COUUA

استعمالات اللغة/الكلام عند توماس هوبز

يشير هوبز في الفصل الرابع (في الكلام) من كتابه «اللفياثان» إلى أن اللغة بصفة عامة تستخدم على نحوين؛ واحد عام، وآخر خاص. أما الاستخدام العام، فإن المقصود به أن الإنسان حينما يستعمل اللغة بكيفية عامة، فإنه لا يقوم سوى «بتحويل الخطاب الذهني إلى خطاب شفهي.»[2]. بمعنى آخر، إن الاستخدام العمومي للغة هو استخدام ينطوي على محاولة بسط ما يدور في الذهن على شكل جملة من الكلمات والأسماء[3]. لكن، بما أن الإنسان كائن حامل للهشاشة والضعف، ومن ثم، ما قد يوجد في ذاكرته من أفكار وهواجس، قد تكون عرضة للضياع في ظل التغيرات المعرفية وتزايدها عند الإنسان، فإن الهدف الأول من تحويل ما يدور في الأذهان إلى شبكة من الكلمات والأسماء، ليس سوى وضع الأفكار التي سبق أن أدركها الإنسان بحواسه، وفهمها بعقله في شبكة من الكلمات والأسماء، بحيث تكون له القدرة على تذكرها مرة أخرى. فالكلمات والأسماء يَنسج فيها الإنسان ما يختلج ذهنه وفؤاده، حتى تكون له المقدرة على تذكرها ك«علامات» (Marks)،أو ك«ملاحظات»-«إشارات» (Notes)[4].

وبما أن الفرد (الإنسان) كذلك، لا يعيش في فضاء منعزل عن غيره من بني البشر، فإن تحويل ما يدور في ذهنه من أفكار وهواجس إلى كلمات وأسماء كعلامات أو إشارات، ليس الهدف منه أن يكون قادرا على تذكر ما أصبح في ذهنه وهما (Fancy) فقط، وإنما تحويل الخطاب الذهني إلى علامات وإشارات وفق مجموعة من الكلمات والأسماء هدف آخر، يتجلى في أن الإنسان يستعمل اللغة بكيفية عامة لكي يضفي على الأشياء دلالات (Signs)،ومعان. بمعنى آخر، إن استعمال اللغة بكيفية عامة له هدف متمثل في السعي إلى إضفاء المعنى على الذات والعالم، وفق نوع من العلاقة الترابطية بين الأفكار التي تنسج في قالب من الكلمات والأسماء. فالإنسان لا يكتفي بوضع علامات وإشارات لتذكر ما قد يكون عرضة للضياع والنسيان، بل يضع لما يحمله من أفكار ذهنية علاقة سببية، ينتج عنها نوع من الخطاب المصمم والمنتظم[5]الذي يحمل معنى ودلالة، والذي يمكن أن يكون مبدأ من مبادئ التفاعل والحوار مع الآخرين، الشيء الذي يجعل البشرية في طريق التقدم والازدهار.

وبناء عليه، فجعل ما يدور في الذهن على شكل كلمات وأسماء للدلالة على مجموعة من الأشياء، وفق علاقة ترابطية-سببية، يجعلنا ندرك في إطار تفاعل الذات الواحدة مع الذوات الأخرى، طبيعة ما تفكر فيه، بحيث إن فكر الإنسان ومدى تنظيمه وقدرته على المحاججة يتجلى أحيانا في خطابه الشفوي. لذلك، فجعل الفكر في قالب لغوي للدلالة على جملة من الأشياء، يسمح بإدراك -وإن بكيفية نسبية- مستوى الفهم الذي يحمله الإنسان. يلزم وفق ذلك أيضا، أنه انطلاق من إدراك وفهم طبيعة الفكر الذي يحمله الإنسان، نكون أمام إدراك وفهم لبعض ميولاته ورغباته وانفعالاته وخوفه[6]. ذلك، أن كل هذه الأهواء الإنسانية تتبدى في طبيعة الكلمات والأسماء التي يستعملها، وكذا في طريقة التعبير بها عما يدور في ذهنه، وكأننا أمام علاقة سببية بين الفكر والعمل؛ أي أن ما يفكر فيه الإنسان ينجلي في الواقع سلوكا وفعلا كلاميا.

