عبد العالي خليفة/ المغرب

على سبيل التقديم:
إن الجرأة المنهجية “شرط وجودي” لإنتاج سوسولوجيا نوعية تهفو إلى تحليل وفهم الظواهر الاجتماعية. فحاجة المجتمعات اليوم إلى “سوسيولوجيا أكثر اقترابا من قضايا المجتمع؛ بات أمرا ملحا في راهننا هذا[1]“؛ أي معرفة تواكب إفرازات الاجتماعي وتنشد الفهم الواعي للظواهر. فالسوسيولوجيا “كما يقول آلان تورين لا يمكن أن تفكر إلا انطلاقا من الميدان الذي تدرسه[2]“، والواقع ” أن النزول إلى الميدان في العلوم الإنسانية عموما، يكتسي أهمية كبرى، لكونه يفصل بين المعرفة العفوية الانطباعية والمعرفة العلمية الواقعية، ذلك أن إخضاع ظواهرنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية إلى محك المناهج وفحص المنهج على ضوء فعاليته في التعاطي مع هذه الظواهر، و فحص الظواهر ذاتها في قدرتها على الاستجابة للمنهج، ذلك هو التعبير المباشر عن هم المتطلع للعلوم الانسانية[3]“.
يطرح موضوع الاحتجاج داخل السوسيولوجيا بحدة مسألة ترتيب العلاقة بين الباحث وموضوع البحث على مستويين حاسمين على الأقل؛ يتعلق أولهما بالمسافة العلمية التي يفترض في الباحث أن يحترمها وهو يحاول مقاربة حدث اجتماعي ينتج من طرف العديد من الفاعلين الاجتماعيين، وذلك وفق حمولات رمزية تترجم عبر رزنامة من القيم والشعارات والرموز؛ الشيء يفرض على الباحث الانخراط في هذا الحدث، لغاية فهم المنطق الذي يشتغل به الفاعلون داخله(الحدث)، لكن دون أن يدفع هذا الانخراط الباحث إلى أن يصبح طرفا في توجيه مجريات البحث أو نتائجه، وذلك مرده بالأساس إلى أن إنتاج المعرفة العلمية حول الخطابات الاحتجاجية يقتضي درجات عليا من “البرود” العلمي و”اليقظة” المنهجية. أما المستوى الثاني فيتعلق بالأساس بأن اللغة والمصطلحات والرموز التي تستخدم أثناء الاحتجاج هي مجرد مادة ونواة صلبة للتحليل السوسيولوجي، وليست نتاجا له. في هذا الصدد حاولنا في إطار اشتغالنا على هذا الموضوع الإلمام، بقدر ما، بالوعي الاحتجاجي الذي تبنته فصائل الألتراس المغربية، و الذي بات يشغل مساحات شاسعة جدا من اهتمامات الباحثين على اختلاف مناقبهم الفكرية. و تجد الإشارة في هذا المقام أن الاهتمام بالخطاب الاحتجاجي المنتج من طرف فصائل الألتراس ارتبط ارتباطا وثيقا بما سمي ب”الربيع الديمقراطي” داخل كل من شمال إفريقيا و الشرق الأوسط، حيث عملت هذه المجموعات، في لحظة ما من لحظات وجودها، على إنتاج خطاب احتجاجي قائم على إبداع رزنامة من المفاهيم الجديدة حول الواقع السياسي والاجتماعي، وبلورتها من خلال جملة من الشعارات والرموز التي يتم الترويج لها بكيفية قادرة على التأثير في المتلقي لهذا الخطاب. ففي ظل تراجع الوساطة المدنية والسياسية؛ أصبحت ملاعب كرة القدم تشكل تعويضا لمواقع الاحتجاج الكلاسيكية، بل أضحت بمثابة “مواقع تتم من خلالها التنشئة السياسية الفردية والجماعية، وتقمص هويات “نضالية” ظرفية. وهذه التنشئة تستند إلى المطالبة والترافع على مجموعة من القيم المادية، مثل الصحة والتشغيل والتعليم ومستوى المعيشة، وأيضا على نقد مرير وسخرية لاذعة من السياسات العمومية، مدعوم بعبقرية خطابية جماعية شبابية ونشاط سياسي افتراضي[4]“، وذلك من خلال انتاج خطابات سياسية تتمثل وظيفتها بالأساس في التعبئة والاحتجاج، وكذا “التفاوض” غير المباشر مع السلطة السياسية.
