محمد. جديدي
من يحتكم إلى العقل ويجعله دليلا له في الفكر والحياة، لا يمكن إلا أن يكون متفائلا. لذا كان التفاؤل سمة الفلسفة وخاصيتها الأولى منذ القديم، حتى وإن ساد التشاؤم كاستثناء لدى بعض الفلاسفة وهم موزعين عبر حقب مختلفة ومثالهم شوبنهاور ونيتشه حديثا. ومنهم من جمع بين تشاؤم وتفاؤل كالفيلسوف وعالم النفس الأمريكي، وليام جيمس، والذي وسع من خلال طريقة النظر والتفكير البراغماتي. إن عبارة التشاؤم العلمي والتفاؤل الميتافيزيقي لـ جيمس، قد تكون هي العبارة المناسبة للحظة الفلسفة الحالية في بيئتنا، إذ ومع بزوغ كل تصور أو طرح جديد أو نقاش يمكن لحضور وتعزيز مكانة الفلسفة في المنظومة التربوية وفي المشهد الثقافي بشكل عام وينزع عنها تلك التصورات السلبية والمشينة التي لحقت بها. من الصحيح أن الفكرة قد تكون جيدة ومفيدة بيد أن إخراجها بمعنى تنفيذها وتطبيقها قد يكون بشكل سيء وغير ناجع لكن هذا لا يمنع مراجعة آليات التطبيق ومن أسند إليهم أمر تطبيقها، إن لم يكونوا أصحاب كفاءة وخبرة وليسوا في مستوى إنجاز الطموحات المنتظرة ولم تتحقق معهم الأهداف المرجوة من الفكرة.
نتفاءل في كل مرة نلمح معها بصيص أمل في فكرة تعضد من وجود الفلسفة في برامجنا الدراسية وكذلك كان الأمر عندما تمّ توسيع الفلسفة في السنة الثانية ثانوي وعدم اقتصاره على السنة النهائية، على الرغم من الانتقادات التي وجهت للمواضيع المدرسة وللنصوص المختارة؛ لكن الخطوة في ذاتها جديرة بالتنويه والأمل يحدونا في توسيع وتمديد تدريس إلى ما دون الثانوي وفي ما صار يعرف تعليم الفلسفة للأطفال وهو المشروع الذي بات مطروحا ومجربا منذ عقود، أي منذ بداياته مع ماتيو ليبمان وانتشاره اليوم لدى كثير من الدول مثل أمريكا، بلجيكا، كندا الهند، البرازيل ودول أخرى غيرها تسعى إلى تقوية مدارك الطفل منذ الصغر على الاهتمام بالتفكير النقدي والمنطقي وتنمية روح التساؤل لديه.
من يتأمل النشاط الحثيث الذي عرفته أقسام الفلسفة عبر مختلف جامعات الوطن سواء باستقلال أو بتعاون واشتراك مع الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية، لا يمكنه إلا أن يتفاءل حتى وإن كانت طبيعة هذا التفاؤل ميتافيزيقية محفوفا بتشاؤم عملي على حد تعبير الفيلسوف البراغماتية الثاني وليام جيمس.
لقد شهد شهر أفريل لهذه السنة ديناميكية متميزة في النشاط الفلسفي وذلك بإقامة ندوات فكرية داخل الجامعات وخارجها (ولا تزال مستمرة) بمناسبة اليوم الوطني للفلسفة (المحدد بـ 26 أفريل من كل سنة)، وهو ما يبعث السرور والغبطة في نفس كل دارس للفلسفة ومهتم شغوف بالفلسفة ونصوصها قراءة وبحثا، تدريسا وممارسة.