وإذا كانت اللغة حينما تستخدم بكيفية عامة، يكون الهدف من ذلك، جعل الفكر كعلامات وإشارات لتذكر ما مضى، أو كدلالات لإضفاء المعنى على الأشياء، فإن الاستخدام الخاص لها يتجلى في مجموعة من الأهداف التي يحصرها هوبز في العناصر الآتية[7]:

أولا، حينما يستخدم الإنسان الكلام أو اللغة بكيفية خاصة، فإنه يبتغي من ذلك تسجيل ما استنتجه بعقله أنه سبب لشيء حدث في الماضي، أو في الحاضر، أو يمكن أن يحدث في المستقبل. يقول هوبز: «أولا، تسجيل ما نجد بواسطة التأمل أنه سبب لأي شيء حاضر أو ماض، وما نجد أن أشياء حاضرة أو ماضية يمكن أن تنتجه، مما يعني باختصار اكتساب الآداب.»[8].

ثانيا، بما أننا قد أشرنا سلفا إلى أن اللغة ليست وسيلة تفكير فقط، بل أداة تواصل ونقل للمعرفة من الذات إلى الغير (L’autrui)، فإن استخدام اللغة بكيفية خاصة له هدف آخر، يتمثل في أننا نسعى منه إلى تعليم بعضنا بعضا؛ أي تشارك الخلاصات النظرية والعملية التي نتحصل عليها من التأملات (The Meditations)،والخبرات (The experiences) الفكرية والمعرفية في الواقع.

ثالثا، لا يكتفي الإنسان في استخدامه للغة على النحو الخاص، بتسجيل الخلاصات النظرية لأسباب الأشياء، أو نشر ذلك طمعا في التعلم والتقدم، وإنما يستخدم الإنسان الكلام بكيفية خاصة، لكي يعبر عن إرادته، وما ينوي فعله بعد ترو (Deliberation)؛ أي أنه يفصح أحيانا عما يبتغيه ويرغب فيه لذاته، حتى يجد عونا له لتحقيق ذلك في علاقته بالآخرين. يقول هوبز: «وثالثا، أن نعلم الآخرين بإرادتنا وأغراضنا حتى نحصل على المساعدة المتبادلة من بعضنا البعض.»[9].

رابعا، بما أن الإنسان يحمل في جوفه أهواء متعددة، من بينها هوى الفرح، فإنه يستخدم اللغة أحيانا للتسلية واللهو بغية الترويح عن النفس، وذلك، باستحضار مجموعة من القصص والنكث، والتعبير عنها بطرق تبعث في النفس الانشراح والفرح، لكن، شريطة أن يكون مزاحا بريئا من كل ما من شأنه أن يقلل من قيمة الآخرين. يقول هوبز: «ورابعا، لبهجة أنفسنا والآخرين من خلال اللعب البريء بالكلام بغرض المتعة أو الترفيه.»[10].

وبناء عليه، إذا كان استخدام اللغة بكيفية خاصة، غايته الأهداف السالف ذكرها؛ أي حفظ أسباب الأشياء، وتعليمها لبعضنا، والتعبير عن إرادة الإنسان ورغباته، وجعلها أداة لخلق جو من الفرح، فإن ذلك يفيد أن اللغة هنا قد استعملت بكيفية إيجابية، الهدف منها تشارك هواجس الذات ومبتغياتها مع الآخرين. معنى ذلك، أنه إذا كانت الغاية هي معرفة أسباب الأشياء، ومن ثم، السعي إلى نشرها للآخرين، للتعبير عن إرادة الذات وميولاتها، وأحيانا لخلق فضاء يبعث على الفرح، فإنها غاية مفيدة وإيجابية. ولئن كانت كذلك، فإن اللغة بقدر ما يمكن أن تستخدم بكيفية إيجابية، يمكن أن تستخدم بكيفية سلبية أيضا. وإذن، فما الاستخدامات السلبية للغة عند هوبز؟

يجيبنا هوبزعن هذا التساؤل بكون اللغة في استخدامنا الخاص لها، قد تستعمل بكيفية إيجابية، كما يمكن أن تستخدم بكيفية سلبية. وبما أننا قد بينا الاستخدامات اللغوية الإيجابية، فإنه يمكن بسط تلك الاستخدامات اللغوية السلبية في العناصر الآتية؛[11]