الشباب المغربي و حالة “اللاتسيس”:
إلى عهد قريب جدا؛ كانت مجموعة من الفئات الاجتماعية تنظر إلى ¨كرة القدم¨ باعتبارها إحدى الوسائل الناجعة التي تستخدمها “الأنظمة السلطوية” لصرف مواطنيها عن المجال السياسي، كمحاولة جادة منها لتمييع السياسة وتحييدها من دائرة انشغالاتهم، وذلك من خلال تسويقها لصور قاتمة حولها، وهذا ما جعلها تعمد إلى شغل الرأي العام بانتصارات وهزائم ¨وهمية¨، وذلك على حساب قضايا وطنية كبرى تحمل من الأهمية الشيء الكثير. ومن هذا المنطلق؛ كان ينظر لحالة “اللاتسيس” “التي يعيشها الشباب المغربي كظاهرة مفتعلة خارجة عن إرادتهم كأفراد، وأنها خيار استراتيجي تنتهجه الدولة من خلال احتكارها إنتاج المعنى السياسي، ونهجها سياسة نزع الطابع السياسي عن المجال العام[5]“. لكن هذا التصور اندثر بشكل نسبي مع ظهور مجموعات “الألتراس”، التي حاولت منذ بداياتها الأولى اختراق هذه ¨الفوبيا¨ من خلال انخراطها شبه المباشر في الحياة السياسية المسيجة بمنطق الصمت، مكونة بذلك مجموعات شبابية راغبة في التحرر من القواعد والضوابط الموجبة للامتثال والخضوع والرضوخ للهيمنة.
فظهور فصائل “الألتراس” في المغرب لم يقابل بترحيب كبير في البداية، بل على العكس من ذلك؛ حيث شنت وسائل الإعلام هجوما ضاريا على هذه المجموعات، وذلك من خلال تسويقها لأفكار تنظر للألتراس على أنها مجموعات لإنتاج التعصب و الرديكالية… و هذا العنف الرمزي الذي تعرضت له هذه الفصائل، دفعها إلى تبني “عنف مضاد” ((la contre-violence يختلف من حيث الحدة والدرجة، حيث تجاوز ذلك العنف الرمزي إلى التدخل الجسدي. وكنتيجة للتضييق الذي تتعرض له هذه المجموعات من طرف المؤسسة الأمنية، والمتمثلة أساسا في منعهم من إدخال الأدوات واللوازم التشجيعية، فقد عملت فصائل “الألتراس” على إنتاج جهاز من المقولات الساخرة والمقزمة لتلك الصور ¨البانورامية” السائدة حول هذه المؤسسة، وهذا ما جعلها تفرض نفسها كمكون جديد داخل الساحة المجتمعية والفضاء العام، معيدة بذلك ترتيب قواعد التفاعل مع السلطة من جديد.
الملاعب الرياضية كفضاءات جديدة للاحتجاج :
عندما تتراجع حرية التعبير داخل مجتمع ما، يصبح الملعب بمثابة متنفس جماعي لها. والدولة بدورها تذهب إلى هذا المنحى؛ حيث أنها جعلت من الملعب مجالا لتفريغ الاحتقان الاجتماعي، وذلك ليسهل عليها تطويقه ورسم حدوده وضبطها. فالرياضة ليست جزء معزولا عن المجتمع، كما أن السياسة والانتماء الاجتماعي ليسوا بخارجين عن نطاقها، ومنه يمكن القول بأن الرياضة أصبحت اليوم بمثابة أداة جيوسياسية بامتياز داخل المجتمعات الحديثة. ف”الثقافة الألتراوية La culture ultras ” باعتبارها ثقافة فرعية أصبحت تشكل موجة للتمرد؛ فقدرتها على تسويق أفكارها و التزامها و استقلاليتها المادية هو سر استمراريتها. فالشباب منذ ستينات و سبعينات القرن الماضي؛ كانوا غالبا ما يعبرون عن مواقفهم بخصوص القضايا ذات الطبيعة السياسية و الاجتماعية داخل فضاءات معينة كالحرم الجامعي، و شبيبات