ترجمة يوسف اسحيردة
“الفلسفة: مذهب وممارسة الحكمة (لا مجرد علم)” كانط
[…] إن الفلسفة ليست عِلما، ولا حتى معرفة؛ هي ليست معرفة إضافية: إنها تفكير في العلوم الموجودة. لذلك لا يُمكن تَعَلُّمُ الفلسفة، كما يقول كانط: لا يمكن سوى تَعَلُّم التفلسف. كيف؟ من خلال التفلسف بأنفسنا: من خلال التساؤل حول فكرنا الخاص، وفكر الآخرين، والعالم، والمجتمع، وما تعلمنا التجربة إياه، وما تجعلنا نجهله…أن نلتقي في الطريق أعمال هذا الفيلسوف المُحترف أو ذاك، هذا ما ينبغي تمنيه. سنُفكر بشكل جيد وأقوى وأعمق. سنذهب أبعد وبشكل أسرع. مع أن هذا المؤلف، كما يُضيف كانط، ” لا يجب أن يُعتبر كنموذج للحكم، وإنما فقط كفرصة لِنُلقي بأنفسنا حكما عليه، وحتى ضده”.
لا أحد يُمكنه أن يتفلسف في مكاننا. أن يكون للفلسفة مُختصوها، ومُحترفوها، ومُدَرٍّسُوها، هذا مفهوم. لكنها ليست تخصصا في المقام الأول، ولا مهنة، ولا حتى مادة دراسية جامعية: إنها بُعد مُكَوِّن للوجود الإنساني. فبمجرد ما نكون مُتمتعين بالحياة والعقل، يطرح السؤال نفسه علينا جميعا، لا محالة، بِربط هاتين المَلكتين واحدة بالأخرى. بالطبع يُمكن استخدام العقل دون تفلسف (مثلا في العلوم)، والعيش دون تفلسف (مثلا في الغباوة أو العاطفة). لكن مُطلقا التفكير في عيشنا وعيش أفكارنا دون تفلسف. بما أن هذا هو الفلسفة نفسها.
البيولوجيا لن تُخبر أبدا بيولوجيًّا كيف يجب العيش، ولا إذا كان يجب ذلك، ولا حتى إذا كان يجب ممارسة البيولوجيا. العلوم الإنسانية لن تُخبر أبدا عن قيمة الحياة، ولا عن قيمتها هي نفسها. لهذا يجب التفلسف: لأنه يجب التفكير في ما نعرفه ونعيشه ونريده، ولاتكفيه أي معرفة أوتُغني عنه. الفن؟ الدين؟ السياسة؟ إنها أمور كبيرة، لكنها هي الأخرى يجب أن تُساءل. إلا أننا بمجرد ما نُسَائِلُها أو نتساءل حولها بعمق قليلا، نخرج منها، على الأقل جزئيا: نخطو مُسبقا خطوة في الفلسفة. أن هذه الأخيرة يجب أن تُساءل بدورها، لن يُعارض ذلك أي فيلسوف. لكن مساءلة الفلسفة، لا تعني الخروج منها، وإنما الدخول إليها.
عبر أي طريق؟ اتبعتُ في هذا الكتاب الوحيد الذي أعرفه حقا، طريق الفلسفة الغربية. هذا لا يعني أنه لا تُوجد طُرق أخرى. أن تتفلسف معناه أن تعيش بالعقل، الذي هو كوني. كيف تكون الفلسفة حكرا على أيٍّ كان؟ أَنَّ هناك، على سبيل المثال في الشرق، تقاليد تأملية وروحانية، لا أحد يجهل ذلك. لكن لا يمكن الحديث عن كل شيء، وستكون هناك بعض السخافة، من طرفي، أن أدعي تقديم أفكار شرقية لا أعرف معظمها إلا عن طريق اليد الثانية […]
العيش بالعقل، قُلْت. هذا يُحدد وجهةً، التي هي وجهة الفلسفة، لكن لا ينبغي أن يستنفذ مضمونها. الفلسفة تساؤل جذري، بحث عن الحقيقة الشاملة أو النهائية (وليس عن هذه الحقيقة الخاصة أو تلك)، تفكير انعكاسي (رجوعٌ للذهن أو العقل إلى ذاته: فِكْرُ الفِكْرِ)، تأمل حول تاريخنا الخاص أو تاريخ البشرية، بحث عن أكبر قدر ممكن من الاتساق، عن أكبر قدر ممكن من العقلانية (إنها فن العقل، إذا أردنا، لكنه يُفضي إلى فنٍ للعيش)، انشاء لأنساق أحيانا، صياغة لأطروحات وحجج ونظريات… دائما. لكنها أيضا، وربما أولا نقد للأوهام والأحكام والأيديولوجيات.
