رشيد العلوي
من الصعوبة بمكان اختزال الحديث في الأخلاق والسيَّاسة في موضوع معين ومحدد بالنظر إلى كثافة الاشكالات التي تثيرها العلاقة بين هذين المجالين: ولكن سوف أركز في مداخلتي على السلوك الأخلاقي وما يعترضه من مشكلات هي في جوهرها سيَّاسيَّة و أخلاقيَّة في الآن ذاته، لهذا افتتح كلامي بالتساؤل: هل تسمح البنية الأخلاقيَّة وقيمنا في مجملها باستشراف المستقبل؟ أي نموذج أخلاقي لحياتِنا المعاصرة؟
من المؤكد والبديهي جداً، أن مبحث القيم ومنها بطبيعة الحال القيم الأخلاقيَّة تحديداً، هي قيم متغيرة، تخضع لسلسلة تبدلات وتحولات لا تنفك تجد أساسها المادي في طبيعة المجتمع بما هو بناء متعدد ومتغير بدوره، مما يفيد أن الطابع الفطري للأخلاق كما ينادي البعض أمر مشكوك فيه. لهذا يستمد كلامي أساسه من المعرفة الأخلاقيَّة بدل المعرفة الدينيَّة / اللاَّهوتيَّة.
أقصد بالأخلاق هنا مجموع القيم والمُثل التي توجه السلوك البشري نحو الخير وتجنبه الشَّر… لذا فالسؤال يتعلق بالسلوك الجيد والعادات الحسنة، والأعمال المقبولة، أي بكل ما يمكننا اعتباره لائِقاً ومقبولاً في نظر المجتمع. أما السيَّاسة فيراد بها طرق وأساليب تسيير وتدبير الشأن العام لما فيه خير الناس ومنفعتهم، لهذا تتطلب الأخلاق وعياً أخلاقيّاً واجتماعياً عالياً، في حين تتطلب السيَّاسة الشجاعة والتحلي بالمسؤوليَّة العظمى. أما المقاربة القانونية المعياريَّة فهي مجرد مقاربة نِسبيَّة لا يُمكنها في جميع الأحوال أن تضمن التوازن بين الأخلاق والسيَّاسة رغم ضرورتها كأداة للتخويف وليس للإكراه أو الخضوع.
يطرح السؤال أعلاه، رهانات كبرى تشترط في الكشف عنها تحليلاً مُفصلاً وبحثاً رصيناً لطبيعة بيئتِنا الأخلاقيَّة إن صح بطبيعة الحال الحديث عن بنية واحدة وموحدة تجمع المغاربة جميعاً لأن نظريَّة العقل التي انتجت ونظرت للعقل الأخلاقي العربي تنطلق من مسلمة أن بنيتنا الأخلاقيَّة لها مرجعيَّة واضِحة وواحدة تجد منطلقها من اللغة العربية ومن الدين الإسلامي ومن الثقافات المختلفة المتعايشة مع المنظومة الإسلاميَّة. لست هنا بصدد مراجعة دقيقة لنظريَّة العقل كما هي رائجة في الفكر العربي المعاصر، ولكني على الأقل استعمل مؤقتا – إلى حين التحقق – مفهوماً واضحاً كما جاء في العنوان: الخطاب المغربي، فما المقصود بالخطاب المغربي؟
ليس الخطاب المغربي خطاباً متجانساً ولا واحداً، بل هو خطابات تختلف باختلاف المرجعيَّات الثقافيَّة والدينيَّة واللّغويَّة وباختلاف رؤى العالم، وأشدِدُ على رُؤى العالم لأنها لا يمكن أن تجمع أفراداً مُختلفين من ثقافات ولغات مختلفة، لذا سأركز اهتمامي – على وجه الدِّقة – على الرُؤيّة الدِّينيَّة التي ينطلق منها الخِطاب الدّيني، وعلى الرُؤيَّة المُعلمَنة التي يرتكز عليها الخطاب العَلمانِي، باعتبارهما رؤيتين تحكمان نظراً متبايناً ومغايراً للمسائِل الأخلاقيَّة والسيَّاسيَّة عندنا، فالخطاب السَّائد في المغرب – كما أشرنا – هو خطاب مزدوج: ديني وعلماني في الآن ذاته، غير أن الخطاب الديني ليس واحداً: هناك خطاب ديني – رسمي، خطاب ديني – صوفي، وخطاب – حركات الاسلام السيَّاسي (متعدد بطبيعته بحسب تعدد تيارات الإسلام السيَّاسي)…
سنعمل على فحص الإشكاليَّة التالية من خلال جملة أمثلة وقضايا نراها مناسبة: هل يستطيع القانون بما هو مقاربة معياريَّة / صوريَّة أن يجد حلاً لتعارض السيَّاسة مع الأخلاق أو لتعارض بعض القيّم الأخلاقيَّة مع المصالح السيَّاسيَّة؟
أنطلق من ثلاث فرضيَّات تخُص الخطاب الدّيني من جهة، وثلاث فرضيات تخُص الخطاب العَلماني من جهة أخرى ولكن بنفس المنطق:
- قد يكون الخطاب الديني إما:
- مصدر قوةٍ: لأنه يوحِّدُ وجهات النَّظر حول العالم ويربِط أفراد المجتمع بالحياة الأخلاقيَّة؛
- مصدر ضعفٍ أو خطر: لأنه ينظُر إلى الفكر النقدي (التفكير) باعتباره خيانةً وتهديداً؛
- مصدر إلهام: يُشرِّعُ لرؤيةٍ عن الحياة الخيرة.
