COUUA

تشارلز تايلور وحوارات حول “زمن علماني”

   تتميّز فلسفة تايلور بغلبة الطابع الحواري عليها وهي حوارات يجريها مع عديدين، ذلك انه يدخل في حوار مباشر مع العقل الإلحادي المنحدر من فلسفة الأنوار ليكشف أن هذا العقل المنتشي بالانتصارات التي أحرزها العلم والذي يباهي بتجاوز حالة القصور والكسل والجبن نحو حالة من النضج والشجاعة فأزال عن العالم غلالة السّحرDésenchantement  وخلّص الإنسان من قيد الجهل، إن هذا العقل بحسب تايلور مسكون بتناقضات داخليّة كشفها في حواره معه، فإذا كان جوهر العقل العلمي قائم على رفض الدغمائيّة والتحرّر من الأحكام السّائدة فإنه انتهى إلى بوار عندما سقط في شكل جديد من الدغمائيّة واحتفظ بأحكامه المسبقة التي ظلّت تباطنه، إنه عقل يدّعي الحياد والموضوعيّة والحال أنه مورّط في أحكام أيديولوجيّة. إن الإلحاد ليس موقف العقل وقد انتصر على معيقاته وتجاوز مرحلة الغفلة بل هو يظلّ مجرّد إمكان يريد أن يتعمّم ويزيل خيارات أخرى خارجة عنه وإن كانت لا تقلّ عنه وجاهة. إن حوار تايلور مع هذا الموقف الإلحادي إنما لإقناعه ليس بوجود الله بل بكون العلم وإن كان لا يملك حجة على وجوده فإنه في المقابل لا يتوفّر على حجّة تنفي وجوده، فتأكيد المحايثةImmanence  ليست بحال نفي للتعاليTranscendance. هذا ما دفع صبا محمود

[1] إلى القول أن الخطأ الذي يريد تايلور أن يكشف عنه يتمثّل في التناقض بين العلمانيّة والإلحاد، إذ يخطئ من يعتقد أن الزمن العلماني هو زمن إلحادي بامتياز وأننا نحن المحدثون لم نعد نحتاج ” لفرضيّة الله” كما ادّعى لابلاص ذات مرّة.

    إلى جانب حواره مع العقل العلمي المادّي أساسا والمتّجه إلى الإلحاد يقيم تايلور حوارا في فلسفته وأثناء عرضه لسرديّة العلمنة مع العقل الأداتي instrumentale Raison حتى وإن كان من الصّعب إقامة فصل دقيق بينهما. إن العقل الأداتي القائم بالأساس على مسلّمات العقل العلمي حيث يتمّ اختزال العالم إلى ما هو مادّي ونزع كل القيم والمعاني الملتبسة به جرّاء التصوّرات الميتافيزيقيّة والدينيّة السابقة. وما يميّزه كعقل غلبة الطّابع البرغماتي عليه، إنه لا يعترف إلا بالغايات الماديّة ويتعامل مع الخير بوصفه مطلبا للرفاه والسعادة الماديّة ويجعل من الحياة الرّغدة حياة راحة وقوّة وهو ما آل في الأخير إلى مجتمع استهلاكي يطنب فيه الأفراد في طلب اللذة ويعتقدون أن اكتمالهم يتحقق بالمتع . هذا العالم المادي شكّل ملامح ديانات مدنيّة جديدة حيث تكون الموضة وحفلات الروك ومباريات كرة القدم وتوجهات شبابية شكلا يحقق اندماج الفرد في المجموعة حيث تقوم بين أفراد متذرّرين ومتشظّين فقدوا روابطهم الحميميّة بموجب الإطناب في الفردانيّة والانعزال المتواصل للذوات أشكالا جديدة من التّعبّد لا تقلّ في جوهرها قيمة ولا قدسيّة عن الأشكال الدينيّة القديمة، لكن ما يميّز عصرنا أن هذه الأشكال آلت في الأخير إلى نوع من النمطيّة والرتابة عندها أدركت الذوات المتشظّية والخاوية ما يحمله العالم من ثقل بموجب فراغه من المعنى. إن العقل الأداتي الذي يحاوره تايلور قد أنشأ من ناحية تعدّدا في مناهج البحث عن المعنى كما أنشأ تركيزه على القيم الماديّة إحساسا معمّما بغياب الدلالة هذا الإحساس الذي كان حكرا على النخبة بين 1920 /1930 سريعا ما انتشر بعد الحربين الكونيّتين الأولى والثانية خاصة وأصبح سمة عصرنا الحديث منذ ثورة 8196 تلك الثورة التي يمجّدها تايلور ويجعلها انعطافة هامة تعبّر عن القلق الملازم لعصرنا لأنها كشفت عن أقلاق الحداثة وعن غياب المعنى كقلق عميق يميّز عصرنا الحديث.

    يقيم تايلور أيضا حوارا جادّا مع التوجّه النيتشوي وورثته من فوكو إلى دريدا وغيرهم، وما يميّز هذا التوجه تضادّه مع الأنوار ولئن تفطّن أعلامه إلى غياب المعنى ورفض التّعالي كميزتين لعصرنا الحديث فإنه قد تحوّل إلى موقف حماسي ففي تأكيده على فكرة “موت الله” يلهب العواطف ويكشف عيوب الزمن الحديث دون قدرة على التحرر منه. يقيم تايلور هذه الحوارات في نصوصه القائمة أساسا على التّأكيد أن ما يميّز الحداثة بحق غياب المعنى والبحث عن الاكتمال والذي سمح بتعدديّة المسالك المؤدّية إليه فالغربيون بعكس أسلافهم لم يعد بإمكانهم القبول بطريق واحد موروث يربط الأرض بالسّماء  بل توجد في عالمنا اليوم مسالك متنوّعة ويقبل عصرنا بالتقلّب بين المسالك وتغييرها. إنه عصر قلق استطاع خلق بانوراما روحيّة وأخلاقية تسمح لأشكال عديدة بالتعايش معا بوصفها تجارب بحث عن المعنى.

