صلاح عثمان
منذ بضعة أيام، وبالتحديد يوم الخميس الموافق السادس من نوفمبر، أُسدِل الستار على حياة واحدٍ من أهم علماء القرن العشرين وأكثرهم إثارة للجدل؛ رحل «جيمس واطسون» James Watson (1928 – 2025)، أحد آخر من أطلوا على سر الحياة من نافذة الجزيء، بعد أسبوعٍ واحدٍ من نقله إلى دارٍ للرعاية إثر علاجه من عدوى أصيب بها مؤخرًا. وبغيابه، انطفأ عقلٌ ظل لعقودٍ يختبر حدود المعرفة الإنسانية، تاركًا وراءه إرثًا علميًا هائلاً، وإرثًا إنسانيًا وفلسفيًا أكثر تعقيدًا ووجعًا.
حين أعلن «واطسون» مع زميله «فرانسيس كريك» Francis Crick (1916 – 2004) سنة 1953 عن اكتشاف البنية الحلزونية المزدوجة Double Helix Structure للحمض النووي الريبوزي منقوص الأوكسجين (جزيء الـ «دي إن إيه») Deoxyribonucleic Acid – DNA، لم يكن ما فعلاه مجرد إنجازٍ مخبري عابر، بل كان انقلابًا فلسفيًا في مفهوم الحياة ذاتها، إذ تحول التساؤل الأول الذي أرق الفلاسفة: «ما الحياة؟» من تأملٍ ميتافيزيقي غائم إلى شفرةٍ معلوماتية يمكن قراءتها وفك رموزها، كما لو أن سر الوجود أُعيد طباعته بلغة الجزيئات.
في تلك اللحظة، أدرك الإنسان – لأول مرة في تاريخه – أنه ليس فقط كيانًا وُهب الحياة من علٍ، بل هو كذلك نصٌّ كيميائي مكتوب بدقّةٍ رياضيةٍ داخل كل خلية من خلاياه؛ نصٌّ لا يُتلى، بل يُترجَم إلى كينونة. لقد أخرج «واطسون» الحياة من غياهب الأسطورة إلى ضوء المختبر، وحوَّلها من «نفَسٍ غامض» إلى معادلةٍ فيزيائيةٍ حية. لكنه في الوقت ذاته، ألقى بها في قبضة العلم الصارم، حيث يغدو السر قابلاً للقياس، والمعنى قابلاً للرد، وحيث يُختبر الوجود لا في رحاب الميتافيزيقا، بل في صمت الأنابيب الزجاجية. وهكذا، بينما فك «واطسون» و«كريك» طلاسم الشفرة الوراثية، فتحا – من حيث لا يعلمان – بوابة الفلسفة على مصراعيها من جديد، إذ صار الوجود ذاته سؤالاً بيولوجيًا يبحث عن روحٍ داخل بنيةٍ من رموز.
هنا تبدأ المفارقة الكبرى، المفارقة التي لا ينجو منها عقلٌ حاول أن يضع الكون تحت المجهر؛ فالرجل الذي حرَّر الإنسان من غموض اللامرئي، قيده بوضوح المادة المرئية؛ والذي كشف سر الحياة، جرَّدها من دهشتها الأولى. ومع كل خطوةٍ خطاها نحو الفهم، ابتعد خطوةً أخرى عن الغموض الذي يمنح الوجود سحره. لقد أراد «واطسون» أن يرفع الستار عن أسرار الخلية، فإذا به يكشف أيضًا هشاشة الفكرة التي بنت عليها البشرية معنى الإنسان؛ فعندما تُصبح الروح (في رؤيته) مجرد معادلة، ويُختزل الوعي إلى سلسلة من الأكواد، يغدو الكائن البشري مجرد نص بيولوجي يتكرر بتعليمات دقيقة، لا بآمالٍ أو أحلام. هكذا فتح «واطسون» الباب أمام تساؤلاتٍ لا طاقة للعالم بها؛ تساؤلات لا تسكن مختبره بل أعماقه، تلامس تخوم الوعي وتطل على هاوية الروح. لقد أطلق العِلم من عقاله، لكنه لم يدرِ أن هذا التحرر سيقوده إلى أسرٍ من نوعٍ آخر: أسر اليقين المادي الذي يطمس هشاشة الإنسان خلف نظامٍ جيني صامت. ومن بين أنقاض التجربة، ترتفع التساؤلات التي لا تهدأ: هل الإنسان حقًا أكثر من شفرةٍ بيولوجية؟ وهل ما نسميه وعيًا ليس إلا برنامجًا حيًّا داخل جسدٍ أتقن محاكاة الحرية؟ أم أن خلف هذا النظام الدقيق ظلاً آخر – لا يُقاس ولا يُفسَّر – هو ما يمنح الحياة معناها الذي لا يُكتب؟
لم يكن «واطسون» فيلسوفًا بالمعنى الأكاديمي للكلمة، لكنه حمل في أعماقه قلق الفيلسوف في جسد العالم التجريبي، وروح المتسائل في يدٍ تمسك بالمجهر. عاش بين ضوء المختبر وظل الضمير الإنساني، فجمع في شخصه النقيضين: عبقرية الاكتشاف وحدة الرأي، رهافة الفكر وجفاء الموقف. كان إذا دخل مختبره أبدع في تفكيك أسرار الخلية، وإذا خرج إلى الحياة العامة أشعل عاصفةً بتصريحاته التي تجاوزت حدود العلم إلى مناطق شائكة من الأخلاق والكرامة الإنسانية. لقد آمن مدفوعًا بيقينٍ علمي لا يلين أن الوراثة تملك مفاتيح كل الفروق بين البشر، وأن ما نُعده سلوكًا أو ذكاءً أو تفوقًا ما هو إلا امتدادٌ لما تخبئه الجينات في أعماقها. وهكذا، حين صرَّح في أواخر حياته بأن الأفارقة يقلون ذكاءً عن الأوروبيين، وألمح إلى أن الفروق العرقية قد تكون مطبوعة في الحمض النووي ذاته، انفجرت في وجهه موجةُ استنكارٍ عالمية.
