البحث عن “الخيرle Bien“، وذلك وفق قاعدة أن كل شيء يتوجَّه نحو غاية تنتمي إلى جدلية الكشف”[8]. لكن التمييز الأفلاطوني بين عالم الدوكسا وعالم المثل أوقع الفكر مرة أخرى في مشكلة التقاطب الثنائي بين مبدأي الوصل والفصل؛ بتعبير أوضح إن الطرح الأفلاطوني لمفهوم التذكر بوصفه وسيطا ابستمولوجيا يصل بين المعرفة والوجود، سوف يصطدم بمشكلة فصله بين العالمين: كيف يتشارك عالم الدوكسا بعالم المثل؟ وهل عالم المثل متكثر بكثرة الأول أم أنه ذو وحدة ثابتة؟
عود على بدء..
إن تاريخ الفلسفة -بحسب قراءة م. مايير- هو تاريخ مفارقة مينون، فكل نسق فلسفي إنَّما يتوجه من حيث أسسه ومنطلقاته الأولية نحو البثِّ في علاقة الوجود بالمعرفة وأيهما يسبق الآخر ويفضي إليه؛ يقول م. مايير في مقتطفٍ يسلِّط الضوء بوضوح على جوهر المعضلة: “كيف يمكن معرفة الأشياء كما هي دون افتراض حد من الصلاحية للمعرفة نفسها، صلاحية لا يفرزها سوى نظام الأشياء نفسه؟ يبدو الوجود والمعرفة في صراع، فمن له الأسبقية؟ ما الذي يجب افتراضه أولا؟ إذا قلنا الوجود كان قولنا متناقضا لأنه يفيد المعرفة. وإذا أكدنا أسبقية المعرفة، نسينا بأن المعرفة هي علم الشيء كما هو، ولكي تكون المعرفة صالحة ومبررة يجب أن ترتكز على الوجود لتكشف عن طبيعته، إننا أمام لعبة الطاولة حيث لا أحد يمكنه أن يبدأ. فالوجود يفترض المعرفة ليتأكد، والمعرفة تفترض الوجود لكي تتناسب مع شيء ما”[9].
أجل، إن تاريخ الفلسفة هو تاريخ مفارقة مينون، وهو باعتباره كذلك تاريخ للتساؤلات الإشكالية الكبرى، باعتبار أن السؤال الفلسفي هو أحد خصائص الممارسة النقدية التي تعكس جوهر التفكير الفلسفي بوصفه تفكيرا قلِقا، مزعِجا، لا ينفك عن تقويض المسلمات والثوابت، وتحرير الفكر الإنساني وجعله دائم الحيوية واليقظة والقدرة على التجديد والانعتاق من قيود التقليد.أ
الهوامش
[1]أفلاطون(Platon): في الفضيلة (محاورة مينون)، ترجمة وتقديم الدكتور عزت قرني، دار القباء للطباعة والنشر والتوزيع (القاهرة) 2001.ص103.
[2] « La dialectique conçue comme interrogation, ne mène qu’au savoir minimal qui affirme la certitude de l’ignorance. Elle ne fait pas avancer le savoir au-delà de ce constat de non-savoir. Le paradoxe du Ménon est clair sur ce point : questionner pour apprendre la vérité n’est pas possible »
Michel Meyer : De la problématologie, Edition Quadrige/puf, p77.
[3]نفسه، ص106.
[4]نفسه، ص111.
[5]نفسه، ص119.
[6]نفسه، ص120.
[7]نفسه، ص122.
[8] « La dialectique s’occupe de la génération vers l’essence (…), si Platon parle d’une génération vers l’essence, c’est parce que toute génération a pour but l’idée, l’essence, c’est-à-dire le bien ; c’est-à-dire le Bien ; à la base de tout devenir se trouve une finalité qu’il appartient à la dialectique de découvrir ».
Jean brun : Platon et l’Académie, 11eme Edition corrigée, puf, 1994, aout, Que sais-je ? p39.
[9]مايير (M. Meyer): نحو قراءة جديدة لتاريخ الفلسفة،ترجمة وتقديم: عز الدين الخطابي/ادريس كثير، منشورات عالم التربية، ط2006، ص18.