    إن جوهر العلمانيّة إذا يقوم على قبول الاختلاف فلئن كان أسلافنا أشبه بقطع سكّر متشابهة في اللون والحجم والمذاق فإننا نحن المحدثون نمقت التشابه ونرفض التطابق ذلك أن المثال الأعلى الذي نتوجّه به قد انكسر وأصبحنا ندين بالفرديّة والفرادة والتّفرّد إذ

   “يوجد شكل للكائن البشري هو ما أنا عليه، يجب عليّ أن أعيش حياتي بهذه الطّريقة وليس بتقليد الآخرين. هذا ما يمنح أهميّة جديدة كل الجدّة للإخلاص الذي يجب أن يكون لي حيال ذاتي. فإذا كنت غير مخلص أخفق في حياتي وأخسر ما يمثّل بالنسبة لي الكائن الإنساني.”[2]

   هذا هو معنى الأصالة Authenticité والذي يستمدّ جذوره العميقة بحسب التأويل التايلوري من الرومنطيقيّة التي قامت على أساس رفض الموروث ومقت السّائد طلبا للفرادة والتميّز عبر الإنصات لصوت داخلي يوجّهنا نحو كمالنا الخاص، كما اعتقد روسو وهو ما سيرثه الخط التعبيري مع هردر ويطوّره.

    في هذا الفضاء التعدّدي الذي تملك فيه كل ذات تصوّرا للحياة وللاختيارات قائم بذاته وفي استقلال عن الآخرين يصل حد اللامبالاة تصبح العلمانيّة شرطا للوجود الإنساني وهنا ينفتح النص التايلوري على حوارات أخرى مع جون راولس وهابرماس ذلك أن هذا الأخير يعتقد أن مجتمعا تعدّديا ليبيراليّا يؤمن بما هو خاص يظل في حاجة لقيم مشتركة تجمع أفراده حتى يكون وجودهم الأخلاقي ممكنا لذلك توجد قاعدة عامّة مُلزمة إذ يجب أن يتمّ إفراغ الفضاء الاجتماعي من كل الإحالات الدينيّة والروحيّة وأن يظهر بشكل محايد ومقبول من قبل كل الأفراد. هذا ما يستوجب أن نُبْقِي كل ما يحيل إلى ما هو ديني وعقدي هناك في الفناء الخلفي فما ينبغي كشفه في الفضاء العام هو المشترك سعيا نحو توافقات دنيا تُبْقي التفاهم ممكنا. إن ما يظهر هو اللغة المشتركة والقيم المشتركة، أما الخصوصي كالعقدي والروحي فيظل قي فناء الوجود الاجتماعي. هذا ما يتطابق مع ما يسميه تايلور المعنى 1 من العلمانيّة[3] حيث يتم تحييد مؤسّسات الدولة عن الدين وإقامة فصل تام بين العمومي والخصوصي وهو ما أدّى تاريخيّا لخوصصة الدين. وقد انتهى كازانوفا[4]J. Casanova  إلى تبيّن نتائج عملية الخوصصة ذات الطّابع المفارقي والمناقض كليّا لما أراده أو تنبّأ به دعاة الفصل. إذ الأصل أن المدافعين عن العلمانيّة أرادوا أن يتمّ إفراغ الفضاء العام من الدّين وطرده نحو الفضاء الخاص على نحو نؤسس فيه لاستقلاليّة الدولة عن الكنيسة وتجفيف المؤسسات العموميّة من كل أثر ديني. وبعود الدّين للفناء الخلفي للمجتمع يحضر الأفراد كمواطنين أنداد متساوين في الحقوق والأعباء، ذلك ما كان يفترض أن يؤدّى حسب وعود أصحابه إلى تراجع الدين وضموره ليتحلّل في الأخير ثم يتلاشى تدريجيّا. بل أن المدافعين عن هذا التصوّر المتشدّد لم يتوانوا عن الدعوة لتعويضه بمرجعيّات دنيويّة حياديّة مقبولة عقليّا، إذ يشير مارسال غوشييه  Marcel Gauchet في كتابة “الدين في الديمقراطية” إلى أن المفكّر الفرنسي لورونوفيي Le renouvier  كان جادّا عندما طرح مسألة هامّة سيكون لها وقع خاص للمرور نحو زمن علماني، إذ أكّد الحاجة الماسّة لضمان العلمانيّة انطلاقا من تأسيس أخلاق عامّة هي بالأساس أخلاق علمانيّة نستعيض بها عن الأخلاق الدينيّة مستعيدا بذلك المشروع الكانطي الذي يجعل من الاستقلال الذاتي للفرد شرطا للأخلاقيّة التي يكون الإنسان مشرّعا لها وملتزما بها في آن. كما على الدّولة أن تنهض بالعبء التّربوي انطلاقا من المدرسة التي تكون برامجها ومناهجها من وضع الدولة ذاتها وهو ما حافظت عليه الحضارة إلى اليوم. إن عموميّة التعليم وإفراغه من كل مضمون ديني أو إحالة طائفيّة لمجموعة معيّنة يضمن في الأخير عقيدة علمانيّة نقيّة من كل ما يحيل إلى ما هو خصوصي.[5] قد لا يكون رونوفييه أراد ذلك لكن ذلك ما انتهت إليه الأمور فعلا، إذ تخصخص الدّين وعوض أن تتحقّق نبوءة العلمانيين القائلة بتلاشي الدين تدريجيّا حدث العكس تماما، إذ تمكّن هذا الأخير من إعادة ترتيب ذاته من جديد ليعود بقوّة للفضاء العمومي في شكل مجتمع مدني منظّم يقوم بأعباء تركتها الدّولة ولم تستطع أن تنهض بها.[6]