لم ير كثيرون في كلماته جرأة علمية، بل سقوطًا أخلاقيًا لعقلٍ لم يُدرك أن الإنسان لا يُقاس بتركيبته الجينية وحدها. وتوالت العواقب: جُرد «واطسون» من ألقابه الفخرية، وقطعت مؤسسات علمية عديدة روابطها به، كأن المجتمع العلمي كله أراد أن يتطهر من ظله. وبدا المشهد مأساويًا بامتياز؛ فالعالِم الذي فكَّك الشفرة التي تصف الحياة، سقط في خطيئة تفسير الإنسان تفسيرًا ردَّيًا، ظنًّا منه أن الإنسان يُمكن أن يُرد إلى تركيبته الوراثية، وأن ما تحدده الجينات من صفات جسدية أو عقلية أو سلوكية يمكن أن يُحدد أيضًا مسار حياته ومستقبله كله! ومن هنا بدأت مأساته الثانية: مأساة العالم الذي اعتقد أن الحقيقة العلمية مرآةٌ لكل شيء، فإذا بها تنكسر على حدود الأخلاق. لقد أراد أن يرد الكون إلى منطق الطبيعة، فأنكر على الخالق ما وهبه للإنسان من حرية وكرامة، وغدا مثالاً على عبقريةٍ بلغت الذروة العلمية، ثم تعثرت على العتبة الإنسانية: مأساة العقل حين يظن أن النور وحده يكفي ليبصر المعنى!
مع ذلك، لا يمكن أن يُختزل «واطسون» إلى مجرد شخصية شريرة أو عنصرية أو لا أدرية؛ فهو في آنٍ واحد رمزٌ للعلم حين يتخطى حدوده، وللعقل حين يغدو أسيرًا لسلطته على الحقيقة. لقد آمن أن الطبيعة وحدها كافية لتفسير الإنسان، وأنه لا حاجة إلى قوة خارقة أو ميتافيزيقا لتبرير وجودنا؛ ماديٌّ في رؤيته، لكنه في أعماقه إنسانيٌّ في قلقه، سجين التساؤلات التي أنجبها ذكاؤه، وأثقلت وجدانه كما أثقلت المكتبة البشرية. ليس هذا دفاعًا عنه، بل هو تأكيدٌ على أن عبقرية العالم لا تعني في النهاية تجاوزه لحدود القصور الإنساني!
باع «واطسون» ميدالية نوبل التي نالها سنة 1962، في فعلٍ رمزي يشي بعمق الإنسانية حتى في أعظم اللحظات العلمية (وإن هُزمت إنسانيته برؤاه العنصرية)، ووهب جزءًا من عائداتها للبحث العلمي، مؤكدًا أن المجد، مهما علا، لا يحجب هشاشة الإنسان أو شعوره بالمسؤولية أمام المعرفة. وحين اعتذر عن تصريحاته المثيرة للجدل ثم انسحب إلى صمته الأخير، بدا وكأنه يعتذر لا للعالم فحسب، بل للعلم ذاته، لأنه – رغم عبقريته – لم يمنحه مفتاح الحكمة النهائية، المفتاح الذي طالما بحث عنه في أعماق الجين والخلية والنصوص الوراثية
رحل «واطسون» في عامه السابع والتسعين، بعد رحلة امتدت بين أعماق الخلية وآفاق الفكر، بين الحروف الكيميائية للنص الوراثي وتساؤلات الوجود الكبرى … رحل العالم الذي نظر إلى الجين فرأى فيه خريطة الخلود، ثم أدرك أن الخلود لا يكمن في المادة وحدها، بل في المعنى الذي نختاره ونعيه. ربما كان هذا هو درسه الأخير لنا: أن العلم، مهما بلغ من دقة ومتانة، لا يُقدم إجابة نهائية عن سؤال الوجود، بل يفتح نوافذ أعمق نحو المجهول ويضاعف سحر الغموض الذي يحيط بنا … رحل آخر حراس الشفرة، لكنه لم يرحل تمامًا؛ فالشفرة التي ساعد على كشفها لا تزال تنبض فينا، كنبض توقيعه الأخير على صفحة الحياة، وتذكرنا بأن الإنسان، مهما فك رموزه، يظل أمام السؤال الأزلي: ما الحياة؟ وما الوعي؟ وما معنى أن تكون إنسانًا؟!
رابط المقال في التعليقات