- وقد يكون الخطاب العَلمانِي إما:
- مصدر قوةٍ: لأنه يبنِي وجهة نظر حول العالم ولا يستثني البُعد الأخلاقي في الحياة؛
- مصدر ضعفٍ أو خطر: لأنه ينظُر إلى الفكر الديني باعتباره فكراً ميتافيزيقياً متجاوزا؛
- مصدر إلهام: لأنه يُشرِّعُ لرؤية خيِّرة للحياة ويضمن سلام الناس وأمنهم.
يعتبر الخطاب الأخلاقي في نظر هابرماس أساس الاندماج الاجتماعي لأنه خطابٌ مناسِب تماماً للمجتمعات المتنوعة ثقافيّاً، إلا أن هذا الخطاب يظلُ نسبيّاً لا لعدم صحة القواعد العامة والشموليَّة إلى أقصى درجةٍ ممكنة، وإنما لأن البشر فيه اعوجاج في سلوكه وممارساته التي تحظى فيها الذاتيَّة والفرديَّة بالمنزلة الكبرى، فقد تكون تلك القواعد صحيحة، لكنه تنتُج عنها سُلوكات خاطِئة تماماً وغير خيِّرة. لذا يتوجب أن يترافق الخطاب الأخلاقي بخطابٍ قانوني وسيَّاسي عقلاني، وما يعنيه ذلك من تلازم حقيقي بين السيَّاسة والقانون والأخلاق.
يميز هابرماس بين الدولة والسيَّاسة، فالدولة هي تلك السُّلطة المُشكلة من نظام إداري وكيان بيروقراطي يعمل على صنع القرار بواسطة المؤسسات السيَّاسيَّة الرسميَّة: البرلمان، مجلس الوزراء، الاحزاب السيَّاسيَّة، المجالس المنتخبة… أما السياسة فهي نوعان: شرعيَّة / رسميَّة وغير رسميَّة (سياسة المجتمع المدني). وهذه الازدواجيَّة في الفهم هي أساس الفصل بين الدائرة السيَّاسيَّة الخاصة والمميَّزة وبين الدائرة السيَّاسيَّة الخاصة، لذا يعمل النِّظام السيَّاسي على ضمان استمراريَّة وحيويَّة السياسة إذا استوعبت الدولة ملاحظات واقتراحات المجتمع المدني الذي يبلور إرادة شعبيَّة – عمليَّة تشكل أراء الفرد وإرادته الخاصة، غير أن هذا التوازن الذي يتطلع اليه هابرماس يتحقق في الدول الديمقراطيَّة أكثر من الدول غير الديمقراطيَّة، لذا فإن السيَّاسة في نظره هي الحريَّة التي تنبع في آن واحد من ذاتيَّة الفرد وسيَّادة الشعب.
أما القانون من وجهة النَّظر هاته فله جانبين:
- معياري – شرعي؛
- اجرائي وقائعي – واقعي.