   إن عود الدّين اليوم دفع أهم رموز الفلسفة المعاصرة حتّى أولئك الذين يجاهرون بإلحادهم  المطلق للدين مثل بيتر برغر وهابرماس إلى إعادة النظر في تصوّراتهم السابقة ذات الطابع الحاد كما وفّر للمفكرين المتدينين إمكانية التسلّل لحوارات وفضاءات ظلت موصودة أمامهم ليعيدوا طرح المسألة الدينيّة ونحن نعتقد أن تايلور من هذا الرّهط الثاني الذي يستغل العود الكاسح والعنيف للديني حجّة على “أصالة الدين”. لقد أدى هذا الواقع المعاند لنبوءات الحداثة والمناقض للمسار الذي اعتقد فيه المدافعين عن التّحديث إلى مراجعة جذريّة لمقولاتها، بل يذهب البعض إلى أننا يجب أن نعترف بجرأة بزمن مابعد علماني، ولعل هذا المأزق الذي يعيشه الفكر الغربي هو ما دفع هابرماس المدافع بشراسة عن مشروع الحداثة وأحد أهم رموز العلمانيّة يتراجع قليلا عن مواقفه السّابقة حتى وإن حاول العديد من قارئيه التقليل من حدّة هذا الحدث. إن تايلور هو واحد من الذين يستغلّون هذا التراجع لفتح حوار جديّ معه، فالدّارسون والباحثون في فكر هابرماس يُجْمِعون أن الكتابات الأولى له لم تعن بالدّين ولا أولته حظا من الاهتمام الذي يستحق، ذلك أنه في أهمّ مؤلّفاته التي يشير إليها تايلور عديد المرّات وأكّد استفادته منها[1] واعتبرها مرجعا يستحق الثناء حول مسألة الفضاء العمومي لم يُفرد هابرماس للمسألة الدينيّة مكانة ولا كانت أصلا من ضمن مشمولات المشاكل التي تناولها، بل لعلّنا لا نجانب الصّواب إن قلنا أنه ظل يتحاشاها ربما لكونه وريث المدرسة الأنواريّة التي ظلت تردّد أن “موت الله” حدث قريب وأن أفول الدين أصبح مسألة وقت لا أكثر، لكن هذا العود المفاجئ للديني في شكل هويّات جماعية تطالب بالاعتراف وفي شكل حركات سياسية عنيفة ذات توجّه عنيف وإرهابي لم يرج فقط المجتمعات العربية الإسلامية بل استباح مرّات عديدة الغرب وضرب بعنفيّة شديدة في عقر داره ولعل أحداث نيويورك ومدريد وباريس ولندن والقائمة تتسع لتشمل المزيد خير شاهد على ذلك، كما تشهد مجتمعات عديدة عودة صراع ديني اعتقدت أنها تجاوزته من الهند إلى الصين وبنغلاديش وباكستان ومصر والعراق وتونس وغيرها، إن كل هذه الإشارات تؤكّد حاجتنا لإعادة تفكّر الدين ثانية.

    إن ما يميّز هذا الزمن العولمي بحق أن كل ما فيه قد تعولم ولم يخرج العنف الديني والطائفي والمذهبي عن هذا السياق، أننا نشهد نمو حركات عابرة للهويات الوطنية والقوميّة تأخذ بمعنى ما طابعا أمميّا، ولأن كل غلوّ ينشئ غلوا مواجها له ومكافئا له من جهة القوّة فإننا نشهد في زمننا نموّا متزايدا للعداء الديني والمذهبي والطائفي. في السياق ذاته تشكّلت في بلدان عدّة حركات سياسية تأخذ من الدّين مرجعيّتها وتشهد هذه الحركات نموّا متواصلا فقد استطاعت في زمن وجيز أن تصبح قوّة سياسية في بلدانها وأن تشارك في الحكم ضمن الحكومات والبرلمانات واضطرّت أحزاب عريقة تدين بالنظام العلماني  لبيرالية ويسارية أن تدخل في توافقات وتحالفات مع تلك الأحزاب. فهل هذا يؤشّر لانتقام الديني من العلماني؟ هل عصرنا يعيش لعنة جديدة هي لعنة الديني الذي كنّا ننتظر بواره وموته ففاجأنا بعود كاسح؟