الأحزاب السياسية، و جمعيات المجتمع المدني… لكن بعد تراجع دور هذه المؤسسات في تأطير الشباب، أصبح الملعب بمثابة فضاء للتعبير عن المطالب الاجتماعية، بحيث أنه لم يعد يختلف عن باقي الفضاءات الاحتجاجية الأخرى بأي وجه من الأوجه، فهو “يقدم نفسه كواحد من الأماكن النادرة التي يعبر من خلالها المجتمع الحضري – في عنصره الذكوري على الأقل- عن المشاعر و الرموز المحظورة داخل الحياة اليومية الاعتيادية[6]“. وقد تم اعتماد الملاعب الرياضية كفضاءات احتجاجية جديدة بشكل مباشر بعد انتفاضات ما سمي “بالربيع العربي” داخل كل من شمال إفريقيا والشرق الأوسط، حيث شكل هذا الأخير “فرصة مواتية لظهور هويات وخطابات سياسية جديدة حول السلطة، وبلورة آليات جديدة للنقد والتفاعل مع الفاعل السياسي بغض النظر عن مكانته في بنية الدولة ومؤسساتها، حتى و إن تعلق الأمر بشخصيات تصنف بوصفها مقدسة أو فوق السلطة في هذه المجتمعات[7]“، وفي هذا السياق؛ فقد شاركت فصائل “الألتراس” في مجموعة من التظاهرات الشعبية، وعملت على تأطيرها ومواكبتها؛ رافعة بذلك جملة من المطالب الاجتماعية والسياسية المتمثلة بالأساس في المطالبة بالعدالة الاجتماعية والمجالية، ومحاولة خلق مواقع جديدة للفاعلية (Agency) الاحتجاجية الشبابية، بحيث أصبح هؤلاء الشباب يقدمون أنفسهم ” كبديل تاريخي قادر على انتزاع المبادرة من الطبقة العاملة لتشكيل الوعي التقدمي وإنجاز مهمات التغيير[8]“. وتتخذ الخطابات الجديدة – بما فيها تلك التي أنتجتها فصائل الألتراس- حول السلطة والهويات السياسية من “شبكات ووسائل التواصل الاجتماعي ومن التكنولوجيات الجديدة للإعلام والتواصل مجال اشتغالها الأول والأساس، حيث يشكل (الفيسبوك Facebook ) و(الواتساب Whatsapp) و(اليوتيوب Youtube)على سبيل المثال لا الحصر؛ منصات ومواقع لكثير من الأفراد والجماعات…غير المتجانسة سياسيا وثقافيا واجتماعيا، تعبر من خلالها بشكل علني وحر عن مواقفها من الدولة والسلطة السياسية، والنخب السياسية والاقتصادية. ولاسيما أن شبكات التواصل الاجتماعي تعد مجالات سائلة بالمعنى الذي يعطيه زيجمونت باومن لهذا المفهوم، أي مجالات يصعب، بل يستحيل مراقبتها ومنعها[9]“. ففصائل “الألتراس”؛ جعلت من الإنترنت و”الفضاءات السيبرانية” “ميدانا لتشكل الكثير من الهويات السياسية الافتراضية التي تعكس المواقف من السلطة السياسية، ومواقع القوة في المجتمع والمؤسسات التي تحكم الفضاء العمومي”، مؤسسة بذلك جملة من خطابات المقاومة والمناهضة لما هو قائم وجاري داخل المجتمع. وفي ظل الاحتقان الذي يطبع المجتمع المغربي خلال الآونة الأخيرة؛ أصبحت فصائل “الألتراس” تتبنى خطابا ذا حمولة احتجاجية تعبر من خلاله عن رفضها لتدهور الأوضاع المعيشية، واتخذت من الفضاء الرقمي بوابة للحشد والتعبئة، وكذا فضاء لتصريف خطابها والتعبير عن مواقفها إزاء القضايا التي تهم الشأن العام، وهذا ما جعلها في لحظة معينة تقدم نفسها كحركة شبابية للمقاومة، وذلك من داخل بنيات غير منظمة قانونيا.
