الرئيسية / تربية و تعليم / الفلسفة للأطفال / عندما تُثيرُ الفلسفةُ جدلا في المدرسة[i]

عندما تُثيرُ الفلسفةُ جدلا في المدرسة[i]

ترجمة خالد جبور

خالد جبور

          لم تُدرَج الفلسفة في السلك الثاني من المنظومة التعليمية [الفرنسية] إلا في مطلع القرن التاسع عشر، وقد كـان الباعث على ذلك تكوينُ الأجيال الصاعدة، بجعلها قادرة على تمحيص الآراء الشائعة، واعية بحقوقها وواجباتها، مما يؤهِّل الأطفال والشباب ليصبحوا مواطنين قادرين على القيام بالأدوار الموكولة إليهم. شهدت هذه الحقبة بزوغ اسم الفيلسوف فيكتور كوزان (1792-1867) صديق هيجل والذي ترك بصمته بارزة في البنية التعليمية، بالرغم من قصر مدّة شغله لمنصب وزير التعليم، إذ جعل تحريرَ النصوصِ حجرا أساسا في عملية التقييم التربوي.

  • مساهمة فيكتور كوزان

فيكتور كوزان فيلسوف روحاني، عميد المدرسة الانتقائية، أعاد نشر مؤلفات ديكــارت وترجم أفلاطون وبروكليس وكتب سنة 1853 ” تاريخ الفلسفة في القرن الثامن عشر”، وجعل من المفاهيم الفلسفية التـي راجت في القرن السابع عشر مادة بحثية، فتفكَّر في الحقيقة والجمال والخير وهلم جرا. يُعتَبَرُ هذا الفيلسوف من المؤسسين لمبحث تاريخ الفلسفة، بالإضافة لكونه أول من اهتمَّ بإدراج الفلسفة كمادة دراسية في السلك الثانوي.

  • لِمَ نُدرِّسُ الفلسفة؟

        صار تدريس الفلسفة إجباريا في فرنسا منذ الإمبراطورية الأولى، مع استثناء الفترة المُمتَدَّة من سنة 1852 إلى سنة 1863، أي فترة تولي فيكتور دروا (Victor Duruy) مسؤولية وزارة التربية العمومية؛ لقد جعل هذا الأخيرُ الامتحانَ الكتابي شفويا.

          إن تدريس الفلسفة في المدرسة هو إرث ضارب في القدم وتقليد عريق يعود إلى القرن الثامن عشر، وبالتحديد إلى مدارس اليسوعيين. وينفرد تدريس الفلسفة في فرنسا بالعديد من الخصائص، وأبرزها النزعةُ المُهيمنة إلى تكوين “المواطن المُتنوِّر”، وتَبَنِّـــي تعليم أساسـي يتجنَّبُ النزعة الموسوعية والتخصّص المحدود من جهة، واعتماد طرق تربوية ترمي – كهدف ضمنـي – إلى تحرير الفرد وتحفيزه على التعبير المُنظَّم عن الفكر والقدرة على الحكم.

          يعني تدريسُ الفلسفةِ مُمارسةَ التفكيرِ الحرِّ أمام المتعلمين؛ بتعبير آخر، جعلهم مع مشهد إنسان يفكّرُ ويمارس قدرته على التحليل والحكم. ولا يتعلَّقُ الأمر بتعلُّمِ مادة اسمها ” الفلسفة”، بل باستثمار كـل المعارف الفلسفية لجعل الشخص أكثر استقلالية وقدرة على الاعتماد على النفس في التفكير؛ إنَّ تدريس الفلسفة دعوة المُتَعَلِّمِ لممارسة فعل التفكير وتكوين الرأي.

          يرى هيرفي بوالو    (Hervé Boillot)أنّ مناهج الفلسفة شهدت إصلاحات عديدة منذ سنة 1945، حيث ساد توجّه واضحُ المَعالِم يرمي إلى إفراغ البرامج المدرسية من المحتويات الوضعية والدوغمائية، وتنبنِّـي أخرى اختُزِلت، منذ سنة 1973، في أبسط أشكال التعبير، وارتبطت أكثر بمفاهيم معيّنة من قبيل الفن والوعي والتاريخ والدولة ونحو ذلك.

