COUUA

تعليقات مؤقتة على مستقبل -العقل العربي-

فتحي المسكيني

بعد كلّ أنواع الخصومة والردّ والانتقاد والمماحكة والمزايدة التي تعرّضت لها أعمال الفقيد محمد عابد الجابري منذ أن ظهر كتاب “تكوين العقل العربي” سنة 1981 بوصفه الجزء الأول من مشروع نقد العقل العربي، والذي توالت أجزاؤه الثلاثة اللاحقة في السنوات 1986 عن “بنية العقل العربي” و1990 عن العقل السياسي العربي”وأخيرا 2001 عن “العقل الأخلاقي العربي”،- يبدو أنّه قد آن الأوان لإخضاع تلك الأعمال إلى نقاش فلسفي مبدئيّ لا يهدف لا إلى دحضها (فهيغل علّمنا أنّه لا وجود للدحض في سيرورة المفهوم) ولا إلى الدفاع عنها (من أجل أنّ حرفة الدفاع أو “الأبولوجيا” عن الأفكار المقرّرة هي أقرب إلى الخصومة اللاهوتية أو الحزبية منها إلى المناظرة الفلسفية الحرة). ونقصد بذلك أنّه علينا أن نميّز منذ البداية بين نقاشات “العقل المستنير” تحت لافتة “المثقّف” ونقاشات الباحث في القضايا الفلسفية تحت عنوان “الفيلسوف”. ولنسأل دونما مواربة: هل كان الجابري فيلسوفا أم مجرّد مثقّف يعمل تحت لافتة العقل المستنير ؟ العقل المستنير الذي يخوض معارك ثقافية ولكنّه لا يفكّر أو لا يتفلسف، يعني لا ينتج إشكالية فلسفية كونية ومبتكرة حول مصير البشر بعامة. ولقد مرّ العقل المستنير عندنا بأطوار عدّة بحسب المسائل التي خاض فيها من قبيل “النهضة” و”الإصلاح” و”التقدم” و”التطوّر” و”المعاصرة” و”الوحدة” و”التراث” و”الأصالة” و”الهوية” و”العلمانية”…وهي كلّها مواصلة متنكرة للمناظرة الكلامية القديمة بين العقل والنقل. يبدو أنّ قدر التفكير الحر، البكر، الذي لا يخدم أيّة قضية جاهزة سلفا ولا يدافع عن أيّ أفق روحي مقرّر سلفا، هو موقف وجودي ونظري ومعياري لا يزال ممنوعا أو محكوما عليه بأن يعمل تحت عناوين أدبية أو جمالية هامشية.
ويبدو لي أنّ جيل الجابري، أي جيل “قرّاء التراث”، لم يستطع رغم محاولاته الصادقة، أن يتحرّر من مهمات “العقل المستنير” في ثقافة العرب المعاصرين، كما تمّ تشكيله منذ عصر الروّاد في القرن التاسع عشر. لقد ظلّ يعمل تحت نداء سؤال الرواد عن “تقدّم” الغرب و”تخلّفـــنا” نحن (إشارة إلى العرب المعاصرين كما يتمثّلون أنفسنا، أي بوصفهم ورثاء أساسيين لنحن العرب كما تشكّلت في الجاهلية والإسلام الكلاسيكي بكل أطيافه) . وهذه “النحن” لازالت تعمل في أساس كلّ محاولات قراءة التراث، والتي بلغت مع الجابري هالتها العليا والأخيرة. وهذا يعني أنّ قراءة التراث لم تكن أبدا عملا فلسفيا، أي لم تكن أبدا عملا نظريا كونيا أو يحق له أن يدّعي الكونية أو قابلا للكوننة. إنّه يبدو عملا “ثقافيا” نبيلا ولكن محلّيا. وعلينا أن نسأل: إلى أيّ مدى يمكن للمتفلسف أن يتماهى مع مهنة المثقف (المنافح عن قضايا أمّته) ؟ وإلى أيّ حدّ يحق له أن يعتمد على “العقل المستنير” في طرح ومعالجة المهمّات النظرية أو المعيارية للعقل الفلسفي بعامة ؟
إنّ ما يثير القلق في كلّ أعمال الجابري هو قراره المنهجي الصريح بأن يضع كلّ كتاباته تحت لافتة “نقد العقل العربي”. ومن الواضح أنّ مصدر القلق ليس عبارة “نقد العقل” بل وعيه الصريح بصعوبة الافتراض بأنّ ثمّة “عقلا عربيا” له مقوّمات لا نجدها في “العقل اليوناني” أو في “العقل الألماني” مثلا… وبيت القصيد هو بلا ريب طبيعة التصوّر الذي ينبغي على المتفلسف أن يصرّفه ما بين الفلسفة والقومية. كيف يمكن أن نتفلسف بشكل كلّي (ولا فلسفة إلاّ بالكلي) تحت لافتة قومية أي جزئية وخاصة بشعب ما وثقافة ما وعصر ما ؟ – ثمّة طبعا نظريات ومقاربات فلسفية كثيرة ومتنوعة في معالجة الصعوبة النظرية التي تثيرها العلاقة ما بين الكلي والجزئي أو بين العام والخاص أو بين المشترك والفردي أو بين الهووي والشخصي (أرسطو، كنط، هيغل، نيتشه، هيدغر، فتغنشتاين، الفلسفة التحليلية، فلاسفة الاختلاف، الجماعويون، فلسفة التواصل…).