لقد كان للتحولات الاجتماعية التي عرفها المغرب؛ دور بارز في ظهور مجموعة من الأشكال الاحتجاجية الجديدة. فالإقصاء، والإهدار القصدي لطاقات الشباب، وإبعادهم من دوائر صنع القرار، والنظر إليهم من طرف مالكي وسائل الإنتاج والإكراه كمجرد طاقات عاطلة أو خزان انتخابي فقط؛ كلها عوامل كان لها بالغ الأثر في تبني الشباب لأشكال احتجاجية وتعبيرية جديدة سعوا من خلالها إلى الدفاع عن حقهم في الشغل والعدالة والمساواة والحرية، وغيرها كثير من المطالب الأخرى. فمجموع التحولات التي عرفها المجتمع الغربي؛ أصبح يهيئ بعض “شروط تحرر الفرد من الروابط والإكراهات القديمة، ويفتح أمامه طيفا أكبر من الاختيارات وقسطا أكبر من الحريات[10]“، وهذا ما دفعه إلى محاولة إنتاج خطابات احتجاجية تعبر عن رفضه لما هو جاري وقائم من الأوضاع، وذلك بعدما أصبحت هذه الأخيرة تتكرس بفعل ما يعتمل في رحاب المجتمع من تسلط وتهميش وإقصاء. فهذه الخطابات الاحتجاجية؛ باتت تعبر عن دينامية تنفتح بمزيد من الجرأة والفاعلية على مختلف الانشغالات والانتظارات الأساسية التي تهم الأفراد في سياقات سوسيوسياسية معينة. و إذا ما عدنا إلى تاريخ المغرب المعاصر؛ سنجد بأنه عرف خلال السنوات الأخيرة تناميا ملحوظا لأشكال و صيغ الاحتجاج داخله، “ففي أكثر من مناسبة و على غير قليل من الأصعدة، لاحت حركات مختلفة في النوع و الدرجة، و هي تمارس “فعلها و سلوكها” الاحتجاجي، تعبيرا عن موقف يكون منطويا على الرفض في كثير من الأحيان[11]“. و من هذا المنطق؛ حاولت فصائل “الألتراس” المغربية انتاج جملة من الخطابات الاحتجاجية ذات الملمح الشبابي، وذلك كمحاولة جادة منها لتجاوز حالة التهميش و الإقصاء المستشرية داخل المجتمع، و مطالبة بالرفع من منسوب الحرية و الكرامة، و التخفيف في المقابل من منسوب الاحتقان الذي بات يلامس المجتمع على كافة مستوياته.
فصائل الألتراس المغربية و سيرورة “مسرحة” الاحتجاج:
يمكن القول ابتداء أن ما يميز الخطابات الاحتجاجية التي تنتجها فصائل ” الألتراس” اليوم عن غيرها؛ هي تلك الحمولة الرمزية الفارقة التي يحبل بها هذا الخطاب، و الذي يتم تجسيده و بلورته من خلال “مسرحة” فعل الاحتجاج نفسه. فالتفاعلات الخطابية حسب غوفمان؛ تحتمل على الأقل ثلاثة صيغ تشبيهية لتحليل معناها، فيمكن في لحظة أولى أن نقاربها من منظور مسرحي، كما يمكن أن نقاربها من منظور ثاني طقوسي، أو منظور آخر ترفيهي يحيل على اللعب. فالفعل و الخطاب الاحتجاجي الذي تبنته فصائل “الألتراس”؛ لا يقف عند الحدود “المسكونة بالهواجس الأمنية و لا يقتصر فقط على المطالبة، ففضلا عن كونه أداة ثورية رافضة، فإنه يتحول في سيرورته إلى معايشة اجتماعية تفترض وجود طقوس خاصة مما يغرقه في احتفالية الموقف[12]“، بحيث يعمل الجمهور الرافع و الحامل لهذا الخطاب على كسر “رتابة الوقت بابتداع أساليب و طرائق مختلفة تحيل الفعل إلى عرس[13]” احتجاجي. فغالبا ما تركن فصائل “الألتراس” أثناء رفعها لرسائل أو شعارات موجهة نحو الدولة إلى جعلها ذات حمولة احتفالية/طقوسية، و هو الأمر الذي يقود الاحتجاج “كاحتجاج اجتماعي نحو المزيد من التجذر طقوسيا و احتفاليا. و يجعله متضمنا بالضرورة لخطوات و عمليات يتوجب المرور منها حتى يكتسب شرعية الانوجاد[14]“، و هذا البعد الطقوسي، هو الذي يدفع بالخطاب الاحتجاجي الذي تنتجه هذه المجموعات إلى الانغراس في الوعي الجمعي للأفراد.
إن الانتشار والذيوع السريع الذي عرفه الخطاب الاحتجاجي المنتج من طرف فصائل “الألتراس”؛ يعود بالمقام الأول إلى “هذه الاحتفالية التي تؤطره، بل إن الإقبال عليه يحدده هذا العنصر بدرجة عالية”. فالملح الشبابي الذي يطبع هذه المجموعات هو الذي يجعل الاحتجاج يأخذ منحى “الاحتفالية بدءا من الوعي بالقهر الاجتماعي المتمثل في الحرمان من الشغل إلى الفعل، فالمعايشة و الاستمرار نضالا واحتفالا[15]“. فرفع فصائل “الألتراس” للأعلام و الشعارات و اللافتات الضخمة…؛ ينطوي “على الكثير من الرموز الاحتفالية، بل إنها تؤسس طقوسا فرجوية خاصة تتطلب قراءة سيميولوجية، وذلك عبر محتوى اللافتات واليافطات ومضمون الشعارات[16]“.