          إن المُسوّغ لتبنـي المفاهيم المُجرّدة [في الدرس الفلسفي] هو بالأساس احترام مبدأ حرية المُدرّس؛ إذ لا تتعدّى هذه المفاهيم، بالنسبة لأستاذ الفلسفة، كونها مجرد وسيط للأفكار، وإطار موضوعات الامتحان الذي، بدوره، لا يتطلّب الحفظ والاستظهار، وإنّما فعل التفكّر والتأمّل؛ إنّ تدريس الفلسفة – كما أريدَ له أن يكون – يقوم على مبدأ مبدأ حرية المُدرِّس، وهي حرية في ظل احترام برنامج للمفاهيم ومراعاة مّتطلّبات التدريس الهادف إلى زرع بذور الفكر.

          أما الفيلسوف فريديريك لونوار (Frédéric Lenoir) فيقول ” إنّ تدريس الفلسفة لواحدة من معاركي الكبرى الأكثر أهمية بالنسبة لي؛ إذ يجب أن نُدرِّس الفلسفة، وعلم النفس، والوعي بالذات، منذ التعليم الابتدائي، لنحصد نتائج خارقة. فالأطفال بين سن الرابعة والسابعة تعتريهم نزعة إلى التساؤل الميتافيزيقي شديد الأهمية، بالغ العمق، لدرجة طرحهم أسئلة من قبيل: من أين أتينا ؟ ما الرغبة؟ ما الأنا؟ ما السعادة؟ وبالتالي فإن تدريس قواعد التفلسف [في سن مبكرة] يؤدي إلى ربح السنوات عوض هدرها هباء، وذلك لأننا ندرِّب الأطفال على أن يصيروا فاعلين في حيواتهم، في عالم لابد وأن يغيروه تغييرا جماعيا”.

  • ماذا عن جيراننا الأوروبيين؟

         تنتمي البلدان: فرنسا وإيطاليا والبرتغال إلى القطب الأوربي حيث الدرس الفلسفي إجباري في النسق التعليمي، وخصوصا في سلكه الثانوي؛ ولئن كانت الفلسفة غير مُغيّبة في الدول الأخرى، فإنّ جعلها إجبارية ووضعها ضمن قائمة مواد امتحانات الباكالوريا يجعلها ذات قيمة تربوية حقيقية، تدفع المواطنين نحو مجابهة الأسئلة الفلسفية ولو بمقدار ساعات معدودة في حياتهم.

          تُدرَّس الفلسفة في إيطاليا على شاكلة مقاطع، يتكلّف بتدريسها في الغالب أساتذة التاريخ، في إطار مادة دراسية تُدعى ” تاريخ الأفكار”؛ أمَّا في إسبانيا فلا يتعلق الأمر بالفلسفة، بل بالتربية على المُواطنة، في السنة الأولى، وبتاريخ الفلسفة في السنة الثانية؛ و في سويسرا وألمانيا وبولونيا والسويد فتُعتبر الفلسفة درسا اختياريا؛ ففي ألمانيا – مثلا – يُزاحِم الدّرسُ الدينـي الدّرسَ الفلسفي إذ في هذا البلد، ما تزال الأواصر مُتعاضدة بين الدّولة والكنيسة، فترى الأطفال، عندما يبلغون الرابعة عشر من العمر،  يختارون بين الدرسين درسا. و في المملكة المُتحدة – كما هو الشأن في الولايات المتحدة – فإنّ تدريس الفلسفة مُنعدم، وحتى لو صادفنا في البرامج الدراسية أشياء مُسماة “فلسفة”، فإن الأمر لا يعنـي في الحقيقة سوى دروس في مقارنة الأديان أو ممارسة المنطق.

  • أ يجب تدريس الفلسفة في سنّ مُبكّرة؟

        إنّ القول بتدريس الفلسفة في المرحلة الابتدائية قول يُغري البعض لكن في الآن ذاته يندهش له الكثيرون. وفي الوقت الذي يُساءل فيه معنـى المدرسة والغائية من وجودها، وحيث يُعاد النظر في علاقتها بالمعرفة وبالقانون، وحيث يُرفع قدر التعبير الشفهي وممارسة التحاجج، فإن الممارسات ذات الطابع الفلسفي تفرض نفسها بلا منازع، لأنها الكفيلة بوضع أسس تعلّم تعاوني يحفز التفكير ويحُثّ على الإبداع.