ويسير وفق ثلاثة مبادئ:
- الشرعيَّة: بحيث لا يكون شرعيّاً إلا إذا كان له مغزى، وشرعيته ليست بالضرورة شرطاً وافيّاً وكافياً لصحته؛
- الواقعية: أي أن يحظى بالاحترام والتقدير، وأن يصدُرَ عن هيئةٍ معترفٍ بها (شرعيَّة)؛
- قابلية التطبيق: أن يسمح بفرضِه على الاخرين.
يخلص هابرماس إلى ضرورة إقرار قواعد وضعيَّة علمانيَّة خارج الدين لتدبير النقاش بين الخطابات المتباينة في المجتمعات المتنوعة والمتعددة ثقافيا كيفما كانت طبيعة التراث الذي تستمد منه الخطابات رؤاها، نقاش محكوم ومؤطر بأخلاقيَّات الحوار ومؤسس، ليفضي إلى نتيجة عملية وعقلانيَّة ضمن مفهوم عقل كوني الذي يضمن الاختلاف والعيش المشترك. وعلى هذا الأساس شدَّدنا على الخطاب المغربي لتفادي التعميم الذي ارتكزت عليه نظريَّة العقل العربي، بما هو خطاب لا ينفصل عن منطق العقل الكوني خاصة مع التحولات التي شهدها العالم ومختلف المجتمعات منذ بداية الالفية الثالثة.
سأنطلق من مثال بارز علَّه يظهر طبيعة الاشكاليَّة المحوريَّة أعلاه ويتعلق الأمر ب “الكذب السيَّاسي” الذي صار في العالم المعاصر “حقاً من الحقوق السيَّاسيَّة”.
لن أتحدث عن مفهوم الكذب كما تناولته الفلسفة السيَّاسيَّة منذ أفلاطون إلى كارل شميث وحنة آرنت، ولكن أود الالتفات إلى تعاظم الكذِب السيَّاسي في عصرنا بحيث صار نوعاً من: “التبرير”، و”الحقيقة المخادعة”، و”الإشاعة المُوجَّهة”، و”التحايل” باسم المصلحة العامة سمة الفعل السيَّاسي، فالسيَّاسي والحاكم يكذب باسم تلك المصلحة وباسم الأمن العام أو مراعاة مشاعر العامة، وما إلى ذلك من التعابير، التي تخفي وراءها نوايا “إخفاء الحقيقة”، لأن الكذب السيَّاسي يقع على النَّقيض من الحقيقة، بل إن الكذّاب أو الكاذِب سيَّاسيَّا يعرف جيداً الحقيقة وهو على بيِّنة بالأرقام والاحصاءات، غير أنه يكذِب لتحوير الحقيقة باسم مصلحة الوطن، ويجيزُ لنفسه – فيما يشبه حقاً – الكذب.
هل سيستسيغ شخص موالي لزعيم سيَّاسي الطعن في زعيمه بدعوى أنه كاذِب أو يسلُك سلوكاً لا أخلاقيّاً؟ العماء السيَّاسي والايديولوجي يدفع الأنصار والأتباع إلى رسم صورة المعصُوم من الخطأ عن الزعيم، مما يحول دون وصفه بالشَّخص السَّيء ولو كان يتصرف على نحو شرير.
