COUUA

شبح الموضة وحمى الإستهلاك

يعتبر موضوع الموضة والإستهلاك من مواضيع الدراسة الراهنة نظرا لحساسيتها و إرتباطها بالإنسان وحياته ومصيره، ظاهرة الموضة التي أصبحنا نسمع عنها كثيرا في الآونة الأخيرة، والتي تعبر عن نمط معين من اللباس والأحذية والأثاث المنزلي والتصوير وغيرها، لكن في الغالب يرتبط مصطلح الموضة باللباس وتصاميمه العصرية و المتجددة.لكن هل يمكن أن نحصر العصرنة بنوع لباس معين؟ وهل الموضة معيار يحكم به على مدى تقدم الأمم؟ أم أن كل هذا (موضة وصيحات جديدة واللباس العصري) مجرد طريقة لترويج إقتصادي لا غير؟
إن كلمة “الموضة” نفسها تحمل معنى التحديث والعصرنة والتجديد، وكما نرى فإن ظاهرة الموضة إزداد إنتشارها مع إنتشار الطابع الإستهلاكي لدى الأفراد، وبما أن أصل الكلمة غربي محض فلماذا لا يكون هدف هؤلاء الترويج لسلعهم من خلال إبتكار مصطلح جذاب وبراق تحت إسم “الموضة”، إنها الإيديولوجيا الغامضة التي يصعب فك شيفراتها والكشف عن خباياها فهي تلعب بأصابعها في الفرد المعاصر المستهلك لكل شيئ والذي يكد جاهدا من أجل إشباع رغباته وميولاته التي لا تكاد تنتهي،  فكلما حقق لذة معيبة إزداد ميوله نحو تحقيق المزيد وبالتالي إرتفاع درجة الإستهلاك لدى هذا الفرد، فالموضة إذن هي كما يرى الفيلسوف وعالم الإجتماع الفرنسي “جان بودريار” “العمود الفقري لمجتمع الإستهلاك”(1)؛ بإعتبارها مصدر كل المواد المستهلكة، والإستهلاك بهذا المعنى تحول إلى حمى معدية وفيروس يصعب التخلص منه، إنه الوجهة التي يطمح لها كل فرد معاصر يعيش في زمن التقنية، غاية منشودة ليحقق بها السعادة القصوى الوهمية الزائفة حتى لو كانت لحظية عابرة.
إن الموضة ومن خلال إقتحامها المجال العام أصبحت سببا مباشرا لتكريس الطبقية أو التراتبية الإجتماعية فالفرد بعد أن كان يستهلك من أجل الشيئ لذاته أصبح يستهلك ويضاعف إستهلاكه من أجل إفراض نفسه في المجتمع وصنع مكانة إجتماعية ونفوذ وغيرها، هنا يظهر لنا الصراع الذي يعرف “من يستهلك أكثر وفي أقل مدة” وهو صراع طبقي سببه الأول الموضة التي تحمل في طياتها مهمة خلق تمايز إجتماعي، وهو عكس ما تظهره للعيان “مواكبة العصر والتقدم الحضاري”، ونتيجة  هذا الصراع ستكون حتما طرح من فشلوا في سباق الإستهلاك خارج دائرة الأفراد الصالحين؛ بمعنى رميتهم في مكب النفايات البشرية وتهميشهم بل وتجريدهم من هوياتهم، لتنتصر الموضة في الأخير وترفع شعارها الأصلي ألا وهو “اللامساواة”، وفي هكذا وضع لا يمكننا الحديث عن التحرر بمعناه الحقيقي إطلاقا في عصر سلم الفرد نفسه للأشياء وللقوى التي تتحكم في هاته الأشياء، فقط نتحدث عن حرية وهمية لا أكثر من خلال إعتقاده أن إختياراته في اللباس و الأكل والمنتجات المستهلكة عموما صادرة من إرادته الشخصية، لكن الحقيقة هي أن هذا الفرد تحت سيطرة قوى و أنظمة إقتصادية كبرى تتحكم فيه وفي مستهلكاته وتفرضها عليه فرضا حتى يحافظ على بقاءه، لأن هذا الفرد دائما في سباق إستهلاكي مجهول الوجهة والنهاية فقط يجري ويستهلك ويتنقل من منتج لآخر ومن لباس لآخر وفي حالة تأخره عن ركب العدائين كان مصيره التهميش، فالإستهلاك شبحا حقيقيا يلاحق الفرد خطوة بخطوة.
