عبد الإله الحلوي
باحث من المغرب
تسعى الكثير من الدول التي تعاني من مشاكل وأزمات في نظامها التعليمي إلى نقل والإستفادة من تجارب تعليمية عالمية رائدة مثلا: (كندا – و م أ – ألمانيا – اليابان – فنلندا..). لكن قبل الحديث عن مميزات هذه الأنظمة، ومصدر قوتها، وسبل الإستفادة منها، لابد من الإشارة إلى أن المشكلة ليست في نصوص قانونية، أو نقل بنود متطورة من هذه الدول أو تلك. بل إن المشكلة الحقيقية هي توفير الحد الأدنى من الأسس الضرورية لتطبيق تلك القوانين لنجاح أي نظام تعليمي. والتي يمكن تصنيفها إلى أربع ركائز جوهرية:
1- الموارد البشرية
جميع الأنظمة التعليمية المتقدمة سالفة الذكر وغيرها، تضع الموارد البشرية في صلب العملية التعليمية، لأنها الوسيط الأساسي في جميع العمليات التعليمية، والمحرك الأول للفعل التربوي في جميع مراحله ومستوياته، وذلك خلال :
- استقطاب الكفاءات.
- تكوين علمي مؤسساتي حقيقي ومستمر.
- تحفيز مادي ومعنوي، يوفر استقرار اجتماعي ونفسي.
- دعم وتشجيع التكوين الذاتي والبحث العلمي
والتربوي والمبادرات الخلاقة والإبداعية.
- توفير أدوات وتجهيزات ووسائل عمل مناسبة.
- تنظيم الأدوار والاختصاصات والمسؤوليات بدقة.
- اعتماد مبدأ المشاركة والتشاور في التخطيط والتنفيذ.
2- البنية التحتية التربوية (الوسائل والتجهيزات)
أي إطلالة على البنية التحتية التربوية للدول الرائدة في التعليم، سيتبين لنا مدى جودة فضاءات التربية والتعليم، ومدى توفرها على جميع الوسائل والتجهيزات الضرورية من بين خصائصها:
- مؤسسات ذات جاذبية هندسية، توفر أجواء التربية والتعليم وسبل راحة المتعلمين والعاملين بها.
- توزيع جغرافي مدروس بعناية.
- وسط جغرافي مناسب بعيد عن المؤثرات السلبية (ضوضاء التجمعات السكانية – المناطق الصناعية..).
- توفير التجهيزات الأساسية، خاصة تلك المتعلقة باستثمار التكنولوجيات الحديثة – الربط بشبكات الإنترنت – توفير قاعات ومختبرات مجهزة بأدوات البحث العلمي – قاعات رياضيات مجهزة لمختلف الأصناف الرياضية – قاعات الأنشطة الموازية (المسرح – الفنون..).
- انفتاح مؤسسات التربية والتعليم على محيطها السوسيو- اجتماعي والإقتصادي.
- عدالة مجالية وجغرافية في توزيع المؤسسات.
3- البرامج والمناهج والمواد والمقررات
إذا توفرت الركيزتان السابقتان ( الموارد البشرية والبنية التحتية )، سيسهل تنزيل برامج ومناهج دراسية متقدمة لمختلف المستويات التعليمية التي تراعي جميع الفئات العمرية المتمدرسة، وتحترم الذكاءات المتعددة، وتنمي القدرات العقلية الإبداعية في مختلف المواد التعليمية، وتنسجم مع التطورات الهائلة الحاصلة في عالم يتطور كل ثانية على الصعيد العلمي والتكنولوجي.. وترتبط بمستجدات ومتطلبات سوق الشغل.. والأهم برامج تصنع الإنسان مالك لزمام ذاته ومالك المبادرات الخلاقة.
وذلك من خلال أساسيات من بينها :
- ربط التربية والتعليم بالقيم الجوهرية لهذه العملية من أهمها احترام الذات والآخر – التعلم من أجل بناء الذات – حرية الاختيار وتحمل المسؤولية – القدرة على الإبداع والإبتكار – رفض الإتكالية والغش – قيم العمل الجماعي – ربط التعليم بخدمة المحيط، والمجتمع عموما – التفكير المستمر في المستقبل.
- عدالة تعليمية عمودية؛ تمكن جميع فئات المجتمع ولوج خدمات تعليمية جيدة. بحيث لا فرق بين أبناء الأثرياء و العمال، أو أبناء الأرياف والمدن.
- عدالة تعليمية أفقية؛ تتجلى في العمل من أجل تساوي المتعلمين في المستوى والتفوق.
- توظيف بيداغوجيات متطورة، تراعي التطور المتسارع الحاصل في مجال التربية والتعليم، وتراعي شخصية المتعلم المعاصر. ورغباته وتطلعاته.