إن الخطابات الاحتجاجية التي انتجت من طرف فصائل “الألتراس” “تؤكد الملمح الشبابي للفعل الاحتجاجي بالمغرب، كما ستؤكد ملحاحية المسألة الاجتماعية اتصالا بالتشغيل[17]” وتحسين ظروف العيش، و غيرها من القضايا التي ظلت مغيبة لسنوات عديدة. فحضور هذا الخطاب اليوم داخل الفضاء العام؛ ينم عن “عمق الأزمة البنيوية و فداحة الموقف التنموي، فالاحتجاج في البدء و الختام هو إدانة صريحة و صارخة للتنمية المعطوبة و المشوهة[18]“.
فصائل الألتراس المغربية و محاولة الاختراق و الضبط:
ففي ظل انتاجها لخطابات احتجاجية ذات حمولة سياسية، و في إطار مسرحتها لفعل الاحتجاج الذي مس فئات عريضة داخل المجتمع؛ عملت وزارة الداخلية المغربية في لحظة معينة (2016)– و تحت مبرر ممارسة الشغب و العنف – على إصدار قرار بحل روابط “الألتراس” داخل المغرب، بحيث تم حظر دخول جميع أطياف “الألتراس” – و ما يحيل عليها من رموز و شعارات- إلى الملعب لمدة سنة كاملة، لكن بعد عودتها إلى الملاعب، “صار فعل الألتراس في المغرب، لا سيما ألتراس الرجاء و الوداد البيضاوي و النادي القنيطري، يكتسي شعارات خطابية مهتوفة و مغناة و مكتوبة متضمنة لمنسوب عال من الاحتجاج و المطالب الاجتماعية و السياسية[19]“. في هذا الصدد؛ أكد أحد المبحوثين بأن ” قرار حل روابط الألتراس من طرف الدولة؛ جاء بالأساس بعدما استشعرت هذه الأخيرة قوة هذه المجموعات على التعبئة، و على تعرية الواقع المر الذي يعيشه المغاربةّ، و هذا من طبيعة الحال لن يرضي الدولة، لأنها تسعى إلى أن تظل الأمور ثابتة، و ألا يخرج الشباب للدفاع عن حقه في التعليم و الصحة و الشغل… و بطبيعة الحال بررت هذا القرار بقولها : أن الألتراس تدعو الى العنف و تخريب الممتلكات العامة، في حين أن الفصائل بريئة من كل هذا، لأنها ضد العنف و ضد التخريب، و دورها الأساسي هو تأطير الجمهور، و ابعاده قدر الامكان عن ممارسة العنف و الشغب[20]“. ف”العنف” الذي مارسته الدولة حسب تعبيره، على الفصائل من خلال محاولة حلها و منع نشاطاتها؛ فرض بالضرورة “ولادة عنف يختلف عنه في الحدة و الدرجة، يحاول من خلاله “فاعلوه” الانقلاب و التحرر من العنف المؤسسي و مواجهته بأشكال تتراوح بين الخفي و الجلي، بحيث يتخذ هذا العنف المضاد صورا شتى، يصعب أحيانا حصرها بدقة متناهية أو اكتشافها في أحايين أخرى. إن العنف المضاد/ الاحتجاج الذي يرفعه الشباب في وجه النظام(…) له درجات معينة يتم تسلقها ارتفاعا كلما كان العنف المؤسسي أكثر شراسة و ضراوة[21]“. و بالتالي فمحاولة نسف و إجهاض هذه الروابط، يعود بالأساس إلى أن “الاحتجاج المنظم لا يكون مفضلا في الدول السلطوية لأن العنف و القهر هما سيدا الموقف[22]“. ففي ظل غياب إطار قانوني ينظم نشاط روابط “الألتراس”؛ يظل من الصعب اختراقها أو احتواء و ضبط تحركاتها، و ذلك انطلاقا من أنها لا تخضع لأي إطار قانوني ينظم تحركاتها من جهة، و كذا غياب قاعدة بيانات تتضمن معطيات حول الأفراد الفاعلين داخلها من جهة ثانية. و محاولة الاحتواء هاته التي اهتدت إليها الدولة؛ هي المحاولة “الأكثر تفسيرا لخبو الحركات الاحتجاجية و عسر تحولها إلى حركات اجتماعية منظمة و مستمرة في الزمان و المكان. فما أن يندلع الاحتجاج حتى تتحرك في الخفاء والعلن كل إمكانيات الاحتواء والتطويق[23]“.
