الرئيسية / منتخبات / عامة / نَسكن في عالمٍ ونَعيش في عالمٍ آخر

نَسكن في عالمٍ ونَعيش في عالمٍ آخر

محمد بدازي

محمد بدازي

كاتب من المغرب

“لم يعد الناس يتعرفون على أنفسهم في وقائع الحياة الفعلية، فهذه وقائع ناقصة تشكو من غياب الوهم. لقد أدمنوا العيش في ظلمات الافتراضي”[1].

قديما، كُنا نعيش مشاعرنا (حب، فرح، حزن، غضب، الخ) بكامل تفاصيلها ولا ننشغل أبداً بنقلها إلى مواقع التواصل الاجتماعي. كنا نعيش حياةً واحدة. أما اليوم، ففي الوقت الذي نعيش تجربة معينة، نفكر في الآن ذاته في نقلها إلى الفيسبوك أو الإنستغرام لنُخبر الجميع بها!

لم تعد التجربة المَعِيشَة، ولا الشعور الذي ينتج عنها، هو ما يهمنا أو يشغلنا، بل أصبح همّنا وشغلنا هو نشر هذه التجربة وانتظار تفاعل أشخاص معنا لا نعرفهم ولا يعرفوننا!

***

بدل أن نعيش تجاربنا الخاصة والاستثنائية واستشعار أثرها على وجداننا وما يمكن أن تُحركه فينا، أصبحنا مهووسين بنقل تلك التجارب إلى مواقع التواصل الاجتماعي وانتظار تفاعل “الأصدقاء” أو المتابعين معها. يقول المفكر المغربي سعيد بنكراد في سيرته الفكرية: “إننا لا نفكر في طبيعية ما نرى أو من نرى، بل نفكر في التقاط صورة له سنعممها بعد ذلك في الشبكات الاجتماعية”[2]. وهنا، حينما ينقل المرء تجربته الخاصة إلى مواقع التواصل الاجتماعي، ينتقل هو نفسه من المكان الذي يعيش فيه التجربة إلى الموقع الذي نُشرت عليه من أجل التفاعل مع تعليقات وجيمات/لايكات “الأصدقاء” والمتابعين. تسافر عقولنا وأرواحنا المكان الذي نوجد فيه ويبقى الجسد وحده.

ولكن، ما عسى الجسد أن يفعل بدون عقل أو روح؟

نقَلَنْا جزءا كبيرا من حياتنا الخاصة إلى العالم الافتراضي؛ متى وأين ننام، ماذا وكيف نأكل، طبيعة علاقتنا الأسرية، بل حتى تجاربنا الموغلة في الألم لا نتردد في نشرها على مواقع التواصل الاجتماعي! في هذا الصدد، نقرأ تجربة غريبة ذكرها الأستاذ بنكراد في سيرته: “عندما وُضع جثمان أحد الأساتذة بجانب القبر الذي سيواري فيه، أخرج ابنه، وكان في العشرين من عمره أو أكثر قليلاً، آلته الفوتوغرافية وبدأ في التصوير. لقد تابع بالآلة عملية الدفن بدقة متناهية وبرغبة من يريد التقاط عدد أكبر من الصور لجثمان والده وهم يضعونه في القبر. وكان يُنوع من اللقطات، كان يقف فوق حجرة، وينحني على ركبتيه ويميل يميناً أو يسارا لكي يختار الزوايا. كان شبيها بفوتوغرافي محترف يشتغل مع وكالة إخبارية. لم يبدُ أبداً عليه أنه حزيناً، كان منهمكا في التقاط الصور فقط”.

يُعلّق سعيد بنكراد قائلا: “كان موقفاً غريباً حقاً، فأبوه لم يكن طاعنا في السن، ومات في غفلة من الجميع، وكان المفروض أن تكون لحظة فراق حزينة مؤثرة، وكانت حزينة عندنا نحن أصدقاءه، ولكن الابن كان مأخوذا بالتصوير وحده”[3].