     قد نختلف في تحديد أسباب عودة الدّيني وغلوّه حينا ونضاليّته حينا آخر فالبعض يستند إلى الجهل والتخلّف وآخرون يستندون للتفسير المادّي فيجدون في الفقر والتهميش الاجتماعي سببا عميقا لتفسير الظاهرة ويعتقد آخرون في عوامل نفسيّة كالإقصاء والبحث عن سبل لتحقيق الذّات ويجتهد البعض لإدخال وسائط التواصل الحديثة التي عوّضت الفعل التواصلي كتفاعل بالتواصل كبث متواصل يعمل على طرق العقول وتوجيهها. قد نختلف في تحديد الأسباب وفي موقفنا العقلي من الظاهرة لكن ما لا يمكن أن نختلف فيه أن عودة الديني حقيقة مقلقة للعقل الحديث، وهي لا تخص المجتمعات العربية الإسلاميّة فقط بل كل المجتمعات بما في ذلك الغرب هذا ربّما ما دفع إلى استعادة التفكير في الديني وعلاقته بالعلماني. لا يخرج هابرماس عن هذا السّياق خاصة منذ حواره الشهير مع جوزيف راتسنغر (البابا ينيدكت XVI)[7] وهذا ربما ما جعل إدواردو منديتا وجوناثان فانانتورين يؤكّدان في تقديمهما لكتاب “قوة الدين في المجال العام”[8] أن

   “هابرماس (ظل) يؤكّد على نحو متزايد في اعتراف منه بحقيقة أن الدّين لم يذبل تحت ضغوط التحديث، على أهميّة تطوير موقف “مابعد علماني”، ومدخل يأخذ في الحسبان الحيويّة العالميّة المتواصلة للدين ويركّز على أهمية “ترجمة” الاستبصارات الأخلاقيّة التي أتت بها التقاليد الدّينية مع الاهتمام بدمجها في منظور فلسفي “مابعد ميتافيزيقي”. ينظر الموقف مابعد العلماني إلى المصادر الدينيّة للمعنى والحافز بوصفها رديفا مساعدا بل ولا غنى عنه في مواجهة قوى الرأسماليّة العولميّة، مع تأكيده على الفرق الحاسم بين الإيمان والمعرفة. ويخلص هابرماس إلى أن الممارسات والمنظورات الدينيّة تبقى تمثّل مصادر التضامن والاحترام المتبادل معا”[9]

    إن هابرماس ينبّهنا لمفارقة تشق الواقع الإنساني المعاصر ذلك أننا من ناحية مجبرون على الاعتراف بعودة الدّيني وإعادة تفكّره لكن علينا من ناحية أخرى أن نُبْقي على حالة الفصل بين العمومي والخصوصي وهو يعوّل في بناء هذا المشروع المابعد علماني على مسوّغات راولس التي ذكرناها سابقا فراولس يدرك :

   “إن علمنة الدولة ليست ذاتها علمنة المجتمع. وهو ما يفسّر طابع التّناقض الذي ظل يغذّي إلى يومنا هذا النقمة الكامنة داخل الدّوائر الدينيّة بصدد تبرير المبادئ الدستوريّة “اعتمادا على العقل المحض”[10]   

   إن هذا المأزق نتاج لما تدّعيه العلمانيّة:

    “مادامت الجماعات الدينيّة تلعب دورا حيويّا في المجتمع المدني وفي المجال العام، فإن السياسة التداوليّة تمثّل بالقدر نفسه نتاجا للاستخدام الشّعبي للعقل من قبل المواطنين المتديّنين ومن قبل المواطنين غير المتديّنين”[11]

   إن هذا المأزق الذي تعيشه المجتمعات الغربية اليوم لا يمكن حلّه حسب هابرماس إلا بـ”توحيد اللغة” داخل الفضاء العام وذلك عبر إفراغه من كل إحالة دينيّة أو روحيّة. هذا ما يجعل من الحل الذي كان قد اقترحه راولس هو الحل الأكثر قبولا من أجل الحفاظ على النظام الديمقراطي وذلك بحفظ المجال العمومي وجعله محايدا وهذا ما يقتضي تساوي المواطنين وشفافيّتهم من أجل إرساء حوار عقلاني والوصول إلى توافقات وتفاهمات. مادمنا قد قررنا أن نستعيض عن القوة المادية في حل مشاكلنا وأن نُبْقِي معيار الصلاحية حياديّا وأن نستند إلى الحجة الأقوى علينا أن نتكلّم لغة محايدة يقبلها الجميع فـ:

    “العنصر الوحيد الذي يعلو على السياسة الإداريّة وسياسة القوّة ذات الشكل الدّستوري ينبثق من الاستخدام الفوضوي للحريات التواصليّة الذي يديم حيويّة المد المتدفّق من التّيار المعلوماتي للتواصل الشّعبي من مستويات أدنى. يمكن من خلال هذه القنوات فقط للجماعات الدينيّة الحيويّة وغير الأصوليّة أن تصبح قوّة تحوّل في مركز المجتمع الديمقراطي المدني، ويزداد هذا الأمر تأكيدا عندما تثير الاحتكاكات بين الأصوات الدينيّة والعلمانيّة خلافات هامة بصدد القضايا المعياريّة وتحفّز بالتالي وعيا بأهمّيتها.”[12]

   إن المجال العمومي فضاء مشترك يجب أن نقيم فيه حوارا معقولا ومقبولا من الجميع وهو ما يشترط كما أكدنا لغة محايدة وشفافة خالية من كل ما هو خصوصي لغة منزوعة من جذورها الدينية وخالية من كل رموز أو إحالات غير مفهومة من الجميع أو تحمل ترجمتها تشويشا. إن ما يُقْبَل في الفضاء العمومي لغة عمومية تُتَرْجَم لقواعد عامة ويفهما المجتمع برمّته، في الأخير نحن أمام خطاب أنواري يعتقد أن لغة العقل هي الحقيقة بالولوج إلى الفضاء العمومي أما اللغة الدينيّة فتبقى في الفناء. إن الموقف الهابرماسي لا يقف ضدا للدين بل يطالبه باستعمال لغة يفهمها الجميع من أجل أن يكف الدين عن طابعه الجماعاتي وهو ما يخيف فعلا هابرماس، لأننا في مجتمع فيه متديّنين وغير متديّنين فـ