أولا، تستخدم اللغة بكيفية سلبية، حينما يستعمل المرء مجموعة من الكلمات والأسماء التي لا يدرك معناها. معنى ذلك، أن الكثير من البشر يستعملون الكلمات والأسماء دون إدراك لمعانيها ودلالتها، بل أكثر من ذلك، فأحيانا تستعمل بعض الكلمات والأسماء فقط لكونها متداولة بين الناس، لكن أن تدرك كل الذوات حقيقة الكلمات المستعملة، فهو أمر محال في الكثير من السياقات البشرية. وخير مثال على ذلك، ما كان يقوم به سقراط في محاورته لبعض السفسطائيين، بحيث كان يسألهم عن بعض المفاهيم مثل العدل والأخلاق…، لكن إجابتهم كانت ذات طابع عمومي للكلمات، مما يفيد أن استعمال الناس للكلمات والأسماء، لا يفيد بالضرورة أنهم على علم ودراية بها. إن استخدام كلمات وأسماء بكيفية غير مدركة لمعانيها الأصيلة، له تبعاته السلبية التي قد تؤدي إلى النزاع والشجار، وأحيانا إلى الحروب.

ثانيا،تستخدم اللغة بكيفية سلبية، حينما يقدم المرء على استعمال الكلمات المجازية؛ بما هي كلمات لا تقوم على حقيقة الشيء، وإنما على معان استعارية متخيلة، تتطلب التأويل والتفسير بغية إخراج المعنى المجهول، من الكلام المعلوم. وإذا كان الأمر كذلك، فإن استعمال الكلام بكيفية مجازية، قد يؤدي إلى خلق نوع من سوء الفهم في أفهام الناس، بحيث لا يقدرون على التوافق بشأن كلمة من الكلمات التي تحتاج إلى تفسير، لإخراج ومعرفة دلالات أصحابها.

ثالثا، ما دام الإنسان محبا لما يملك في ذاته أو لذاته، فإنه في عملية إبداعه لجملة من الكلمات والأسماء، قد يعتبرها شأنا خاصا به. غير أن هذا الأمر لا يطرح مشكلة، من حيث إن حب التملك هوى إنساني، بينما المشكلة تقع حينما يبدع الإنسان كلمات قد تكون فارغة من المعنى، مثل تلك الكلمات التي كانت متداولة في التقليدين الفلسفي واللاهوتي الوسيطين، والتي لا تفيد في شيء، كالأقنوم، وتحول خبز القربان إلى جسد المسيح ودمه، الآن الأزلي…إلخ.

رابعا، لئن كانت اللغة من حيث الاستخدام الإيجابي تستعمل للهو والتنكيت لبعث الفرح لدى البشر، فإن اللغة في استخدامها السلبي يمكن أن تكون وسيلة لإذاية الناس. فاللغة بما هي قوة تحملها الذات البشرية، فإنه يمكن أن تستعمل بكيفية سلبية تؤدي إلى خلق فضاء للصراع بين الناس، لاسيما، في استعمال بعض الكلمات التي تقلل من شأن الإنسان كإنسان. يقول هوبز:

«والرابعةهي عندما يستخدمونها ليؤذي بعضهم بعضا: وبما أن الطبيعة قد سلحت المخلوقات الحية بعضها بالأسنان، وبعضها بالقرون، وأخرى بالأيدي لتؤذي عدوها، فإنه لمن إساءة استخدام النطقأن نؤذيه باللسان، ما لم يكن إنسانا نحن مجبرون على أن نحكمه، فعندئذ لا يكون الغرض أن نؤديه وإنما أن نؤدبه ونصلحه.»[12].

وبناء على ما سبق، نستنتج أن اللغة حتى وإن كانت من الأدوات الأساسية التي لا غنى عنها في حياة الإنسان، فإن اللغة باعتبارها صناعة بشرية، لها القابلية لكي تستعمل بطرق تكاد تكون أحيانا عامة تبتغي تحويل الخطاب الذهني إلى كلمات وأسماء شفوية هدفها تذكر ما مضى-الربط بينه، أو خاصة تبتغي معرفة أسباب الأشياء وتعليمها، والتعبير عن إرادة صاحبها ورغباته، والترويح عن النفس. لكن، إن كان الاستخدام الخاص إيجابيا أحيانا، فإنه يمكن أن تستعمل بكيفية سيئة حينما تقوم على مجموعة من الأسماء والكلمات الفارغة من المعنى.

هوامش

[1]لوكيلي عبدالحليم حاصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة، ويشتغل أستاذا لمادة الفلسفة.