          يقول بول ريكور (Paul Ricœur ) إنّ مهمة التربية الحديثة هي تأهيل الناس للدخول في كون الإشكاليات الإنسانية؛ ولمَّا كانت هذه المهمة محورية فإنّ العديد من الفلاسفة وعلماء الاجتماع المعاصرين ما فتئوا يُنبّهون إلى التوتر الحاصل بين قيم المؤسسة المدرسية التـي ما تزال تنبنـي على مُثِل فلسفة الأنوار، وبين مجتمع متأزِّم على كافة الأصعدة، وفي مجال الثقافة على وجه التخصيص.

          لقد بدأت سيرورة ممارسة الفلسفة مع الأطفال منذ ما يقارب العقدين من الزمن، وقد نشأت في فرنسا بعد شَيوع أبحاث الفيلسوف ليبمان ( H. Lipman)، وبعد ذيوع نِداء كريف وديريدا الذي أطلقاه في سبعينيات القرن الماضي، وهو نداء فحواه ” ممارسة الفلسفة خارج الأسوار” (Philosopher hors les murs)؛ فاتخذت النقاشات الفلسفية صيغة مختلفة، تستجيب لمُقتضيات التعددية وتثير سجالات كثيرة.

  • لوك فيري: يجب تدريس الفلسفة في سنّ مبكّرة.

         ” يُعرّف الدرس الفلسفي في السلك الثانوي على أنه تفكير وحِجاج وصقلٌ للحس النقدي، وما إلى ذلك من التعريفات الشائعة، أما القلب النابض لهذا الدرس فهو الفكرةُ القائلةُ بأن الفلسفةَ منهجٌ في التفكير الهدفُ منه  إعانة الشباب لبلوغ الاستقلالية الفكرية، وبتعبـيـر آخر، جعلهم يفكرون بأنفسهم. و هذا فـي الحقيقة جزء من إرث ثورة 1789، مع ما نجم عنها من تثبيت لدعائم نظام الاقتراع العام. ففي هذه الفترة التـي كان ميلاد الديمقراطية أبرز ملامحها، اعتقد معظم أعلام التنوير أنه لابد أن يكون للفرد القدرة على المقارنة بين الآراء الشائعة في الفضاء العام وتمحيصها لكي يصبح مواطنا صالحا قادرا على التصويت بشكل واع. ولتحقيق هذا المُبتَغى، أصبح لزاما تعلُّم التفكير والنقد والتعبير عن القناعات، وتدعيمها بالحجج والبراهين، وغيرها من الآليات التي وَجَبَ على الأجيال الصاعدة ضبطها قبل سن البلوغ، أي قبل أن يصبح الطفل مواطنا؛ ومن هذا المنطلق تم إدراج الدرس الفلسفي ضمن برنامج السنة الأخيرة من التعليم الثانوي.

              لا يُمكِنُ للمرء إلاّ أن يُقِرَّ بقيمة هذه النظرة إلى الأمور والاعتراف بفوائد الدرس الفلسفي، خصوصا إذا نظرنا إلى إسهاماته فـي مجال التربية على المواطنة؛ إلا أن كـلَّ هذا لا يَمُت بِصِلَة إلى الفلسفة كما هي وكما كانت. 

            مـن البديهـي أن كـل فيلسوف جدير بهذه التسمية يفكرُ ويُحاجِجُ و يمارس حِسَّهُ النقدي. وهل تعتقدون أن العالِمَ ورجلَ السياسةِ والصحافي وحتـى ربة البيت لا يفكّرون ولا يُحاجِجون؟ كل الناس يفكرون، لكن ما كـل الناس بفلاسفة! فالفلاسفةُ العظماء – كما سبق وأشـرت –  أجوبَةٌ كُبرى عن سؤال حياة الإنسان، عن سؤال الحياة الجيدة لهذا الكائن المحكوم عليه بالفناء؛ وهذا أمر بديهي عند أبيقور كما هو الشأن فـي فلسفة اسبينوزا أو نيتشه، وهذا ما يجب تدريسه: يجب تدريس هذه التصوّرات الكبرى عن العالم، وليس تلك المفاهيم التـي تشوبها الشوائب بدرجات متفاوتة والتـي تُكوّن برنامج الدرس الفلسفي حاليا.