وبعد رفع قرار “الحل” الذي صدر في حق فصائل “الألتراس” داخل المغرب؛ عملت هذه الأخيرة على الرفع من منسوب الاحتجاج أثناء ممارستها لأنشطتها، حيث أصبح ينظر للخطاب الذي تنتجه، باعتباره “خطاب حابل بالإشارات والرموز، إنه تعبير لغوي جسدي يرسله أفراد نحو جهة ما، يفترض أن تكون على خلاف مع هؤلاء الأفراد في شأن توزيع منافع ومصالح الحقل الذي تطمئن إليه القوى المالكة لوسائل الإكراه والإنتاج[24]“. و قد كان للاحتباس القيمي وتراجع بعض القيم، مثل: التضامن، والمساواة، والعدل… وتجذر بعض المقولات مثل: “الحكرة”، والظلم، والمظلومية، والفساد…دور مهم في تبني مجموعات “الألتراس” لفكرة الاحتجاج، فالشعارات و الرموز التي ترفعها فصائل هذه الروابط، ليست في آخر المطاف سوى “تقنية محددة مسالمة نسبيا للمطالبة، يهفو من خلالها منظموها إلى تحقيق مقاصد و مطالب معينة، و هي تعد مؤشرا هاما لعلاقات اجتماعية موبوءة و مهزوزة بين الفاعلين الاجتماعيين، و بالضبط بين المستفيدين من خيرات المجتمع و المحرومين منها[25]“. في هذا الصدد؛ اعتبر أحد المبحوثين من خلال المقابلة التي أجريناها معه أنه ” بما أن أبناء الشعب لازالوا عرضة للحكرة و الظلم من طرف المسؤولين و القائمين على الشأن العام؛ فإن أعضاء “الألتراس” لن يتوانوا في الدفاع عنهم، وهذا ما يدفعهم إلى بلورة ما يشعرون إلى شعارات وأغاني وأشكال تعبيرية أخرى من أجل ايصال صوت الشباب المقهور، الذي لا يستطيع التعبير عن رأيه بحرية (ثم بدأ المبحوث يغني) (صوت الشعب لي مقموع**بصوت الناس المهمومة**جاي نغني جاي نقول**جاي نكلاشي(*) الحكومة**فالطغيان فاتو الحدود بالمطراك ضربونا** ليبيرطا بابها مسدود** فالفيراج راه خنقونا)[26]“. فتبني روابط “الألتراس” للفعل الاحتجاجي نابع بالأساس عن حجم الفساد المستشري داخل مؤسسات الدولة وأنظمتها، بحيث أصبح الظلم، والرشوة، والشطط في استخدام السلطة…”ممارسات علنية تمارس بشكل يومي و عادي، و بشكل واثق و هادئ، و غالبا ما يشار إليه كانحراف مربح[27]“.
لقد كان للحرمان الاقتصادي، وانتشار الهشاشة، والبؤس الاجتماعي دور هام في بروز حركات الاحتجاج داخل المغرب، “فازدياد نسبة السخط الاجتماعي وانتشاره بين أعضاء المجتمع يرجع إلى صعوبة إشباع حاجياتهم الاجتماعية والاقتصادية. فالأفراد يتمردون بشكل جماعي عندما يعون أن النظام السياسي القائم لم تعد له القدرة على الاستجابة لمتطلباتهم الذاتية والجماعية، وغالبا ما يزداد منسوب هذا الوعي أثناء الأزمات المصحوبة بالركود الاقتصادي[28]“، فأفراد الفصائل المشجعة تعتريهم نفس الهواجس ويعيشون ظروفا اجتماعية مماثلة، يطبعها الفقر والبطالة والتهميش. وهذا يفسر ولو نسبيا نزوعهم للتفريغ والاحتجاج في الملعب على الهموم الجاثمة على قلوب هؤلاء الشباب، وهذا بالذات ما أكد عليه أحد المبحوثين بقوله: ” إن الهشاشة و الحرمان؛ هي التي أخرجت المواطنين للاحتجاج بالريف، و زاكورة، و إميضر… لأنه لو وفرت الدولة لمواطنيها ضروريات الحياة فقط، فلن يفكروا أبدا في الاحتجاج، لكن الدولة عوض البحث عن حلول جادة للمشاكل المطروحة، تلجأ إلى العنف، و تتهرب من مسؤوليتها اتجاه أبنائها.. ولو كانت ظروف العيش جيدة، لما فكر الشباب بالمخاطرة بحياته و ركوب زوارق الموت من أجل الهجرة (ثم بدأ المبحوث يغني) ( يا قلب حزين**يبكي على سنين يا لي ضاعت مني**مستقبل فين؟** لعمر يزيد لبوفري راه يعاني** تا أنا اجتهدت و قريت** بغيت نخدم ما لقيت** بلادي ما عطاتنيش تعطي للبراني** ما رانيش أليز فبلاد الشفارة ** ما تحلموش بالباراديس** نتلاقاو عند مولانا )[29]“. و قد “أثارت تحركات الألتراس الكثير من الجدل مؤخرا، لما تتضمنه من عبارات و رسائل تحمل الجهات المعنية تأزم الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية و حتى السياسية، و الأخطر من ذلك هي أنها لم تعد تقتصر على الميدان الرياضي فقط، و إنما اخترقت في صمت مختلف القطاعات بحضورها الوازن في الكثير من التظاهرات الاجتماعية المنددة بالسياسة الحكومية، والمطالبة بالإنصاف تحت ذريعة الإقصاء و التهميش الذي تعيشه [30]“، وبالتالي فالمعارضة التي تبنتها الفصائل التشجيعية هي “معارضة كاملة لأنها قامت بمعارضة الدولة، ومعارضة النظام السياسي، ومعارضة السياسات العمومية[31]“.