طُرحت في هذه الفعاليات الفلسفية أفكار وتصورات جد هامة، تدعو إلى ضرورة تجديد الفكر الفلسفي وضرورة ربطه بالواقع اليومي الوطني والعالمي وهي دعوة كفيلة برفع الحجب عن أحكام مسبقة تعاني منها الفلسفة في مجتمعنا وتميط اللثام عن حقيقة الفلسفة كما تُزال القشرة عن لب الفاكهة، ذلك أن جوهرها ليس في التأمل بعيدا عن قضايا الإنسان والمجتمع وفي تفسيرها بل من صلب هذه القضايا ينبع التفلسف يحدوه في ذلك الشغف المعرفي وتغيير الوضع البشري نحو ما هو أسمى وأفضل وأمثل، وهي دعوة كذلك للانهمام والانشغال بقضايانا ذات الأولوية فأن نفكر في العيش معا وأن نتناول بالدرس مسائل الحرية والعدالة وأن نسعى إلى فهم ظواهر الإرهاب والهجرة والعولمة وأن نعتني فكريا بدراسة الذكاء الاصطناعي والبيئة وأن نستشكل أخلاقيا مشكلات الصحة والإنجاب والوباء، فكل ذلك جدير بأن يحظى باهتمامنا الفلسفي ويشكل منطلقا متجددا لكل اهتمام فلسفي حقيقي.
ستظل الفلسفة في ماهيتها تفكيرا حرا عقلانيا نقديا، يسمو فوق الدوغمائيات، تحاور أشكال التعبير الإنساني الأخرى من دون ان تدعي لنفسها امتلاك الحقيقة أو احتكارها إنما تظل بوصلتها طارحة للتساؤلات علّها تظفر بنصيب من شعاع يرشد ما يصبو إليه الكائن الإنساني لمعرفة نفسه ومحيطه المعرفة الحقة. وتلك هي الحكمة التي حدت الإنسان منذ القديم وتحدو اليوم في الانتباه إلى إنسانيته، خوفا من فقدانها بعدما تراجعت وتراجعت معها قيمه والمبادئ التي تحكم تفكيره وسلوكه. فلم يعد للنزعة الإنسانية التي لاح أفقها مع عصر النهضة ذلك الوهج الذي وسمها بعد تلك الأزمات والتوترات التي العصرين الحديث والمعاصر وأفرزت مشكلات خطيرة على مستوى الفرد والجماعة.
ستظل الفلسفة حاملة شعلة الحكمة والدعوة إلى محبتها كما يستفاد ذلك من معناها ولا يمكن استمرار هذا النهج إلا بالإبقاء على روحها خالصة نقية من دون أن يفهم من هذا عدم السعي إلى إعادة بنائها وتجديد مواضيعها ومفاهيمها وفق ما يميز ويسم كل عصر وبحسب التحولات الاجتماعية والسياسية والتطورات العلمية والتقنية التي تمر بها المجتمعات كل مجتمع منها تبعا لدرجة تقدمه وحسن تنظيمه. في هذا الصدد، تساير الفلسفة حركية التقدم العلمي دون وجل أو انزعاج وهي تدرك تمام الإدراك أنها لا تتوانى في الانخراط في محادثة دائمة وغير مشروطة مع مختلف حقول المعرفة لأنها في الأصل تقتات من مجمل أشكال التعبير وتتبادل معها خبرات النظر والتحليل.
من هذه الزاوية، تعتزم الفلسفة الإبحار في عالم اليوم، محينة انشغالها وانهمامها بالإنسان من خلال الإتيقا في مجال علمي شهد تقدما علميا نموذجيا، أقصد المجال البيولوجي والطبي أو ما يعرف بالبيوطبي biomédical والذي هو مثل الدواء لم يكن من دون آثار جانبية تشارك الفلسفة عبر البيوإتيقا في مناقشة ورصد استتباعات تطوره ومآلاتها على البشر والبيئة وفي هذا منفذ جديد للفلسفة ورهان على تأقلمها ومقاومتها للابتذال والشر وحرصها على مواصلة مسيرتها في متابعة الوضع البشري.