              إن جعل المتعلّمين يكتشفون هذه التصورات ويستشفُّونها سيثير شغفهم وفُضولَهم ويُكسِبُهم قواعِد فكرية، ومراجع تاريخية لا يمكن تعويضها بغيرها.”

  • الفلسفةُ الموُجَّهَةُ للأطفال (PPE[ii])

       الفلسفةُ المُوَجَّهَة للأطفال برنامجٌ وَضَعه الفيلسوف وعالم التربية الأمريكي ماتيو ليبمان (Mathieu Lipman)، في منتصف سبعينيات القرن الماضـي، وكان يهدف من خلاله إلى التصدي إلى تدني مستوى الحس النقدي عند طلبته كما لدى زملائه وفي المجتمع عموما. ولقد استلهم هذا البرنامج من أعمال جون دوي (John Dewey)، صاحب نهج فلسفي يُبنـى على مراحل مختلفة متعدّدة. وَمِنَ المُحقَّقِ أن هذا البرنامج اختُبِرَ في العديد من المناسبات، وأنّه لا يزال محَطَّ اهتمام واسع في عديد الأوساط التربوية والعلمية في مختلف أنحاء العالم، وتجدر الإشارة كذلك إلى أن الأطفال يستفيدون من برنامج PPE  في أكثر من خمسين بلدا.

         ويتكوّن هذا البرنامج من ثلاث مراحل أساسية تهدف إلى تمكين المُتعلِّم من أبجديات التفكير بنفسه بطريقة مستقلة. أمَّا المرحلة الأولى فهي قراءة قصة فلسفية لا تحتوي على درس أخلاقي بيّن أو حقائق مُحدَّدَة سلفا، وإنّما تُصوّرُ معضلة من المعضلات الأخلاقية، أو مشكلة من المشكلات الوجودية، لكي تكون القراءة دعوة إلى التساؤل وإلى التفكير والتحاور. وأما المرحلة الثانية فإنما هي طرح لمجموعة من الأسئلة يليها تصويت ديمقراطي لاختيار الإشكالية أو السؤال الذي اتفق المشاركون على جدارته بالفحص والدّرس. و تلي هذه المرحلة حوار ينخرط فيه الجميع، فيتفكّرون السؤال ابتغاء بلورة أجوبة، أجوبة تطرح بدورها أسئلة أخرى جديدة وهكذا، حتى يبنـي المشاركون تصوُّرا جماعيا بخصوص موضوع التحاور.  

            وإذ يُدرك المشاركون تدخلاّت زملائهم، وإذ يسعون إلى بناء عناصر إجابة عن الأسئلة المُشتركة المطروحة، ويبحثون عن  المعاني الكامنة في ما بين أسطر النصوص وفق مقاربة نقدية، فإنه لا ضرر من القول بأن هذه الجماعة المتحاورة إنما هي ” جماعة البحث الفلسفي” بامتياز، وهي القلب النابض لمقاربة ليبمان.

  • آثارٌ إيجابية متعدّدة

            تُعدُّ حصص الفلسفة المُوُجَّهَة للأطفال فضاء خصبا للنقاش البنّاء، ومشتل للفكر النقدي الخلاّق، تتقوى فيه أواصر التعاطف والتكافل بين الأنا والغير، وبالتالي فإنّها تعود بالنّفع الكبير على المتعلّمين والمتعلّمات؛ فقد أكّدت الدراسات مدى تأثير النقاشات الفلسفية التـي ينخرط فيها الأطفال في الوسط المدرسـي، حيث تساعدهم على تقوية قُدرتهم على الحُكم، وتُعينهم على اكتساب الاستقلالية الفكرية والأخلاقية،  وتُسعفهم في فهم وتعلّم التعامل مع جوانبهم النفسية والعاطفية. ولقد ذهبت دراسات أخرى إلى تزكية الانعكاسات الإيجابية للنقاش الفلسفي في الفصول المدرسية على العديد من المستويات: كالقدرة على التحاور، وإنماء الحس النقدي وصقل التفكير البنّاء الخلاّق، وفهم المشاعر والأحاسيس وما إلى ذلك من شؤون الذات الإنسانية.