- تقليص الإهتمام بالكم، لأن وفرة المعلومات لم يعد مشكلة أمام المتعلم المعاصر، في مقابل تطوير المناهج التي تجعله يستفيد من تلك المعلومات بفعالية، واكسابه مهارة استثمار ما يهمه وما يفيده في حياته عموما.
- – تقليص التركيز على التقويمات والامتحانات، والنقط العددية، إلى الحد الأدنى الضروري وفق معايير منسجمة، خاصة في المستويات التعليمية الأولى.
- ربط المواد الدراسية بهموم المتعلم وانشغالاته ورغباته وأيضا بمحيطه.
- ربط عملية التعلم بالحرية، والفرح، والحافزية، والنشاط.. واستثارة كل ملكات المتعلم الذهنية والوجدانية.
- تنمية السلوك المدني والاجتماعي.
- التدريس باستخدام اللغات المحلية (اللغة الأم)، بموازاة اللغات العالمية الأساسية الأكثر انتشارا في مجالات العلوم والتكنولوجيا والاقتصاد والتواصل.
- تنمية القدرات والمهارات الذهنية الأساسية منذ المراحل التعليمية الأولية (أولوية الفهم – التحليل – التفكير المنطقي – التفكير النقدي – تنمية مهارات الإبداع والإبتكار..).
- تقليص الزمن التعلم الصفي إلى الحد الأدنى المطلوب، ومنح المتعلم فرصا أكبر للاستفادة من التعلمات المختلفة في أنشطة موازية لا تقل أهمية عن تعلم المواد الأساسية.
- تشجيع التعلم الذاتي المستمر.
- استثمار التكنولوجيات الحديثة في عمليات التعلم المختلفة.
- وضع مرتكزات الحد الأدنى والأقصى لعدد المتعلمين بالفصل الدراسي حسب المستويات والمراحل ضمانا للمساواة والجودة.
- المشاركة الفعالة لأولياء الأمور في الفعل التربوي في مختلف تجلياته ومراحله داخل المؤسسات وخارجها.
فأي مقارنة بين برامج نظام تعليمي تقليدي ومتخلف، وبرامج نظام تعليمي متقدم سيلاحظ فروقات كبيرة..
فالبرامج التعليمية التقليدية / الأقل مستوى تتميز ب:
- عتاقة المناهج والبيداغوجيات المتبعة، التي لم تعد منسجمة مع التطورات الراهنة ومع شخصية متعلم اليوم.
- إعطاء الأولية للكم على حساب الكيف.
- هيمنة المناهج التي تخاطب الذاكرة والحشو والمتون والتكرار والاستظهار.
- جعل التقويمات والامتحانات وتحصيل النقط العددية النسبية، هو رهان العملية التعليمية لدى الجميع من متعلمين وأوليائهم ومدرسين والمجتمع عموما، فيكون المتعلم الناجح والنموذجي ، هو الذي حصل على معدل نهائي يمكنه من الوصول إلى المستوى الموالي، بغض النظر عن مستواه الحقيقي، وهو ما يوفر بيئة مناسبة لانتشار سلوكات تتناقض مع قيم التربية والتعليم أبرزها تفشي الغش والاتكالية والتقليد..
- تضخيم الزمن المدرسي بشكل غير منطقي، ما يشكل ضغطا عقليا ونفسيا وجسديا على المتعلمين، وعلى جميع المتدخلين عموما، وهو ما يمنع من استثمار الزمن في أنشطة موازية لا تقل أهمية عن زمن التعليمي، بحيث كلما قضى المتعلم وقتا أطول في التعلم أو التحضير للإختبارات كلما قلت فرص تنمية مهارات التفكير والسؤال والنقد.
- كتب مدرسية لا تراعي الذكاءات المتعددة، والفروقات العمرية، ولا تشكل أي جذب ذهني أو حسي للمتعلم.
- ربط المواد الدراسية بمعاملات رقمية حسب أهميتها، ما يجعل المتعلم يصنف المواد حسب تلك المعاملات حيث يهتم بمواد دراسية على حساب مواد فقط لأن معاملاتها أعلى من الأخرى.
- جعل المتعلم مجرد متلقي سلبي للمادة المدرسة، وانعدام التشجيع على حرية الاختيار والمبادرة.
- محدودية التوجيه والإرشاد المدرسي واختيارات مسار التكوين العالي وربطها بمتطلبات سوق الشغل فقط دون فسح المجال للمتعلم لاختيار ما يريد حسب رغبته.
- ربط النظام التعليمي بالمستقبل المهني والوظيفي فقط، دون ربط التعليم برهانات إستراتيجية أكبر ما يجعل المتعلم في شك وحيرة من العملية برمتها :هل أتعلم لأحصل على وظيفة؟ أم أتعلم من أجل التعلم؟
- نظام تعليمي طبقي، من خلال تشجيع التعليم الخاص وربطه بقيم المقاولة والاستثمار المادي، مقابل تعليم عمومي مجاني أو شبه مجاني ضعيف، ونتيجته مستوى متدني للخريجين، وهدر مدرسي كبير يضيع على المجتمع طاقات وكفاءات. وهو ما يساهم في توسيع حتمي للأزمات الإجتماعية وإعادة إنتاج ظواهر اجتماعية معروفة (بطالة – إجرام – إنحراف – أمية – تطرف.. ).