   “بدلا من إخضاع كل المواطنين لفرض تنقية تعليقاتهم وآرائهم العامة من البلاغة الدينيّة، لابد من تأسيس مرشّح دستوري  بين التواصل غير الرّسمي في الميدان الشّعبي والتداولات الرسميّة للهيئات السياسيّة التي تستجيب للقرارات الملزمة على نحو جماعي. يحقق هذا المقترح الهدف الليبيرالي في ضمان أن كل القرارات القابلة للفرض قانونيّا والمقرّة على نحو عام يمكن أن تصاغ وتبرّر بلغة مقبولة من الجميع من دون الحاجة إلى تقييد التنوّع التعدّدي للأصوات الشعبيّة في مصدرها الأول”[13]

   إن ما يُخيف هابرماس ويخيف شريحة واسعة من المفكّرين الذين يدركون مخاطر الحركات الدينيّة القائمة على التعصب والدغمائيّة هو قدرة الدّين على توجيه الأخلاق الفرديّة ولكن أيضا قدرته على فرض توجهات تحدد القيم السلوكيّة وتحوّل الأفراد المتذرين إلى حشود هائجة فما هو ردّ تايلور على هذا التصوّر؟

   في ردّه على موقف هابرماس يعمد تايلور إلى تعرية أساسيه والنبش عميقا لتحديد جذور ذينك الأُسَّين وهذا ما يقوده إلى إعادة تعريف العلمانيّة كحاجة ملحّة لإعادة تأصيل الدين بوصفه خيارا روحيّا من بين خيارات أخرى في المجتمع الغربي الحديث. يقوم موقف هابرماس بحسب الفيلسوف الكندي على مبدأين متداخلين يعضد الواحد منهما الآخر ويعيد إنتاجه، ويقوم هذين المبدأين على تمييز جذري بين العقل العلماني والعقل الدّيني، هذا التمييز الجذري الذي يؤكّده كل من هابرماس وراولس ولا غرابة في ذلك لأن هذا التأسيس يعود إلى كانط تحديدا وللعقل الأنواري عموما. دعنا الآن نفصّل القول ذلك أنه يقيم ضرورة تمييزين نوعيين فهو أولا يقيم تميزا معرفيّا، إذ يعتقد هذا الموقف أن الفكر المتشكِّل دينيّا يكون أقل حظوة وقيمة من ذلك المتشكّل علمانيّا، وعوامل التمييز هنا تكون الوضوح والتناسق والبرهنة. إن عقلا علمانيّا يمكنه أن يؤسس معرفة أشد وضوحا وأكثر أقناعا من تلك التي يؤسسها العقل الديني. هذا التمييز الأول ينبع من تمييز سياسي يعاونه ويقوّيه إذ يرى أصحاب هذا الموقف أن الدّين وهم وضلالة تشكل خطرا على الفضاء العمومي وهو ما يعيد بدوره إنتاج المبدأ الأول إذ باعتبار الدين زيف وطريقة تفكير خاطئة يجب استبدالها بطريقة تفكير قويمة وسليمة تقوم على العقل وحده وفقا للعبارة الكانطيّة.

   جنيالوجيّا يعود هذا الموقف إلى ما يسميه تايلور في عبارة لا تخلو من تهكّم “أسطورة الأنوار”. إن أشنع خطأ وقعت فيه هذه الأطروحة الاعتقاد أن “مجرّد العقل” بإمكانه حل جلّ الإشكالات السياسية والأخلاقية وهو ما يعني ضرورة أن الدين لابد أن يكون موضوعا خلافيّا أو على الأقل لا يقبل به الجميع. هذا ما انتهى إلى موقف عدائي تجاه الدّين لا يًعْتَقَد في دونيّته فحسب بل وفي كونه منبع كل الشرور في العالم، وفي سبيل درء المجتمع الديمقراطي من تلك الأدران وإخماد فتيل الخلاف والصراع طلبا للانسجام والتفاهم اتّجه المسار نحو إبعاد الدين من الفضاء العمومي وفصله عن الدّولة من اجل فك العلاقة نهائيّا بين مجال الروح ومجال الحكم فليس للحاكم حق التدخل في أرواح مواطنيه لأن اختياره كان لتسيير حياتهم وحماية خيراتهم كما ادعى لوك ذات يوم.