  • جــاك ســالــومـــي: الـتـواصُلُ العلائـِقِــيُّ كَــعِــلاج أَوحَد

            تحمل المدرسة رسالة نبيلة تتجلى في تنشئة الأجيال الصاعدة، غير أنه في عصرنا الراهن تأبـى الشروط أن يُحصَرَ دورُها في النطاق الضيّق لنقل المعارف وتطوير المهارات، وذلك راجع لعدة أسباب، أولها أنَّ التنشئة الاجتماعية لم تَعُد في عِداد الأدوار الموكولة إلى الأسرة كما كان الحال في الماضـي، وهو أمر لا شكَّ في أنه يثير الأسف والاستياء، ويحفِّز على القيام بمختلف الدراسات والأبحاث السوسيولوجية التـي لا ولن تعفينا من الاعتراف بالتغيّر الجذري الذي عرفته الأسرة [ خصوصا على مستوى الانخراط في فعل التربية]؛ إذ إنّ أهمَّ الوظائف التربوية أصبحت موكولة إلى عدة مؤسسات كالحضانة والمدرسة والتلفزيون والانترنيت وما إلى ذلك.

          ويتمثل ثاني الأسباب في الشكل الرهيب الذي تلبّسه انتشار المعارف وتناسلها حتـى شابتها الفوضـى وطبعها الالتباس، فأصبح أطفال عصرنا أمام فيض من المعارف وَوَسائل لا تعد ولا تُحصـى، تُغري بسهولة استعمالها. أتذكر أننـي في طفولتـي كنت أتلقى 95 في المائة من المعارف مع أساتذتي في المدرسة، أما الآن فالأطفال لا يتلقَّون فيها سوى 5 إلى 10 في المائة، وما تبقى يتلّقونه خارج أسوارها. يأخذ الأطفال معرفة خالية من كل هاجس قيمي، تُشاع في جو من الفوضـى العارمة، وتتضارب مع المعارف التـي تنقُلُها المدرسة!

          أؤمن – ولو أنّ إيماني هذا يتّسم بضرب من الطوباوية – أن لا ترياق مضاد للعنف، ذاتيا كان أو متبادلا، سوى التواصل العلائقي، وهذه هي المهمة التـي أطالب بأن تتولى المدرسةُ مسؤوليتَـها. وعليه فالمدرِّسُ لابد أن يصير ناظما للعلاقات، مبدعا لفرص التواشج بين متعلّميه، وإلاّ لن يستطيع مواجهة كـلّ ما يؤدي إلى فشل العملية التعليمية، من تشتُّتِ الانتباه ورفضِ التعلّم وعنف ارتكـاسـي.

          وأنا موقن بِكَونِ التواصل العلائقي، باعتباره نبعا معينا غنيّا بما يتعلّق بوسائل معرفة الذات، سيمكّن أطفالنا من تعزيز تقدريهم لذواتهم، ومن اكتشاف الكنوز الكامنة في شخصياتهم، ومن تعلّم الإنصات لرغباتهم ومشاعرهم، مِمَّا يؤدّي إلى تقوية ثقتهم بأنفسهم، وتأهيلهم لتحمّل المسؤولية، أي أن يكونوا قادرين [ في نهاية مشوارهم الدراسي ] على الدخول بخطى ثابتة واثقة إلى عالم الرشد، عالم تُنسَجُ فيه العلاقات  وتمَّحي فيه الهواجس العنيفة.

          تدفعني رغبتـي في تعميق وتثمين مُمكنات الإنسان إلى مزيد من التمسُّكِ بهذا الحلم: أن يصير التواصل العلائقي مادة مستقلة بذاتها في نسقنا التعليمي؛ مادة تعزّز الانفتاح على معرفة جيدة من أجل فهم أفضل للذات وللغير، الأمر الذي لابد أن يؤدّي إلى ولادةِ[iii]  عالم أفضل.