على سبيل الختام:
إن تبني روابط
“الألتراس” المغربية لفعل الاحتجاج؛ يحيل بالأساس على
مناخ اجتماعي عام بات الاحتقان الاجتماعي
والسياسي عنوانه البارز، و يأتي ذلك في ضوء عجز الفاعلين السياسيين عن تدبير القضايا
الاجتماعية المطروحة، بما يفضي إلى إحلال نوعٍ من التوازن بين الفئات الاجتماعية،
وذلك لغاية الحفاظ على حد أدنى من السلم الاجتماعي.
فارتفاع
منسوب الاحتجاج، وتمدّده في اتجاه فئاتٍ اجتماعية مختلفة، يعكس بالدرجة الأولى طلبا
متزايدا على الخدمات الاجتماعية الأساسية، و يحيل في المقابل على “إخفاق”
القائمين على الشأن العام بالتفاعل مع هذه المطالب؛ خاصة في ظل محدودية الاقتصاد
المغربي، و عجزه عن تجاوز معضلاته البنيوية، خصوصا أمام تنامي وعيٍ جديدٍ بأهمية
الحقوق الاجتماعية و الاقتصادية من طرف الأفراد داخل المجتمع. “و لأن
الاحتجاجات ذات المطالب السوسيواقتصادية هي الأكثر حضورا في المشهد المغربي، فإن
منطق الأمن القامع و الدولة التحكمية يظل أيضا هو الأكثر حضورا في التعاطي مع
الحركات الاحتجاجية[32]“،
وذلك من خلال اعتماد أليتي “الاحتواء والإدماج لامتصاص الاحتقان وتكريس
المشروعية[33]“. وفي ظل هذا
التهميش، والعنف المتواصل؛ يصير “الاحتجاج تنفيسا محتملا للسخط المتراكم، ومحاولة بمقدار للرد على ما أنتج قبلا من
تعنيف، وهو بذلك لا يقدم فقط خدمة حيوية للأجهزة الأمنية، لقياس درجة الاحتقان في
المجتمع، بل يفيدها أيضا في تفريغ الغضب الشعبي و تلافي المواجهات الدموية التي
تنتج عن الكبت و القمع المستمر[34]“.
[1] العطري عبد الرحيم، سوسيولوجيا الشباب: جدل الإدماج و التهميش(الرباط: طوب بريس، 2004)، ص 18.
[2] العطري عبد الرحيم، الحركات الاحتجاجية بالمغرب: مؤشرات الاحتقان و مقدمات السخط الشعبي (الرباط: دفاتر وجهة نظر (14) مطبع النجاح الجديدة، 2008 )، ص 147.
[3] المرجع نفسه، ص 143.
[4] بنيس سعيد، ” تمثلات الخطاب الاحتجاجي للألتراس و تأثيراته السياسية”، مركز الجزيرة للدراسات، (المغرب: 2019)، ص 9،(تم الاطلاع عليه بتاريخ 14/06/2021).
[5] أمغار مولود، خطابات المقاومة في الفضاء العام: دراسة ميدانية للخطابات التي أنتجها نشطاء حركة 20 فبراير ما بين 2011-2014( مراكش: فضاء آدم، 2020) ، ص 63.
[6]Bromberger Christian, Le match de football : Ethnologie d’une passion partisane à Marseille, Naples et Turin (Paris : éditions de la maison des sciences de l’homme, 1995), p 35.