يظهر أن أفعالنا، في ظل ما نعيشه من ثورة رقمية، تحتاج إلى دراسة لعلماء النفس والاجتماع. فما معنى أن يُغادرنا حبيبٌ أو قريبٌ أو صديق، الخ، فننسى عَيش تجربة الفَقد تلك ونُهَرول صوب هواتفنا لِنُحَمِّل صورة سوداء مكتوب عليها “إنا لله وأنا إليه راجعون” وننشرها على الفيسبوك أو الإنستغرام أو الواتساب…! ما الغاية من هذا الفعل غير كوننا أصبحنا مأخوذين بالعالم الافتراضي؟ ما علاقة حزننا بفكرة البحث عن صورة ونشرها في مختلف مواقع التواصل الاجتماعي؟ لمَ هذا الهوس بإخبار العالم بما يُصيبنا؟

كأننا بهذا الفعل نستجدي تعاطف الناس، أو كأننا نسعى إلى أن يُلتْفَتَ إلينا من خلال إشاعة أحزاننا.

الحزن، على غرار مشاعر أخرى، يُعاش ولا يُنشر أو يُكتب على موقع معين.

فجأة، وجدنا أنفسنا عراةً بالكامل على “النيت” لا نتردد في إطلاع غيرنا على جزء كبير من حميمتنا.

***

يبدو أن الحياة الفعلية قد فقدت قيمتها ومعناها في ظل مواقع التواصل الاجتماعي، إذ أصبحنا نفضل العيش في عالم افتراضي خلف شاشات هواتفنا وحواسبنا. فما سر هذا الأمر؟

يقول الدكتور بنكراد: “يُعجَب الناس كثيراً بأنفسهم في الافتراضي، ولكنهم قد يَنْفرون من حقيقة وجودهم. فما يقوله الناس في الفضاءات المظلمة لا يشبه إلا قليلاً ما يفكرون فيه أو يمارسونه حقيقة في حياتهم اليومية”[4].

في الحياة الفعلية، يعيش الناس على حقيقتهم بِما فيها من فقر وضعف وخَصَاصة وعُنف وغضب وسُوء… أما الحياة الافتراضية، فتسمح لنا بتعديل أو زَخْرفة أو تزوير تلك الحقيقة. تسمح لنا الحياة الافتراضية بتعديل صورنا الحقيقية بحيث نضيف عليها أشياء ونزيل عنها أخرى، نضخم مناطق معينة ونصغر أخرى، لتصبح الصورة أكثر “جمالا” وتحصد عددا مهما من الجيمات/اللايكات. يمكن أن نظهر على الافتراضي على غير ما نحن عليه؛ نضع صورة بجانب كتاب لنقول إننا مثقفون، نضع صورة في مطعم فخم لنقول إننا أغنياء، نضع صورة مع أبنائنا وأحبابنا لنقول إننا أسرة نموذجية… لكن الواقع غير هذا تماما. وما نقوله عبر صور مُعَدّلة، غير حقيقية، نقوله كذلك عبر نصوص تَنْضَحُ حبا واحتراما وتسامحا وتطورا وديمقراطية… ونحن لا نؤمن بكل هذه القيم.

ربما يحاول الإنسان اليوم، من خلال العالم الافتراضي، تجاوز نقصه وضعفه وفقره… وجعل نفسه كاملا أو قريبا من الكمال، وهذا ما يتعارض وطبيعته، إذْ من خصائصه الضعف والنقص والهشاشة والخطأ…

***

يُحكى أن الحقيقة والكذب التقيا ذات يوم. وبعد تبادل التحية، قال الكذب:

– إنه يوم جميل.

جالَت الحقيقة بعينَيها حَولها فردت موافقة:

– فعلا، إنه كذلك.

– النهر أجمل. (أضاف الكذب مبتسما)

التفتت الحقيقة نحو النهر، فَتَبَين لها صدق الكذب! وحركت رأسها موافقة. بعد ذلك، توجه الكذب نحو الماء وقال:

– الماء دافئ… هيا نسبح.

لامست الحقيقة الماء للتأكد من دفئه وجَودته، فوضعت ثقتها في الكذب. خلع الاثنان ثيابهما وأخذا يسبحان. لكن بعد مُضي قليل من الوقت، خرج الكذب من الماء مسرعا ولبس ثياب الحقيقة وانصرف، أما الحقيقة التي عجزت عن ارتداء ملابس الكذب، فقد أخذت تمشي عارية بدون ملابس. ابتعد عنها الجميع، ومن شدة حزنها وشعورها بأنها مهجورة، لاذت بقعر بئر كي تَتَسَتَّر…

يظهر أننا منذ لبس الكذب لباس الحقيقة (منذ اختلط الواقعي بالافتراضي) ونحن نجري وراءه معتقدين متوهمين أنه الحقيقة. وحتى حينما يكتشف الواحد منا أن ما يجري وراءه مجرد كذب، يواصل الجري وراءه لأن الجميع يفعل ذلك، أو لأننا نرتاح داخل الجماعة أو القطيع.