لكنّ تصوّر الجابري للـ”العقل العربي” لا يهتم كثيرا بهذه التقاليد الفلسفية في إثارة مشكلة العلاقة بين الكلي الفلسفي والخصوصي الثقافي إلاّ بشكل عرضي. بل يمكن أن نعتبر أنّ الهمّ النقدي الذي وجّه كلّ ما نشره الجابري هو يمنع أصلا من طرح السؤال الفلسفي الصحيح حول جدارة وصلاحية القيام بمشروع قراءة تراثية ذات توقيع قومي صريح (قارن: نحن والتراث) تنجز “نقد العقل العربي” في حقبته الكلاسيكية، أي كجملة من المنظومات المعرفية والسياسية والأخلاقية المغلقة على نفسها والمنقطعة عن تاريخ العلوم والسياسة والقيم في العالم الوسيط والحديث. كيف يمكن الجمع جمعا فلسفيا كلّيا بين مفهوميْ “العقل” و”التراث” ؟ فإنّ التقليد الفلسفي الذي طوّر مقولة “التراث” (هيدغر، غادمير،..) لم يفعل ذلك إلاّ في شكل من التحرّر الوجودي والتأويلي من ربقة التقليد “العقلاني” الذي سيطر على مشروع فلسفة الأنا الحديثة من خلال برنامج الأنوار.
كان كنط قد طرح سؤالا على غاية من الدلالة بالنسبة إلى موضوعنا هنا، وذلك في آخر استهلال قسم “الجدلية المتعالية”، من كتابه الكبير نقد العقل المحض، قائلا: “هل يمكن أن نعزل العقل ؟” – كان قصد كنط، عندئذ، هو التنبيه إلى أنّ العقل مصدر لمبادئ لا يستمدها لا من الحواس ولا من الذهن، ولكنه لا يستطيع الدخول في علاقة مباشرة مع الموضوعات. ولذلك فالحل حسب كنط هو أن نعامل العقل بوصفه ملكة ثانوية لا تنتج “المعرفة” (حول المحسوس) لكنّها تساعد على “التفكير” في ما وراء الحس (مسائل الإله والنفس والعالم والحرية…). لقد وقع في حقيقة الأمر إفراغ العقل من وظيفته المعرفية وتحويله إلى شرطي تأمّلي لحماية ملكة المعرفة من نفسها، أي من الانزلاق في إنتاج معارف عن مسائل تتخطى التجربة الممكنة حيث يعمل الذهن العلمي. ولذلك ميّز كنط بين فائدة سالبة لعملية نقد العقل المحض : “ألاّ نجازف باستعمال العقل التأمّلي ما وراء التجربة الممكنة”؛ وفائدة موجبة هي ” التوسيع العملي للعقل المحض”: أي اعتبار الأخلاق مجالا لمعالجة المعضلات التي فشل العقل النظري في حلّها بشكل علمي(وجملة أنواع الفشل التي وقعت فيها الفلسفة التقليدية هي الميتافيزيقا).
كيف ننزّل مشروع الجابري “نقد العقل العربي” ؟ هل يمكن التمييز فيه بين فائدة سالبة: مثلا عدم المجازفة في استعمال “العقل العربي” خارج عالم الحس التاريخي الخاص بحقبة الإسلام الكلاسيكي ؟ وفائدة موجبة: مثلا التوسيع العملي لمبادئه النظرية التي فشلت في مستوى المعرفة العلمية (براديغم العلوم القديم ) ولكنها يمكن أن تساعدنا على مستوى المشاكل الأخلاقية ؟
ما يثير القلق قبل كل شيء هو الفرق بين مزاجي كنط والجابري عند الفراغ من كتابيهما “نقد العقل المحض” و”نقد العقل العربي”: ففي حين يبدو كنط وقد خرج من عملية تأبين واسعة للميتافيزيقا وذلك بوضع حدّ لكل مزاعم العقل النظري حول إمكانية حلّ علمي لمشاكل الفلسفة التقليدية (وجود الإله، خلود النفس، الحرية،…)، نرى إلى الجابري كيف يقدّم عمله بوصفه فتحا إيبستيمولوجيا مظفّرا حول “نظم المعرفة في الثقافة العربية”. ثمّة غموض يخيّم على مصطلح “نقد العقل” تحت قلم الرجلين.
ولذلك ثمّة مشكل واحد سوف نكتفي بإثارته ألا وهو : أيّة وجاهة للتوقيع القومي على دراسة فلسفية للعقل تدّعي أنّه عقل “تراثي” مكوَّن بشكل مخصوص ويمكن عزله في مركّب هووي من الخصائص والحقب تجعل منه بالمناسبة “عقلا عربيا” قحّاً ؟

Exit mobile version