- عدد كبير للمتعلمين بالفصل الدراسي الواحد يسبب مشكلات متعددة معروفة.
- غياب أي دور فعال لأولياء أمور المتعلمين.
- ضعف انفتاح مؤسسات التربية والتعليم على محيطها.
4 – الإرادة السياسية والإجتماعية
لا يمكن للركائز الثلاثة السالفة أن تتحقق وتتطور بدون إرادة سياسية للدول التي تريد بناء نموذج تعليمي حقيقي، وبدون رغبة اجتماعية فعلية موازية. ففي جميع دساتير العالم بدون استثناء هناك بنود تتحدث عن التعليم كواحد من أهم الحقوق المكفولة للمواطنين، وأن الدولة تسخر جميع إمكانياتها لتحقيق هذا الهدف، وهذا يدل على أهمية التعليم بالنسبة لمستقبل المجتمع، ومدى تطلعه إلى تحقيق التقدم والنمو والازدهار في مختلف المجالات العلمية والاقتصادية والثقافية والإستراتيجية. لذلك تعمل هذه الدول على جعل سياساتها التعليمية فوق جميع التجاذبات السياسية والإيديولوجية، وبعيدة عن أي صراعات محتملة. أو التقليل من أهمية التعليم لمستقبلها. ذلك أن السياسية التعليمية تبقى مستمرة رغم تغير الحكومات والمسؤولين تجسيدا لمبدأ الثبات والاستمرارية، دون إغفال مبدأ التطوير والتغيرات الضرورية. والواقع يبين أن الدول التي تسعى إلى تطوير تعليمها هي دول التي راهنت على مبدأ الديمقراطية والمحاسبة والكفاءة في سياساتها التعليمية، حيث بدأت تنجح في حصد ثمار سياساتها التعليمية المضبوطة، والأمثلة في ذلك متعددة.
****
في بروباغاندا الصراع العربي – الإسرائيلي
21 مايو 2021 عامة, متابعات, مجلات التعليقات على في بروباغاندا الصراع العربي – الإسرائيلي مغلقة

عبد الإله الحلوي كاتب رأي من المغرب البروباغاندا propagande والدعاية من الأسلحة الرئيسية في كل الحروب عبر التاريخ. الهزيمة والفوز رهينان بمدى استعداد كل طرف وفاعلية وسائله واستراتيجياته وموازين القوة .. لإضعاف الخصم وهزيمته. البروباغاندا في الحروب القديمة كانت تستخدم الوسائل الدعائية الكلاسيكية من نشر الإشاعات، وإطلاق الآقاويل، …أكمل القراءة »
خرافة إصلاح التعليم
20 مايو 2021 عامة, متابعات, مجلات التعليقات على خرافة إصلاح التعليم مغلقة

عبد الإله الحلوي / المغرب بكاء أم تباكي؟ أمسى كل من “هب ودب ” يتكلم عن مشاكل التعليم العمومي بالمغرب، بالخصوص عند كل حادثة عرضية هنا أو هناك تنتشر في وسائل التواصل الاجتماعي. إن أهل الدراية يعلمون أن مشاكل التعليم العمومي أعمق وأعقد من مجرد أن تُختزل في واحدة …أكمل القراءة »
الديمقراطية الصورية
26 يوليو 2017 عامة, مفاهيم التعليقات على الديمقراطية الصورية مغلقة

عبد الإله الحلوي – باحث من المغرب تحترم السلطة التنفيذية نفسها في دولة “الديمقراطية الفعلية” عندما تخضع “لإرادة” الموطنين الذين انتدبوها لتسيير شؤونهم ورعاية المصلحة العامة، على أساس دستور ديمقراطي شعبي، يفصل بين السلط ويضع أليات لمراقبة عملها ومحاسبتها. لكن في الدولة التي تتبنى الديمقراطية الصورية، وهي ديمقراطية الخطابات والشعارات …أكمل القراءة »
احتجاج مواطن بسيط
1 يونيو 2017 عامة, مساهمات التعليقات على احتجاج مواطن بسيط مغلقة

بقلم: عبد الإله الحلوي عرف المغرب في الخمس سنوات الأخيرة انتكاسات خطيرة على المستويين الاجتماعي والسياسي، تراجُعات حقيقية في مختلف المجالات. وإن كان المواطن البسيط لا يفهم لغة الأرقام التبريرية التي تستعملها الحكومات، فإنه بالملموس يعاني من السياسات العمومية البئيسة الراكعة لإملاءات المؤسسات المالية الدولية، التي أدت إلى ضرب قدرته …