وحديثي هذا ينطبق على المجتمع الغربي كما على المجتمع العربي، خصوصا في فترتنا المعاصرة وهي أكثر الفترات الإنسانية خطرا وتهديدا، لأن العلم والتكنولوجيا عرفا تطورا كبيرا فغاصا في مواضيع تربك الإنسان وتخيفه، والمجتمع العربي كان إن صح القول المتضرر الأول من التكنولوجيا الغربية ومخططاتها الخفية لأن مجتمعنا دائما ما يطرح تساؤلات من مثل: لماذا نحن لا نتقدم مثلنا مثل العالم الغربي؟ أليس هذا السؤال غريب. لماذا؟ أولا إن المجتمع العربي المعاصر متقدما نوعا ما؛ يعني لا نقول أنه بعيد ومتأخر عن ركب الحضارة كليا والدليل هو ما نتمتع به من تكنولوجيا و إتصالات وطب وصيدلة ولباس أو بالمختصر “الأفكار” نملك نحن العرب دون منازع أفكارا بمقدورها أن تحقق قفزة نوعية لكن لماذا لم نحقق هاته القفزة بعد؟ للإجابة على هذا التساؤل بالضرورة أضيف سؤالا آخر: ما مصدر هذه الأفكار؟ مباشرة نقول أنها دخيلة على المجتمع العربي ومصدرها الأصلي العالم الغربي ولا تمت بصلة لتراث مجتمعنا ولأصالته ومنبعه، الكثير من الأفكار دخيلة على مجتمعنا العربي سواء كان ذلك بواسطة الفرد العربي غير الواعي المقلد أو بواسطة خطط غربية غايتها الحفاظ على السبات العربي، أليس الموضة كذلك مفهوم دخيل على مجتمعنا، أليست ثقافتنا الحالية لا تمت بصلة للثقافة الإسلامية، أليس لباسنا وتفكيرنا بعيدا كل البعد عن اللباس والتفكير الإسلامي، بالمختصر كل شيئ دخيل وكل ما هو أصيل ذهب في مهب الريح، مجتمع عربي يقدس المظهر والمادة على حساب تهميش أصله، فأصبح يعرف الموضة واللباس العصري بل أنه أصبح يدافع عنها.أليس هذا أمر يثير الحيرة والغرابة؟
الموضة مصطلح غربي بإمتياز دخل مجتمعنا مقصودا حتى يقوم بخلخلته، والأيادي التي فعلت ذلك نجحت بدرجة إمتياز، ونحن نلاحظ ذلك: إنحلال أخلاقي، لباس غير لائق، كلام تستحي الأذن من سماعه، تفكير منفتح لأبعد الحدود، حرية مطلقة، وإذا سألت: قالوا موضة، هل التعري موضة؟ هل الخروج عن قيم الإسلام موضة؟ هل التشبه بالنساء موضة؟ أسئلة لا نهاية لها بعد أن فعلت الموضة فعلتها في عالمنا العربي، أين أصبح الفرد لا يستطيع أن يستغني عن الإستهلاك المستمر دون إنقطاع بحجة أن العصرنة تستدعي ذلك، لكن مقابل ذلك الزيف الذي يعيشه الفرد العربي دفع إسلامنا بتعاليمه وقيمه و مبادئه، نحن من قضينا على هاته القيم بأيدينا وغباءنا و تقليدنا الأعمى للموضة وغيرها من الأفكار الغربية التي تعتبر طرق خبيثة لغزونا فكريا، وبما أننا نملك قابلية كبرى للإستعمار فأفكارهم إنتشر مفعولها بسرعة البرق وبينا لهم درجة الغباء التي وصلنا إليها، من خلال جلب أفكار لا تنطبق البتة مع أفكارنا وقيمنا فكيف لنبتة أن تنمو في ارض غير أرضها.الموضة الغربية أنشأت مجتمعا منحرفا مستهلك غير منتج، مقلد غير مبدع، مجتمع يسير مع التبعية الفكرية والدليل هو الترحيب الحار بالموضة ، طبعا ما الذي ننتظره من أفراد يعانون من جمود فكري يعشقون الجاهز ولا يريدون لأنفسهم الإجهاد بالتحليل والنقد والغربلة، لأن الوقت ليس لصالحه والمواد الإستهلاكية كثيرة وعليه بالإستمرارية في الإستهلاك والجري والتجديد.
إن الأفراد الذين صفقوا للموضة ورحبوا بها في مجتمعنا العربي لا يصدقون أن هذه الأخيرة ستقضي عليهم تدريجيا، وتكرس في مجتمعهم الطبقية وتزرع الفتن بينهم وتهدم إيمانهم وتسلخهم من ثراتهم ودينهم ، ويصبحون لقمة سائغة لكل من أراد إستعمارهم، هم لا يصدقون لأن هذه الحقيقة تتعارض مع مصالحهم في تحقيق اللذة اللحظية والمتعة العابرة والسعادة الوهمية وهو يجهل أن كل هذا له غرض إقتصادي لا غير، يجهل أن الموضة تختبئ وراء عباءة ديناميكية لزومية المصلحة، مهمتها غزو الأسواق وكسب زبائن جدد وتشجيع الإستهلاك، وعليه يمكن إعتبار الموضة خيط من خيوط الرأسمالية الذي إمتد للعالم أجمع.
(1) جيل ليبوفتسكي:مملكة الموضة زوال المتجدد، ترجمة: دينا مندور،المركز القومي للترجمة، القاهرة،ط1،2017،ص174

Exit mobile version