[1]وماس هوبز. اللفياثان: الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة. ترجمة ديانا حرب وبشرى صعب؛ مراجعة وتقديم رضوان السيد. ط. 1. (أبوظبي: معهد أبو ظبي للثقافة والثرات، 2011)، ص. 40.

[1] Thomas Hobbes. De La Nature Humaine; ou exposition des facultés, des actions et des passions de l’âme, et de leurs causes déduites d’après des principes philosophiques qui ne sont ni reçus ni connu. Trad. Baron D’Holbach. 1eéd. (Saguenay: les classiques des sciences sociales (bibliothèque numérique), 2002). p.63-64.

[1]توماس هوبز، اللفياثان، مصدر سابق،ص. 41.

[1]يعتبر هوبز أن الخطاب الذهني يتميز عن الخطاب الكلامي، من حيث إن الأول خطاب يفيد تعاقب الأفكار أو ترابطها في سلسلة سببية، أما الخطاب الكلامي فهو ليس إلا خطابا يحتوي على جملة من المفردات دون أن يكون هناك نوع من الترابط في الأفكار. وإذا كان الأمر كذلك، فإن النوع الأول من الخطاب هو خطاب مصمم، من حيث إنه ثابته وله رغبة تنظمه وتوجهه نحو ذاته. أما النوع الثاني، فهو خطاب غير موجه، و«لا تصميم له، وغير ثابت، وليس فيه فكرة شغوفة تحكم الأفكار التي تليها وتوجهها نحو ذاتها، كما تذهب الرغبة، أو أية شهوة أخرى إلى غايتها وموضوعها.». وعليه، إن الخطاب الفلسفي-العلمي هو الخطاب الذي يقوم على نوع من الترابط بين السببي، المصمم والثابت، وليس العكس. أنظر:

-توماس هوبز، اللفياثان، مصدر سابق،ص.33-34.

[1]المصدر عينه،ص. 41.

[1]المصدر عينه.

[1]المصدر عينه.

[1]المصدر عينه.

[1]المصدر عينه.

[1] المصدر عينه.

[1]المصدر عينه.


[1]لوكيلي عبدالحليم حاصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة، ويشتغل أستاذا لمادة الفلسفة.

[2]وماس هوبز. اللفياثان: الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة. ترجمة ديانا حرب وبشرى صعب؛ مراجعة وتقديم رضوان السيد. ط. 1. (أبوظبي: معهد أبو ظبي للثقافة والثرات، 2011)، ص. 40.

[3]Thomas Hobbes. De La Nature Humaine; ou exposition des facultés, des actions et des passions de l’âme, et de leurs causes déduites d’après des principes philosophiques qui ne sont ni reçus ni connu. Trad. Baron D’Holbach. 1eéd. (Saguenay: les classiques des sciences sociales (bibliothèque numérique), 2002). p.63-64.

[4]توماس هوبز، اللفياثان، مصدر سابق،ص. 41.

[5]يعتبر هوبز أن الخطاب الذهني يتميز عن الخطاب الكلامي، من حيث إن الأول خطاب يفيد تعاقب الأفكار أو ترابطها في سلسلة سببية، أما الخطاب الكلامي فهو ليس إلا خطابا يحتوي على جملة من المفردات دون أن يكون هناك نوع من الترابط في الأفكار. وإذا كان الأمر كذلك، فإن النوع الأول من الخطاب هو خطاب مصمم، من حيث إنه ثابته وله رغبة تنظمه وتوجهه نحو ذاته. أما النوع الثاني، فهو خطاب غير موجه، و«لا تصميم له، وغير ثابت، وليس فيه فكرة شغوفة تحكم الأفكار التي تليها وتوجهها نحو ذاتها، كما تذهب الرغبة، أو أية شهوة أخرى إلى غايتها وموضوعها.». وعليه، إن الخطاب الفلسفي-العلمي هو الخطاب الذي يقوم على نوع من الترابط بين السببي، المصمم والثابت، وليس العكس. أنظر:

-توماس هوبز، اللفياثان، مصدر سابق،ص.33-34.

[6]المصدر عينه،ص. 41.

[7]المصدر عينه.

[8]المصدر عينه.

[9]المصدر عينه.

[10]توماس هوبز، اللفياثان، مصدر سابق،ص.41.

[11]المصدر عينه.

[12]توماس هوبز، اللفياثان، مصدر سابق،ص.41.

Exit mobile version