[1] سعيد بنكراد، وتحملني حيرتي وظنوني: سيرة التكوين، المركز الثقافي للكتاب، الدار البيضاء/المغرب، 2021، ص 311.

[2] المرجع نفس، ص 312.

[3] المرجع نفسه، ص 312-313.

[4] المرجع نفسه، ص 314.

****

محمد شكري من طفلٍ يقتاتُ على النّفايات إلى كاتبٍ عالمي

31 يناير 2020 أخرىمجلاتنصوص التعليقات على محمد شكري من طفلٍ يقتاتُ على النّفايات إلى كاتبٍ عالمي مغلقة

محمد بدازي محمد بدازي، أستاذ مادة الفلسفة/المغرب mohamedbaddazi1992@gmail.com “قل كلمتكَ قبل أن تموت فإنها، حتما، ستعرف طريقها. لا يهم ما ستؤول إليه، الأهم هو أن تُشعل عاطفةً أو حزنا أو نزوة غافية.” (الخبز الحافي ص 4) يدعونا هنا محمد شكري، من خلال هذا المُقتطف القصير من الخبز الحافي، إلى القَول، …أكمل القراءة »

جدلية التخلف والقهر

‏أسبوعين مضت عامةمقالات التعليقات على جدلية التخلف والقهر مغلقة

محمد بدازي – المغرب محمد بدازي كاتب من المغرب بادئ ذي بدء الإنسانُ المتخلف، إنسانٌ مقهور. يقول الدكتور مصطفى حجازي: “الإنسان المتخلف، هو في النهاية الإنسان المقهور أمام القوة التي يفرضها السيد عليه، أو المتسلط، أو الحاكم المستبد، أو رجل البوليس، أو المالك الذي يتحكم بقوته، أو الموظف الذي يبدو …أكمل القراءة »

الحقيقة من منظور جينيالوجي أركيولوجي

27 أكتوبر 2021 تغطيةكتبمتابعات التعليقات على الحقيقة من منظور جينيالوجي أركيولوجي مغلقة

قراءة في كتاب: نيتشه في مرآة فوكو[1] محمد بدازي محمد بدازي على سبيل التقديم يعالج الكتاب الذي نحن بصدد تقديم ورقة حوله، قضايا أو إشكالات تنتمي إلى فترة زمنية يمكن أن نسميها “ما بعد الحداثة”[2]. وهي الفترة التي تتميز، سواء في الفلسفة أو الأدب أو الفن، بنقدها العنيف لما قبلها؛ …أكمل القراءة »

عندما يتحول الأديب إلى فيلسوف

20 فبراير 2021 تغطيةكتبنصوص التعليقات على عندما يتحول الأديب إلى فيلسوف مغلقة

رواية أشياء غير مكتملة لمحمد بدازي نموذجا محسن وحي باحث في الفلسفة بداية أؤكد أنني لن أقدم في هذه القراءة نقدا أدبيا للرواية، أعتبر نفسي لست أهلا لذلك، فهذه المهمة موكولة للمختصين في النقد الأدبي، وإنما سأقدم فقط قراءة متواضعة حول البعد الفلسفي في الرواية، إنطلاقا من فرضية مضمونها أن …أكمل القراءة »

العلاقة الجنسية الرضائية في المغرب

27 يناير 2021 عامةكتبمقالات التعليقات على العلاقة الجنسية الرضائية في المغرب مغلقة

صِراعُ الهو مع الأنا الأعلى محمد بدازي – المغرب محمد بدازي بداية، أصرح بأنني لن أتحدث في هذا المقال بوصفي رجل دين يدعو الناس إلى التقوى أو ينهاهم عن الفحشاء والمنكر، أو رجل قانون يُسطر القوانين ويحكم بين الناس، أو فيلسوفا يقترح الحلول لواقع معين… بل سأتحدث بوصفي مصورا للواقع. …أكمل القراءة »

