COUUA

الفلسفة والسياسة: جاك رانسيير

ينطلق رانسيير من فرضية تقول إن السياسة، كما فهمها الإغريق انطلاقاً من تعريف أرسطو للإنسان ككائن ناطق، نشأت من المفارقة بين الذين سُمح لهم الكلام بوصفه تمييزاً بين العدل والظلم، ومن لم يُسمح لهم بالتعبير عن رأيهم ولم يُسمع صوتهم، والذين شكلوا بغالبيتهم “الشعب” الذي هو في آنٍ واحد “لا شيء وكل شيء”، ولئن كان “الشعب” هو ما يجعل المجتمع ممكناً سياسياً، فإن السياسة في جوهرها، ليست توافقاً بل نزاعاً حول من يحق له الكلام ومن يُسمَع كلامه، وقد نشأت من الاختلاف أو سوء الفهم، أي من النزاع حول توزيع الخيرات المشتركة بين مختلف مكوّنات المجتمع، حين سُمع صوت الذين لم يُعترف بهم ضمن الكيان الاجتماعي، فطالبوا بحقهم المسلوب وكشفوا عن انتهاك مبدأ المساواة الذي تقوم عليه كل جماعة ديمقراطية.

عندها أصبح المجتمع ساحة مواجهة بين عالمين: العالم القائم الذي يحتكر الامتيازات، والعالم الممكن الذي يتجسد في المطالبة بالمساواة من قِبل المستبعدين والمهمشين. في المقابل، يوزع “النظام الشرطي” الأدوار ويحدد من يرى ومن يتكلم ويسمع صوته في المدينة، مقصياً الاختلاف باسم النظام والانسجام، بعبارة أخرى، يقول جاك رانسيير إن السياسة ما هي إلا “مأسسة النزاع” بين بعض فئات المجتمع، وإن الفلسفة السياسية ظهرت تاريخياً لتعيد تأسيس المجتمع الفلسفي في مواجهة هذا المجتمع النزاعي الذي يُهمل المستبعَدين أو”الذين لم يكن لهم نصيب” في تركيبة المجتمع. تسعى الفلسفة السياسية إذاً إلى كشف التمثّلات الزائفة التي يقوم عليها ما يسميه “النظام الشرطي”، أي النظام الذي يوزّع المواقع والحقوق بطريقة تُقصي بعض الفئات، وتتمثل وظيفتها في الإصغاء إلى المهمَّشين، ثم في السعي إلى تغيير هذا “النظام الشرطي” بما يسمح بإعادة دمجهم في المدينة، فهي تبحث عن “الكذب الأصلي” الكامن في أساس السياسة، لكنها تنشد في الوقت عينه استعادة الانسجام بين الواقع والنظام، أي وحدة الذات والجماعة.

يحدد جاك رانسيير ثلاث صور للفلسفة السياسية كما تجسدت عبر التاريخ: تعود الصورة الأولى إلى السياسة في أعلى مستويات تنظيمها وشكلها الأكثر أصالة (archi-politique) كما تبدت في النموذج المثالي الأفلاطوني، والتي كانت غايتها بناء المجتمع وتعداد مكوناته ووظائفه على نحو دقيق، مع تحديد موضع كل فرد في النظام الاجتماعي، أما الصورة الثانية فهي ترتبط بـ”السياسة الزائفة والموازية”(para-politique) التي تحيل إلى شكل من أشكال السلطة أو التنظيم الاجتماعي الذي يشبه السياسة، لكنه لا يمارس السياسة بالمعنى الديمقراطي الحقيقي للكلمة، أي إن “السياسة الزائفة والموازية” تقوم على تنظيم المجتمع أو فرض النظام أو ضبط الاختلافات والنزاعات بطريقة تبدو سياسية، لكنها في الحقيقة تستبعد المشاركة الفعلية والمساواة بين المواطنين، بحيث تخالف هذه السياسة جوهرها القائم على حرية الفعل والمساواة والمشاركة. والصورة الثالثة هي “ما بعد السياسة” (méta-politique)، التي تقوم على فضح زيف السياسة، أي كشف الفجوة بين الواقع وما يقوم عليه “النظام الشرطي”، وإظهار المصالح الخفية التي تتوارى خلف الخطابات السياسية الزائفة.

يمثل الماركسيون في نظر جاك رانسيير نموذجاً لهذه “الميتا-سياسة”، فقد أشاروا في أدبياتهم إلى وجود طبقة عاملة منسيّة في توزيع الخيرات المشتركة، لكنهم في الوقت عينه حولوا المجتمع إلى بناء نظري خالٍ من الطبقات فعلياً مبينين زيف مفهوم الطبقة الاجتماعية عبر إظهار أن المجتمع الماركسي لا يعرف فعلاً وجود طبقات، إذ ينال فيه جميع الأفراد، بمن فيهم الذين لا نصيب لهم، حصتهم من الخيرات المشتركة. هكذا أصبحت “ما بعد السياسة” نوعاً من إدانة للكذب الاجتماعي الذي تتغذى منه الجماعات والنزاعات.

أما الديمقراطية فيقدمها رانسيير لا بوصفها نظاماً مثالياً، بل شرط إمكان السياسة نفسها، فلا سياسة من دون ديمقراطية، ولا ديمقراطية من دون اعتراض المستبعَدين، فحقيقتها أنها قوة الذين لا سند لهم، أي القوة التي تتيح للمهمشين أن يجعلوا أصواتهم مسموعة داخل الفضاء العام.