   إن هذا الموقف برمّته يحتاج لإعادة نظر وذلك يتم أساسا عبر إعادة تعريف العلمانية على نحو “جذري” إن نحن استعملنا عنوان محاضرة لتايلور،[14] وتعريف العلمانيّة يسمح أساسا بفهم أشمل للمسألة فمطلوبها منذ البداية لم يكن إقصاء الدين بناء على نظرة دونيّة إليه  بل أن المطلب مختلف كليّا إذ كانت الغاية تتجه إلى إعادة ترتيب المجتمع الغربي.[15] في التجربة الأمريكية وهي الأكثر سلاسة ظل المجتمع برمّته مجتمعا “في رعاية الرب” رغم العلمنة المتواصلة للمجتمع والدّولة، لقد قامت العلمانيّة كحل لإشكالية الاختلاف الطائفي والديني وكان مطلوب الطوائف، تحديدا الكاثوليك لكن أيضا اليهود اللذين عانيا من نظرة ارتابية إليهما إذ ظلت بقيّة الطوائف غير واثقة في قبولهما واقع النظام الديمقراطي وبالتالي غير قادرين على الانصهار في المجتمع وقبول التعدديّة. وهذا ما يعني أن الدّولة لم تكن عادلة في تعاملها مع الطوائف والأديان، لذلك اكتسى النضال من أجل العلمانيّة طابع النضال من أجل الاعتراف بالتعدديّة صلب المجتمع الأمريكي. ليست الغاية إذا إبعاد الدين عن الحياة العامة لذلك ظل الدين حاضرا في وجدان المجتمع الأمريكي وفي دساتيره. أما في فرنسا المثال الأشد حديّة فقد كان المسار مختلفا لكن النتيجة ذاتها، لقد قامت الثورة من أجل إقامة المساواة بين الأفراد والكف عن ممارسة الإكراه في مجال الروح واحترام المجموعات الروحيّة والإقرار بحقّها في الممارسة السياسيّة. تمثّل هذه المبادئ العناوين الكبرى للثورة الفرنسيّة التي تم التعبير عنها في الشعار التالي “حريّة، أخوّة، مساواة” وهي التي تعبّر بحسب تايلور عن جوهر العلمانيّة ذاتها، إذ:

   “1) يجب أن لا يُمارس الإكراه في ميدان الدين أو العقيدة الأساسيّة. هذا هو ما يُعَرَّف أنه الحريّة الدينيّة التي تحتوي بالطبع حريّة عدم الإيمان. وهذا ما يُوصف أيضا بأنه “الممارسة الحرّة” للدين … 2) لابد من وجود مساواة بين الناس من مختلف العقائد والقناعات الأساسيّة، ولا يمكن لوجهة نظر دينيّة أو نظرة للعالم (دينيّة أو غير مكترثة بالدين) أن تتمتّع بمكانة مُمَيَّزَة. ناهيك عن اعتمادها رأيا رسميّا للدولة. 3) لا بد للعوائل الروحيّة أن تجد أذانا صاغية.”[16]   

   بهذا المعنى التأسيسي تصبح العلمانيّة حلا للمجتمع الديمقراطي التعدّدي، إذ تشترط الديمقراطيّة تساوي المواطنين في الحظوة والحريّة وحقهم في الممارسة السياسية ، لأن المجتمع الديمقراطي يفتح لأفراده منافذ مباشرة  Accès directesلاختيار ما يريدون وهو ما جعله محكوما بشروط تحقّقه ذاتها أن يتوجّه أكثر فأكثر صوب التنوّع والاختلاف ورغم ذلك عليه أن يُبْقِي وحدة هويّته السياسيّة. إن هذا المشكل المفارقي للنظام الديمقراطي  ينبع من طبيعته. إذ يتّجه الأفراد إلى التنوّع والتعدّد واختار سبل جديدة كل الجدّة في الحياة والتوجّه قاطعين مع كل نموذج خارجي أكان المجتمع أو الأسلاف أو نموذج متعال ومتّجهين أكثر فأكثر إلى الداخل أو ما أسميناه اقتفاء لأثر الفكر الرومنطيقي “الإنصات للصوت الداخلي” وهو أساس إيتيقا الأصالة. في المقابل على الأفراد ولكي يظلوا مجتمعا واحدا أن يتقاسموا قيما مشتركة ومبادئ مقبولة من الجميع وهو ما يسميه تايلور “الخلفيّة  Backgroundهذا المفهوم الذي يذكّرنا بحدّة بتأثيرات فيتغنشتاين وسورل وهايدغير ومارلوبونتي في فلسفة تايلور.

  في هذا الفضاء التعدّدي يكون واجب الدولة أن تحتفظ بمسافة متساوية من الأفراد وأن لا تزجّ بنفسها في المسائل الروحيّة دون أن يعني ذلك طبعا خلوّها تماما مما هو روحي يقول تايلور:

  “في الواقع إن الغاية من حياديّة الدولة تحديدا تجنّب تفضيل أو عدم تفضيل ليس فقط المواقف الدينيّة ولكن أي موقف أساسي سواء أكان دينيا أو غير دينيّ. لا يمكن تفضيل المسيحيّة على الإسلام، ولكن أيضا لا يمكن تفضيل الدين على عدم الإيمان بالدين أو العكس.”[17]  

  إن عيب عدد هام من المفكّرين ومن بينهم هابرماس، أنهم وبحسب اعتقاد تايلور، لم يفهموا جوهر العلمانيّة لذلك فإن إعادة تعريفها يضمن مكانة للدين في المجتمعات الغربية الحديثة، فالخيار في مجتمع ديمقراطي تعدّدي حرّ وهو ما سمح لأعداد لا يمكن إنكار تزايدها بهجر الدّين والبحث عن الامتلاء أو الاكتمال  Fulnessوتلمّس المعنى في إطار محايث لكن ذلك ليس خارج المسيحيّة كما يعتقون فمبادئ حقوق الإنسان والتعاون بين البشر والمنفعة كلّها تتصل بروح مسيحي. إلى جانب هؤلاء آثر عدد من الغربيين التوجّه نحو الروحانيّة الشرقية ولكن هذا يعبّر أيضا بحسب تايلور عن أقلاق ملازمة للحداثة تؤكّد أن الدين يظل رغبة تباطننا. عدد آخر من الغربيين ما زال يعتقد أن الاكتمال يشترط التعالي ويربطون ذلك بالمسيحيّة. هذا ما يعني أن مجتمعا تعدّديّا يتّسع لبانوراما روحيّة لا ينبغي أن يقيم علاقة تضاد مع الدّين بل على العكس يجب أن يظل هذا الأخير إمكانا روحيّا من بين إمكانات أخرى لا يقلّ عنها قيمة لكنه لا يجب أن يدّعي أفضليّته. هذا ما يؤشّر حسب اعتقادنا لتأثير علماني في الدين الذي أدرك أن رهان بقائه يظل موصولا بقدرته على التلاؤم مع الواقع الجديد الذي شكّلته الحداثة. إن الخطأ الجوهري هو الاعتقاد أن العلمانيّة ضد للدين والحال أنها فضاء يعدّل الديني ويتعدّل به:

   “الأنظمة العلمانية التي تستحقّ هذا الاسم في الديمقراطيّة المعاصرة يجب ألا تُفْهَم ابتداء على أساس أنها متاريس ضد الدين لكن بوصفها محاولات حسنة النيّة لضمان الأهداف الأساسيّة  الثلاث (أو الأربعة)”[18]

   إن ما يعاند فيه تايلور هو تجذّر الدين لا في العاطفة البشريّة فقط بل في المجتمع الغربي ذاته، لكن في المقابل على الدّين أن يقبل ما سميّناه التغيّر الدّاخلي العميق، عليه أن يدرك أنه لم يعد بداهة مثلما كان قبل 1700 ميلاديّة بل أصبح خيارا من بين خيارات أخرى. في المقابل على العقل العلماني أن يقبل بالدين في الفضاء العمومي فما يرفضه تايلور في ردّه على هابرماس وغيره هو التمييز الحاد بين الدّيني والعلماني والحال أن البحث الجنيالوجي يؤكّد وحدة الجذر فالعلمانيّة نمت أولا في تربة الدين وأينعت هناك. إن المطالبة بتوحيد لغة الخطاب العمومي التي تمتد من راولس إلى هابرماس تجد حجّتها في الاعتقاد أن اللغة الخصوصيّة للدين غير واضحة ولا تلقى القبول من قبل الجميع. إن هذه الحجة ذاتها ضعيفة وتقبل المراجعة إذ لا توجد أطروحة علمانيّة واضحة عند الجميع ولا هي مقبولة من قبل الجميع. إن مطالبة الدين بالتحدّث بلغة علمانيّة مشتركة تخفي بحسب اعتقاد تايلور نيّة خبيثة، فحين نلغي عن الدين خصوصيّته أفقدناه جوهره وهو ما تريده الأطروحات الاختزالية المنحدرة من فلسفة الأنوار.

   إن العلمانيّة شرط ضروري لمجتمع ديمقراطي تعدّدي وهذا لا مراء فيه، فإذا أذنت الحداثة الغربيّة بانبثاق إيتيقا الأصالة التي تجسّد بحق فضاء “السوبرنوفا” Supernova حيث يكون للأفراد خيارات متعدّدة تعبّر عن هويّاتهم الفرديّة، ولأن كل خيار للخير الذي يختاره الفرد يظل محكوما بخلفيّة فإن تنوّع الأفراد وتعدد اختياراتهم يبقى دوما ضمن هويّة جماعيّة هي شرط وجود الأفراد ذاتهم ذلك أن الأنا المعزول Bufferd self Le moi isolée  والمتحرّر من كل انتماء اجتماعي مجرّد تجريد عقلي لا وجود له في واقع النّاس. في هذا الفضاء الذي تكون فيه الـ”تصوّرات مختلفة حول الحياة التي ينبغي عيشها.”[19] لنا أن نسأل عن العلمانّية بما هي تصوّر يسمح بتنظيم الوجود الاجتماعي التعدّدي  فـ”التحدّي الخاص بالمجتمعات المعاصرة يكمن في الفعل على نحو يصل الجميع إلى المبادئ الأساسيّة للمجموعة السياسيّة بوصفها شرعيّة انطلاقا من رؤاهم الخاصّة.”[20] ما يبقى هو حاجتنا الدائمة للتفريق بين الغايات والوسائل إذ يبدو أن الخلط بينهما هو ما قاد فعلا إلى أخطاء وانحرافات. إذ تقوم اللائكيّة بحسب ما يشير تايلور على مبدأين أساسيين يتعلّق الأول بالمساواة، ففي مجتمع ديمقراطي يطالب الأفراد بالتساوي في الاحترام ، ثانيا حريّة الضمير ففي مجتمع تعدّدي يكون لكل فرد سلطته الخاصة على معتقداته وأفكاره تعلّق الأمر بالإيمان أو عدم الإيمان. مقابل هذين المبدأين نجد وسيلتين لهما وظيفة إجرائيّة إذ يجب أولا فصل الكنيسة عن الدّولة حتى لا يكون لدين أو لطائفة حظوة أو علويّة على غيرها. أما الإجراء الثاني فيتمثّل في حياد الدولة التي يجب عليها أن تظل على نفس المسافة من جميع الأفراد بغض النظر عن توجهاتهم الروحية والأخلاقية والميتافيزيقيّة. إن الخلط بين الأهداف وبين الوسائل هو منبع الأقلاق التي تسكن الحداثة، ولعلّ الخطأ يكمن في إعلاء الوسائل على الغايات، يقول تايلور في محاولة لتشريح أزمة المجتمعات الغربية الحديثة:

    إذا كان بعض الكتّاب قد رأوا عن صدق أن الأنظمة اللائكيّة تقوم على توازن هش بين مبادئ جليّة، فإننا نعتقد أن غايات ووسائل اللائكيّة لم يتم التمييز بينهما بوضوح كاف في الأعمال الجامعيّة الملائمة في علوم الاجتماع وفي القانون والفلسفة.”[21]  

   إن ما يميّز جل الحوارات والمواقف هو إعلاء الوسائل واعتبار مقولة الفصل علامة هادية على جودة العلمانية، والإقرار أن حياد الدولة ومؤسساتها والشخوص القائمين عليها ضرورة لإقامة نظام لائكي. إن الاختلاف في مواقف أنظمة علمانيّة حول مشكلات كالحجاب وتديّن المسؤولين السياسيين والعلامات التي يحملها موظفو الدولة  تطرح إشكاليات عميقة في النظام الديمقراطي التعدّدي ولا حل لذلك حسب تايلور إلا بإعلاء الغايات رغم وعيه بصعوبة المهمّة

     “صفوة القول يجب أن نعترف بأن الغايات والأشكال الإجرائيّة لا يمكن أن تتناغم في بعض الوضعيّات بشكل مثالي يجب أن نبحث عن توافقات تسمح بتلاؤم أقصى بين هذين المثالين.”[22]  

   لعل هذا القلق يباطن الحداثة ويظل ميسم المجتمع الديمقراطي التعدّدي وداءه الدّفين في آن. ولا براء لها منه إلا باستعادة جذوة الأصالة، ذلك أن أفرادا يتوجّهون للاكتمال يطالبون بحقّهم في أخذ المسالك التي يرونها مناسبة والتي يعتقدون أنها تعطي لحياتهم معنى. من هنا يكون إعادة تجذير الدين في يومنا فما افتقده الغرب بحق في عصر علماني الوعي بالحاجة للعقدي. إن من يعتقد أن هذا العصر عصر إلحادي يتعامى عن مطالبة الأفراد والجماعات بحقهم في التعبير عن عقائدهم وتأكيد ارتباطهم بالمتعالي، وقد يسلكون حينا نهجا نضاليا مسالما لكنهم قد يعبّرون بعنفية شديدة متمسكين بخصوصيتهم. إن زمننا ينوس بين أقلاق تهزّه من الداخل ولعل القلة من أدركوا أنه زمن مترجرج فليس الخيار فيه إما إلحاد أو إيمان بل توجد بين الخيارين طيف حيث اختار البعض أن يقطنوا الأعالي، هناك في نقطة تماس بين الإلحاد والإيمان حيث الرياح العاتية التي تأخذنا حينا صوب هذا وأحيانا صوب ذاك. من بين أهم من سكنوا هذا الموقع المتقلقل وليام دجيمس في تجربة ثريّة تعرّي ما يسكن الزمن العلماني من قلق[23].

الهوامش


[1]


[1] Saba Mahmood . Can Secularism  be ather-wise (ACritique of Charles Taylor’s A secular Age) Cambridge. Havard university ]ress. 2010.

[2] Charles Taylor : Le malaise de la modernité. Trad. Charlotte Melançon. Les éditions du CERF. 1994  . : Op cit p 44

[3] Charles Taylor  : L’ Age séculier. Trad. Par Patrick Savidan.Ed.Seuil 2011.                                                                

[4] خوسييه كازانوفا: الأديان العامة في العالم الحديث ترجمة قسم اللغات والترجمة في جامعة البلمند، مراجعة بولس وهبة. المنظمة العربية للترجمة. بيروت ط1 . 2005.

[5]  مارسيل غوشييه: الدين في الديمقراطية. ترجمة شفيق نصر المنظمة العربية للترجمة بيروت. لبنان. ط1. 2007. ص166-167

[6]  أنظر كازانوفا: الأديان العامة في العالم الحديث.

[7]  جدلية العلمنة والدين حوار بين هابرماس و جوزيف راتسنغر. ترجمة حميد لشهب. 2013

[8]  قوة الدين في المجال العام ترجمة نديم رحيم. دار التنوير للطباعة والنشر. لبنان2013.

[9]  المصدر السابق ص 25

[10]  المصدر السابق ص 56 يستعمل نديم رحيم عبارة “العقل وحده” التي آثرنا استبدالها بعبارة “العقل المحض” تثبيتا للعلاقة بين راولس وكانط

[11]  نفس المصدر ونفس الصفحة. وقد آثرنا دوما إدخال تعديلات على الترجمة.

[12]  المصدر السابق ص 58.

[13]  المصدر السابق ص 59 آثرنا ذكر الشاهد كاملا لدقّته ووضوحه.

[14]  لماذا نحتاج إلى تعريف جذري للعلمانية؟ هو عنوان محاضرة تايلور في لقاء “قوة الدين في المجال العام” .

[15]  تشارلز تايلور: المتخيلات الاجتماعية الحديثة. ترجمة الحارث النبهان المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات.2015.

[16]  المصدر السابق ص66.

[17]  المصدر السابق ص70.

[18]  يقصد الأخوة والمساواة والحريّة والاحترام المتبادل بين الخيارات الروحية الدينيّة وغير الدينيّة (أنظر ص66) المصدر السابق ص99.

[19] J.  Maclure Ch. Taylor : Laïcité et liberté de conscience. ed. La Découverte.2010 . P19

[20] Ibid. p 20.

[21] Ibid. p 33.

[22] Ibid. p 35.

[23] Charles Taylor: La diversité de l’expérience religieuse aujourd’hui. Montréal. Boréal. 2003.

Exit mobile version