[7] الإبراهيمي زكرياء، “الإنترنت بين صناعة السلطة و الهويات السياسية الجديدة”، مؤمنون بلا حدود، العدد 14، (المغرب: 2020)، ص 4، (تم الاطلاع عليه بتاريخ 15/06/2021).
[8] أمغار مولود، خطابات المقاومة في الفضاء العام: دراسة ميدانية للخطابات التي أنتجها نشطاء حركة 20 فبراير ما بين 2011-2014( مراكش: فضاء آدم، 2020)، ص 57.
[9] الإبراهيمي زكرياء، “الإنترنت بين صناعة السلطة و الهويات السياسية الجديدة”، مؤمنون بلا حدود، العدد 14، (المغرب: 2020)، ص 4، (تم الاطلاع عليه بتاريخ 15/06/2021).
[10] نفس المرجع السابق، ص106.
[11] العطري عبد الرحيم، الحركات الاحتجاجية بالمغرب: مؤشرات الاحتقان و مقدمات السخط الشعبي (الرباط: دفاتر وجهة نظر (14) مطبع النجاح الجديدة، 2008 )، ص 13.
[12] العطري عبد الرحيم، سوسيولوجيا الشباب: جدل الإدماج و التهميش(الرباط: طوب بريس، 2004)، ص 56.
[13] نفس المرجع السابق، ص 56.
[14] نفس المرجع السابق، ص 56.
[15] العطري عبد الرحيم، سوسيولوجيا الشباب: جدل الإدماج و التهميش(الرباط: طوب بريس، 2004)، ص 57.
[16] نفس المرجع السابق، ص 57.
[17] العطري عبد الرحيم، الحركات الاحتجاجية بالمغرب: مؤشرات الاحتقان و مقدمات السخط الشعبي (الرباط: دفاتر وجهة نظر (14) مطبع النجاح الجديدة، 2008 )، ص 113.
[18] نفس المرجع السابق، ص116.
[19] بنيس سعيد، ” تمثلاث الخطاب الاحتجاجي للألتراس و تأثيراته السياسية”، مركز الجزيرة للدراسات، (المغرب: 2019)، ص 6، (تم الاطلاع عليه بتاريخ 14/06/2021).
[20] المقابلة رقم 2.
[21] العطري عبد الرحيم، سوسيولوجيا الشباب: جدل الإدماج و التهميش(الرباط: طوب بريس، 2004)، ص 44.
[22] Assef Bayat, Life as Politics : How Ordinay Peopel change the Middle East(Amsterdam: Amsterdam University Press, 2010), p 11.
[23] العطري عبد الرحيم، الحركات الاحتجاجية بالمغرب: مؤشرات الاحتقان و مقدمات السخط الشعبي (الرباط: دفاتر وجهة نظر (14) مطبع النجاح الجديدة، 2008 )، ص 185.
[24] نفس المرجع السابق، ص 171 .
[25] العطري عبد الرحيم، سوسيولوجيا الشباب: جدل الإدماج و التهميش(الرباط: طوب بريس، 2004)، ص 50.
[26] المقابلة رقم 3.
[27] أمغار مولود، خطابات المقاومة في الفضاء العام: دراسة ميدانية للخطابات التي أنتجها نشطاء حركة 20 فبراير ما بين 2011-2014( مراكش: فضاء آدم، 2020)، ص 85.
[28] أمغار مولود، خطابات المقاومة في الفضاء العام: دراسة ميدانية للخطابات التي أنتجها نشطاء حركة 20 فبراير ما بين 2011-2014( مراكش: فضاء آدم، 2020)، ص 48.
*الكلاش Clash كلمة انجليزية الأصل تستخدم داخل السجل الخطابي لأفراد الألتراس للتعبير عن التعارض و التضارب، و غالبا ما تحضر أثناء توجيه النقد اللاذع للدولة.
[29] المقابلة رقم 4.
[30] حليمة المزروعي ،”إبداع الألتراس لفرض وجودها قادها للتمرد على الواقع المجتمعي“، جريدة رسالة الأمة (العدد 11165، 2019).
[31] أمغار مولود، خطابات المقاومة في الفضاء العام: دراسة ميدانية للخطابات التي أنتجها نشطاء حركة 20 فبراير ما بين 2011-2014( مراكش: فضاء آدم، 2020)، ص 77.
[32] العطري عبد الرحيم، الحركات الاحتجاجية بالمغرب: مؤشرات الاحتقان و مقدمات السخط الشعبي (الرباط: دفاتر وجهة نظر (14) مطبع النجاح الجديدة، 2008 )،ص 210.
[33] نفس المرجع السابق، ص 248.
[34] نفس المرجع السابق، ص 255.