لنفترض أنك تعرفت على شخص من أطيب خلق الناس، شخص متخلق يتميز بسمات لم يسبق لك أن وجدتها حتى في أقرب الناس إليك، لذا قرَّرت أن تتخِذهُ صديقاً حميماً ووطدت معه صحبتك بفضل تعامله الراقي وأخلاقه العاليَّة، فماذا يمكنك أن تفعل حينما يُخبِرك أحدٌ ما أن صديقك الفاضِل والمتخلِّق والطيِّب هو المسؤول عن إبادة جماعيَّة لقبيلتك أو لشعب تنتمي إليه: ماذا سيكون رد فعلك حينها؟
يتضح أن المسؤول عن أبشع الممارسات ضد الإنسانيَّة ليس بالضرورة شخصاً سيِّئاً أو فاسداً أو شرِّيراً، بل قد يتصرف عكس ذلك تماماً مع علاقاتِه اليوميَّة وداخل أسرته وعائلته، وهذا ما تسميه آرنت في حالة ايخمان ب “التبرير الأخلاقي للواجب الكانطي”، حيث تتساءل: كيف تبنى ايخمان الموقف الكانطي؟
بموجب السُّلطة التوتاليتارية يتحول الواجب إلى واجب القائِد والزعيم (الفوهرر)، ويغدو مبدأ الطاعة متمركزاً على الذات القائِدة سيَّاسيَّا، وهكذا يتحول مبدأ الطاعة المُفترضة للواجب الأخلاقي الكانطي إلى طاعة الواجبات التي يفرضها ويمليها الزعيم. هنا يتماهى الفرد – كما هو الحال مع ايخمان – مع القائد الذي يقود كل الأفراد الأخرين، وهي الحالة التي يتحول فيها إيخمان إلى رجل عادي ولكنه يمارس فعل الشر إلى أقصى حد[2]. ولكن فعل الشر هنا ليس نابعاً من الفرد ذاتِه – من وجهة نظر أرندت – وإنما من السُّلطة السيَّاسيَّة والايديولوجيَّة التي حوَّلت الفرد إلى قطيع يطيع أوامر الزعيم. وهو الأمر الذي وقف عليه فرويد قبل ارندت وغوستاف لوبون فيما يسمُّونه بسيكولوجيا الجماهير، وهي حالة نفسيَّة لم يعد معها الفرد قادراً على التصرف كفرد وكذات وإنما حالة فوران وانفعال تطبع معظم تصرفاته ومواقفه في تلك الأثناء. صحيح أن الإيديولوجيات الكبرى قد فتحت القرن الواحد والعشرين على امكانات لتخليص الفرد من القيود التسلطيَّة التي فرضت عليه طوال قرون، ولكن لطالما تحولت هذه الإيديولوجيات إلى عذاب أليم بالنسبة لتلك الجماهير التي أسكَرتها وسحرتها بعباراتها التحرريَّة. فستالين نفسه الذي يخطب في الناس أيام البلشفيَّة الأولى، وهو في طريقه إلى جبال القوقاز لتجنيد الشباب للنضال ضد القيصر، سرعان ما سيتحول إلى مستبد أكثر من القيصر نفسه، وهو يشرف على مذابح موسكو 1936، وعلى الأخص ذبح زملائِه في النِّضال السيَّاسي. ونقرأ في أسس التوتاليتارية لأرنت: “إن إنجذاب الشعب نحو الشر والجريمة ليس شيئاً جديداً. الناس لم يتوانوا عن الترحيب بأعمال العنف مدركين أن هذه الأعمال قد تكون سيِّئة لكنها أعمال خلاّقة. لكن الأخطر في نجاح التوتاليتارية هو عدم الاكتراث الحقيقي الذي يبديه المنضوون تحت لوائِها. من المنطقي أن لا يهتز النازي أو البلشفي في قناعاته عندما يشهد أعمال عنف ضد أشخاص لا ينتمون الى الحركة أو يعادونها، لكن الغريب في الأمر أن لا يرف له جفن حتى عندما يبدأ الوحش بالتهام أبنائه، أو حتى عندما يصبح هو نفسه ضحيَّة للاضطهاد، أي إذا ما تمت محاكمته من دون حق، أو جرى طرده من الحزب، أو حُكم عليه بالأشغال الشَّاقة أو أُرسل إلى مخيمات الاعتقال”.. هكذا يصبح ايخمان، رجلاً عاديّاً غير مسؤول عن فعله لأنه ليس هو منبع الشر، وإنما مجرد أداة تنفيذ لأوامر الزعيم وهذا ما تسميه أرندت بتفاهة الشر في مقابل الشر الجذري كما نحته كانط. وبموجب هذا ينبغي الانتباه إلى التحول العميق الذي حدث في فهم بنية الشر، بحيث لم يعد الشر – كما هو الحال عند كانط – القيام بأفعال لا تنسجم والقانون الأخلاقي، وإنما أصبح الشر نابعاً من طاعة الأوامر القانونيَّة وهو الأمر الذي لم ينتبه إليه العديد من المتتبعين لمحاكمة ايخمان. وبمعنى آخر هل يمكن أن نعتبر أن إيخمان يعي جيداً أنه يفعل الشر؟ أو أنه يقوم بفعل الشر بمحض إرادته؟ ايخمان في نظر ارندت هو مجرد موظف ينفذ القرارات التي يمليها القانون. فأي مسؤوليَّةٍ أخلاقيَّة يتحملها ايخمان ها هنا؟ وهكذا فليس ثمة من شر – بحسب أرندت – في الطبيعة البشريَّة، لأن هذه الفكرة لاهوتيَّة في الأساس (وعلى الأخص اللاهوت المسيحي الذي يُنسِب فعل الشر إلى غواية الشيطان)، ولكن ثمة شرٌ تافِه يجول في العالم كجرثومة قد تنتعش في كل مكان تجد فيها ظروفاً ملائِمةً للسلطة التوتاليتارية. ولهذا تقول ارندت: “أعتقد صراحة أن الشر لم يكن راديكالياً أبداً، وإنما فقط شر إلى أقصى حد”[3].