كل فلسفة هي معركة. سلاحها؟ العقل. أعداؤها؟ الغباوة والتعصب والظلامية – أو فلسفة الآخرين. حلفاؤها؟ العلوم. موضوعها؟ الكل، بالإنسان ضمنه. أو الإنسان، لكن ضمن الكل. هدفها؟ الحكمة: السعادة، لكن ضمن الحقيقة. يوجد الكثير للقيام به، ونِعم الأمر: الفلاسفة لا حدود لنهمهم.
عمليا، موضوعات الفلسفة لا تُعَد: لا شيء إنساني أو حقيقي بغريب عنها. هذا لا يعني أنها كلها متساوية الأهمية. كانط، في مقطع شهير من كتابه “المنطق”، يُلخص مجال الفلسفة في أربعة أسئلة: ماذا يمكنني أن أعرف؟ ماذا عليَّ أن أفعل؟ ما الذي يحق لي أن آمله؟ ما هو الإنسان؟ يُلاحظ كانط أن “الأسئلة الثلاثة الأولى تؤول إلى السؤال الرابع”. لكنني أُضيف أن الأسئلة الأربعة مجتمعة تُفضي إلى سؤال خامس هو، دون شك، فلسفيا وإنسانيا، السؤال الأساسي: كيف نعيش؟ بمجرد ما نُحاول الإجابة على هذا السؤال، نُمارس الفلسفة. وبما أنه لا يمكن تفادي طرحه، يجب أن نستخلص من ذلك أنه لا يمكن الإفلات من الفلسفة إلا عن طريق الغباوة أو الظلامية.
هل يجب ممارسة الفلسفة؟ بمجرد ما نطرح على أنفسنا هذا السؤال، في جميع الأحوال بمجرد ما نحاول الإجابة عليه بشكل جدي، نُمارسها سلفا. هذا لا يعني أن الفلسفة تُختزل في تساؤلها الخاص، ناهيك عن تبريرها الذاتي. لأننا نُمارسها أيضا، إلى حد ما، بشكل جيد أو سيئ، عندما نتساءل (بشكل عقلاني وجذري في نفس الوقت) حول العالم، حول الإنسانية، حول السعادة، حول العدالة، حول الحرية، حول الموت، حول الإله، حول المعرفة…ومن يُمكنه أن يتنازل عن ذلك؟ الكائن البشري حيوان مُتفلسف: لا يُمكنه التنازل عن الفلسفة دون التنازل عن جزء من إنسانيته.
يجب أن نتفلسف إذن: أن نُفكر إلى الحد الذي نستطيع، وأبعد مما نعرف. من أجل أي هدف؟ حياة أكثر إنسانية، أكثر تبصرا، أكثر اطمئنانا، أكثر تعقلا، أكثر سعادة، أكثر حرية…هدا ما ندعوه تقليديا بالحكمة، التي ستكون حياة من دون أوهام أو أكاذيب. هل يُمكن بلوغها؟ ليس بشكل تام أبدا دون شك. ذلك لا يمنع من السعي إليها، ولا من الاقتراب منها. كَتَبَ كانط أن “الفلسفة بالنسبة للإنسان مجهود نحو الحكمة، لا يكتمل أبدا”. سبب إضافي من أجل الانكباب عليها دون تأخير. يتعلق الأمر بالتفكير جيدا من أجل العيش جيدا. الفلسفة هي هذا العمل؛ الحكمة، هذه الاستراحة.
ما هي الفلسفة؟ الأجوبة تختلف تقريبا باختلاف الفلاسفة. ومع ذلك فهذا لا يمنع من تقاطعها أو التقائها عند الأهم. فيما يخصني، منذ سنوات دراستي وأنا مُنجذب لإجابة أبيقور: ” الفلسفة نشاط، من خلال خطابات واستدلالات، يمنحنا الحياة السعيدة”. معناه تعريف الفلسفة بأكبر نجاحاتها (الحكمة، الغبطة)، وهذا أفضل، رغم أن النجاح ليس كاملا أبدا، من سجنها في فشلها. السعادة هي الهدف؛ الفلسفة، الطريق. رحلة سعيدة للجميع!
Présentation de la philosophie, Albin Michel, Le livre de poche