في نقد العقل السردي: كتاب جديد للدكتور إسماعيل مهنانة

7 يناير 2021 صدر حديثاكتبمتابعاتمفاهيم التعليقات على في نقد العقل السردي: كتاب جديد للدكتور إسماعيل مهنانة مغلقة

إسماعيل مهنانة صدر هذه الأيام كتاب للدكتور إسماعيل مهنانة، بعنوان: “في نقد العقل السردي” عن دار الاختلاف/ الجزائر، ودار ضفاف/ بيروت. وهو عبار عم مدخل فلسفي وابيستمولوجي حول ظاهرة السرديات، التي لا تزال تحكم عصرنا، فرغم كل التطور التكنولوجي الذي حققته البشرية وتغيّر نظام الحقيقة لديها، لا تزال المجتمعات تؤمن …أكمل القراءة »

أشياء غير مكتملة: حينما يقسو الكاتب على شخصياته

15 ديسمبر 2020 تغطيةصدر حديثامتابعات التعليقات على أشياء غير مكتملة: حينما يقسو الكاتب على شخصياته مغلقة

عبد الغني بنان عبد الغني بنان باحث في الفلسفة “نأتي من هاوية مظلمة وننتهي إلى مثيلتها. أما المسافة المضيئة بين الهاويتين فنسميها الحياة”. (ص 12) أصدر حديثا الروائي الشاب محمد بدازي روايته الأولى المعنونة ب: “أشياء غير مكتملة” لتكون بذلك بمثابة  الإعلان عن بداية الولوج لمجال الكتابة والابداع.  وتتكون هذه …أكمل القراءة »

في رحلة الوعي إلى اللاوعي.. إلى أين نمضي؟

7 ديسمبر 2020 علم النفسمفاهيممقالات التعليقات على في رحلة الوعي إلى اللاوعي.. إلى أين نمضي؟ مغلقة

إبراهيم صباحي يسوقني موج من الأفكار في بحر كبير من الأحداث دون أدنى معرفة إلى أين أمضي؟ مع الوقت صرت لا أكترث لغرقي في هذه الأفكار، ولم يعد يساورني أي خوف تجاه حقيقة هذه التجربة التي قد تنتهي خلالها حياتي بهذا الوجود في أي لحظة. أمّا الأمر الذي يزعجني حقا …أكمل القراءة »

نص خطاب ألبير كامو عند استلامه جائزة نوبل للاداب

20 أغسطس 2020 عامةنصوصنصوص التعليقات على نص خطاب ألبير كامو عند استلامه جائزة نوبل للاداب مغلقة

“وأنا أتلقّى الامتياز الذي شرّفتني به أكاديميتكم الحرة ببالغ الكرم، مايزال امتناني ضارباً في العمق، وبالأخصّ حين أستحضر مقدار ما تجسده المكافأة إذ تتخطّى بكثير استحقاقاتي الشخصية. كل إنسان -ولأسباب أشد قوّة- كل فنان، يشتهي أن يذيع صيته، وأشتهي ذلك أيضاً، لكن لم يكن لي مناص من أن يبلغني قراركم …أكمل القراءة »

الكُونْتِيسَة.. أو عَيْشَة قَنْدِيشَة

14 أغسطس 2020 تغطيةكتبمتابعات التعليقات على الكُونْتِيسَة.. أو عَيْشَة قَنْدِيشَة مغلقة

محمد بدازي محمد بدازي – المغرب يُلاحظُ المُتتبّع للشّأنِ الأدبيِّ في المغرب، ظهورَ أقلام أدبية صاعدة، سواءٌ في القصة أو الرواية أو الشعر، وتميّزها في الساحة الأدبية العربية. ومُسايرة لهذا التميُّز والإشعاع الأدبي المغربي، لا بد لنا، نحن المُهتمون، من إيلاء تلك الأقلام الاهتمام الذي تستحق: بقراءتها أولا، والتعليق عليها …

شاهد أيضاً

تصور طه عبد الرحمن للتربية: الحداثة المؤجلة

دراسة نقدية مقارنة مع نموذج حداثي حسن العلوي   يكثر طه عبد الرحمن الكلام عن …