يستوجب قلب المعادلة من الشر الجذري إلى الشر التافه تغيير النيَّة التي تحدث عنها كانط كأساس ذاتي لفعل الخير أو الشر، إلى النيَّة كأساس ذاتي للتفكير، لأن غياب التفكير وغياب الفكر الذي لا تؤمن به التوتاليتارية (يمكن أن نسميه مع التفكيكيَّة الاختلاف والإقرار بالتعدد وبالحوار التشاركي)، هو سبب الشر. ولهذا يتوجب أن نغير طريقة تفكيرنا نحو الخير دوماً.
فالشر في نظر أرندت لا يعود سببه إلى الفاعل الذي تحول إلى مجرد وسيلة – آلة ميكانيكيَّة – لتنفيذ سياسة عنصريَّة تقوم على الرفض وعلى معارضة الآخر ولا تعترف باقتسام الأرض مع من يستوطنها، إنه حالة غياب للاعتراف بالغير وغياب الإيمان بالتشارك مع الآخر. هذه السيَّاسة التسلطيَّة التي تقوم على القوة والعنف، لا يمكنها أن تؤسس لسلام ولفعل حر مبني على تفكير عقلاني لدوام الخير الأصلح للناس. لذا فالعنف لا ينجم عنه إلا عنف مضاد، وكان من المفروض ألاَّ يحاكم ايخمان باعتباره مجرماً قام بفعل لا أخلاقي، وإنما يتوجب الاعتراف أنه ليس مذنباً بقدر ذنب النِّظام السيَّاسي النازي الذي يمثله، وهكذا كان يكفي أن يعترف أنه ارتكب جرماً في حق الإنسانيَّة وأنه يتوجب أن يحاكم بقانون آخر غير القانون الذي صار هو نفسه منبع الشر.
الفرق هنا بيِّنٌ بين المجال الأخلاقي والمجال القانوني، وهو الأمر أيضا بالنسبة للجلاد: فعلاقته في المعيش مع المحيطين به ليست هي علاقته مع المعتقلين، مما يعني أن القانون ليس وحده كافياً لجعل سلوك الناس الأخلاقي سلوكاً خيِّراً أو لدفعهم إلى التصرف الحسن والقويم، فمهما كانت عقوبات قانون السَّير الزَّجريَّة، فإن سلوك المواطن / الفرد غير القويم يستوجب وجود تربيَّة أخلاقيَّة صارمة وخيَّرة. وقد نجد في التعذيب الذي يمارس على المتهم أثناء الاستنطاق والتحقيق بغرض الاعتراف خير مثال على هذه المفارقة.
النتيجة التالية: ليس القانون وحده كافياً لضمان سُلوكٍ أخلاقي حسن للمواطِن مجرد نتيجة مؤقتة، فلننظر فيما إذا كانت السيَّاسة تستطيع أن تضمن سلوكاً أخلاقيّاً حسناً وقويماً للمواطن؟
يتم تعريف السيَّاسة في الخطاب المغربي بما هي لعبة أو فن التحايل، والجميع يعلم أن السيَّاسيِّين يرومون خدمة مصالحهم الشخصيَّة والحفاظ عليها قبل المصالح العامة ولنا في أمثلة عديدة ما يؤكد ذلك.