مع نهاية السرديات الكبرى، يرصد رانسيير تحولاً خطراً في المجتمعات المعاصرة، يتمثل بما يسميه نهاية السياسة داخل “المجتمع ما بعد الديمقراطي”، ففي هذا المجتمع، تُحوَّل النزاعات السياسية والاجتماعية إلى قضايا قضائية أو قانونية (judiciarisation)، ويُطوَّق الفعل السياسي داخل أطر مؤسساتية تضبط الخلاف بدل أن تفتحه للنقاش الشعبي، وبهذا تُفرّغ السياسة برأيه من طابعها التحرري والثوري، ويُستعاض عنها بمنطق توافقي يطمح إلى المنفعة العامة في غياب الصراع، مما يقوي موقع الدولة أو الأجهزة القضائية على حساب المشاركة الشعبية.

يقول رانسيير إن هذا المنطق القائم على نفي النزاع، ينتج على نحو متناقض وبشكل مفارق أشكالاً جديدة من الإقصاء والعنف والعنصرية. فحين يُلغى “الخارج” ويُدمَج الجميع قسراً في وحدة منسجمة بين الواقع والنظام تصبح السياسة مستحيلة وتظهر العنصرية بوصفها التعبير العاري عن هذا الانسجام القاتل، إذ تُحمَّل الفروقات الطبيعية – كالجنس واللون والأصل – مسؤولية التوترات الاجتماعية، فالمهاجر الذي كان يوماً جزءاً من الطبقة العاملة يُصوَّر اليوم كسبب للبطالة، والمجتمع ما بعد الديمقراطي يتحول إلى مجتمع مغلق على ذاته، يرى في كل اختلاف تهديداً لنظامه.

على هذا المستوى من التحليل يطرح رانسيير السؤال الفلسفي الحاسم: هل يدعونا زمن ما بعد السياسة إلى الحنين إلى السرديات الكبرى والأساطير التي كان لها أن تُبقي العالم منقسماً بين مثالي وواقعي؟ أم أن السياسة، على رغم عنفها، تظل شراً أهون من عنصرية الانسجام الكلي؟

يجيب الفيلسوف الفرنسي بأن العنصرية ليست نقيض السياسة، بل جزء منها، إنها أداتها الدائمة لرسم الهوامش وإنتاج الاستبعاد، فالسياسة في معناها الأعمق هي الفعل الذي يُنشئ الفوارق والمعايير، وهي ما يسمح للمجتمعات بأن تُعرّف عن نفسها وتدرك حدودها.

بهذا المعنى، يأتي كتاب “سوء الفهم” في طبعته الجديدة ليعيد فتح سؤال السياسة في زمن يعلن فيه أصحاب السلطة رغبتهم في السيطرة التامة على الأجساد والأرواح.

هذا الكتاب هو الثاني من ثلاثية فكرية سعى رانسيير من خلالها إلى إعادة تعريف مفهوم الشعب بوصفه “جماعة النزاع”، كما بين قبلاً في كتابيه “حواف السياسة” (2004) و”كراهية الديمقراطية” (2005)، فالسياسة عنده ليست سعياً إلى التفاهم، بقدر ما هي تعبير دائم عن سوء الفهم والصراع المؤسِّس، ذاك الذي يجعل الصوت يتحول إلى كلام، والضجيج إلى معنى، ويمنح أولئك الذين لا يُعترَف بهم القدرة على الكلام باسم الجميع.

لا بد من الإشارة في الختام إلى أن هذا الكتاب مفصلي في فكر رانسيير، تكمن أهميته في كونه لا يقدم أطروحة نظرية مجردة، بل يقيم مسرحاً فكرياً يتواجه فيه الفلاسفة والشعراء والمهمَّشون حول مسألة المعنى والتفاهم، أي حول إمكان أن يتقاسم البشر عالماً مشتركاً من دون أن يُختزل الاختلاف في نظام واحد للحقيقة، وهو في جوهره تأمّل في السياسة بوصفها فعلاً لغوياً، ذلك أن كل سلطة تقوم على تحديد من يحق له الكلام، ومن يُعد كلامه مفهوماً أو مجرد ضجيج، بهذا المعنى يصبح سوء الفهم ليس خللاً يجب تجاوزه، بل لحظة تأسيسية للحرية، لأنه يفتح المجال أمام ظهور الذات المتكلمة التي تزعزع النظام القائم.

من هنا تبرز ضرورة قراءة هذا الكتاب اليوم، في زمن تتكاثر فيه الخطابات المهيمنة، ويُقصى فيه كثيرون من حق التعبير والاعتراف، فيه يعيدنا رانسيير إلى الأساس الفلسفي للعدالة بوصفها تقاسماً للقول والرؤية. إن قراءته ليست تمريناً على النقد الفلسفي أو السياسي وحسب، بل دعوة إلى إعادة التفكير في ما يعنيه أن نتكلم معاً وأن نُصغي وأن نعترف بالاختلاف لا كعائق، بل كشرط للحقيقة.

https://www.independentarabia.com/node/634359/ثقافة/كتب/في-فلسفة-سوء-الفهم-السياسة-عندما-تمؤسس-النزاع
Exit mobile version