سيظهر التميِّيز بين التبرير العَلماني والتبرير الديني في قضايا أخلاقيَّة كبرى مع العلم أن الفاعل السيَّاسي بغضِّ النَّظر عن انتماءِه أو رؤيته للعالم فإن تصويته على هذا القرار أو ذاك إنما تحكمه قوانين اللُّعبة أو فن التحايل فلنأخذ على سبيل المثال: قضيَّة الإجهاض أو الاعتراف بحق الأمومة للأمهات العازبات وبحقهن في الاندماج الاجتماعي، على أي حال لا يمكن الوقوف على مختلف الأمثلة: سأكتفي بالحق في الإجهاض: لا يهم كثيراً إن كانت هناك قوانين تضمن هذا الحق أم لا لأنه غير مقبول أخلاقيا بالنظر إلى ما ينتج عنه من نتائج اجتماعيَّة وظواهر تتناسل وتنبث كما ينبث العشب، بحيث ينتج أغلب الظن عن علاقات جنسية غير شرعية من منظور الخطاب الديني، ناهيك عن أن وجود هذه الظاهرة بل وتزايدها ليس بعيداً عن لعبة المصالح: كم من عمليَّات الإجهاض تجرى يوميّاً وكم من الأموال تذهب إلى السوق السوداء…
يختلف الخطاب الدِّيني عن الخطاب العلماني في طبيعة المبررات التي يقدمها كل خطاب لأنصاره للحفاظ على مصالحه السيَّاسيَّة حول مسألة الإجهاض، ولكن في نهاية الأمر يتفق السيَّاسيون من كِلا الخطابين على قرارات سيَّاسيَّة قد تتعارض مع القيَّم الأخلاقيَّة التي تدعو إليها تلك الخطابات في صفوف أنصارها وفي المجتمع ككل.
يمثل النقاش في المغرب على ضعفه حول المساواة في الإرث نموذجاً صريحاً، فالخطاب الديني لا يستسيغه لأنه يتعارض مع أحكام الشريعة، ولكنه كخطاب يعرف جيّداً أن مبدأ المساواة في الإرث هو أساس الحياة المعاصرة ولا يمكن تجاهله. هذا ناهيك أن الانفصام من خصائص الخطاب المغربي، فقد تجد من انصار الخطاب الديني من يلجأ إلى الخطاب العلماني، وفي صفوف أنصار هذا الأخير من يلجأ إلى الخطاب الديني.
الخلاصة: لا يهم القرار السيَّاسي ما ان كان له أثر في الفعل الأخلاقي أم لا، لذا فالناس يستنكرون ظواهر أخلاقيَّة متنامية في المجتمع ويسكتون على أخرى أشد منها فضاعة: يستنكرون وجود المتشردين في الشارع العام وتنامي ظاهرة التسول، وتفشي الدعارة والاعتداء بالسلاح الأبيض، ويقبلون قمع المظاهرات…
قد تبرر الأخلاق سلوكات سيَّاسيَّة غير مقبولة، وقد تبرر السيَّاسة سلوكات أخلاقيَّة غير مقبولة، أما القانون فلا يمكنه بتاتاً ضمان سلوك أخلاقي أو سيَّاسي سليم، لذا أقول أن النقاش في خطابِنا المغربي حول هذه المعضلة لا يزال ضعيفاً جداً، وإننا لبعيدون عن طرح سؤال: هل تصلح بنيتنا الأخلاقيَّة للمستقبل والقادم من الايام؟
ما نتلمسه أن منظومتنا الأخلاقيَّة والسيَّاسيَّة معاً تتعرض لانهيار شاملٍ يفعل الانفتاح السيَّاسي في عصر العولمة ومجتمع المعرفة لأن السلطة صارت معولمة وكونيَّة في حين أن السيَّاسة صارت ضيِّقة أكثر فأكثر وانحبست في مجال الدولة الواحدة، وهذا الطلاق البائن بين السُّلطة والسيَّاسة قد يفضي إلى نتائج يصعب على المنظومتين السيَّاسيَّة والأخلاقيَّة معاً أن تجيب عنها: فلنتجرأ على استعمال العقل ولنطرح السؤال بصوت مرتفع؟
[1] – ألقيت هذه الكلمة يوم 04 مارس 2017 بمدينة بنجرير في النشاط الذي نظمته الجمعية المغربية لمدرسي الفلسفة – فرع الرحامنة تحت شعار: “الفلسفة والراهن: الأخلاق والسيَّاسة نموذجا”. ونشر في العدد 16 لمجلة أفكار (ماي 2017)
[2] – Eichmann à jérusalem, paris 1991, p 251.
[3] – H, Arendt : Eichmann à Jérusalem. Paris 1991, P 251.