            وختاما نُذكر أن العديد من الخبراء [كما نقرأ أعلاه] يذهبون إلى التأكيد على أن دمقرطة تدريس الفلسفة أصبحت ضرورة حيوية في عالمنا اليوم، عالم سمته التعقيد والأزمات العابرة للقطاعات: من أزمات قيمية، وأزمات اقتصادية وسياسية… وقد بيّن هؤلاء من خلال عديد أبحاثهم كيف أن اندماج الفلسفة والأدب يمكِّن المتعلمين من الالتزام في صيرورة فكرية، وأن هذا الالتزام هو الضامن لتحرر قِوامه التساؤل والنقد في عالمنا المعقد هذا.


[i] Question de Philo   يندرج هذا المقال ضمن عدد شهري يناير مارس من المجلة الفرنسية

Quand la philo à l’école fait débat عنوان المقال الأصلي :

[ii] Philosophie pour enfant

[iii]  لم يستعمل الكاتب كلمة   naissance  وإنما استعملها مسبوقة بالسابقة (co)؛ فلفظة naissance  تعني الولادة، و السابقة co  تدل على المعية، وأما إذا ائتلفتا فتلان على المعرفة connaissance. المعرفة ولادة.

****

لوك فيري: يجب تدريس الفلسفة في سنّ مبكّرة

6 يناير 2022 الفلسفة للأطفالترجمةمجلات التعليقات على لوك فيري: يجب تدريس الفلسفة في سنّ مبكّرة مغلقة

خالد جبور ترجمة; خالد جبور            ” يُعرّف الدرس الفلسفي في السلك الثانوي على أنه تفكير وحِجاج وصقلٌ للحس النقدي، وما إلى ذلك من التعريفات الشائعة، أما القلب النابض لهذا الدرس فهو الفكرةُ القائلةُ بأن الفلسفةَ منهجٌ في التفكير الهدف منه  إعانة الشباب لبلوغ الاستقلالية الفكرية، وبتعبـيـر آخر، جعلهم …أكمل القراءة »

قهوة لسقراط: في الاستراتيجيّات الجديدة للممارسة الفلسفيّة

16 سبتمبر 2021 بصغة المؤنثعامةفلاسفة التعليقات على قهوة لسقراط: في الاستراتيجيّات الجديدة للممارسة الفلسفيّة مغلقة

خديجة زتيلـي د. خديجة زتيلـي       تنامَى الاتِّجاه نحو التركيز على تجديد المواضيع الفلسفيّة ابتداء من النصف الثاني من القرن العشرين، فقد كان لزاما على الفلسفة أن تُحاور الفكر خارج أُطُره الكلاسيكيّة، وتُنْجز مهاماً ليستْ على شاكلة ما دأب الفكر على معرفته من قبل، وتتفاعلَ مع قضايا علميّة وإنسانيّة وأخلاقيّة …أكمل القراءة »

من شرفة أرسطو

18 أغسطس 2021 فلاسفةمتابعاتمقالات التعليقات على من شرفة أرسطو مغلقة

كه يلان محمد كه يلان محمد يبدأُ التأملُ في جذورالمفاهيم الفلسفية بشقيها التنظيري والعملي والمنعطفات التي شهدها النشاط العقلي بالعودة إلى لحظة الإنشقاق عن الرؤية الأسطورية لتفسير طبيعة الأشياء والتحول نحو إمكانية تناول الظواهر الكونية  وفق مباديء المنطق العقلي ،ومن المعلوم بأنَّ طاليس هو أول منْ أثار السؤال بشأنِ المبدأ الأول …أكمل القراءة »

النازية، شر يبعث على التفكير1: حوار مع المؤرخ يوهان شابوتو2

6 أغسطس 2021 ترجمةحواراتمفاهيم التعليقات على النازية، شر يبعث على التفكير1: حوار مع المؤرخ يوهان شابوتو2 مغلقة

يوسف اسحيردة ترجمة يوسف اسحيردة يُحاول المؤرخ يوهان شابوتو في هذا الحوار الممتع، كشف النقاب عن الظروف التي ساهمت في قدوم النازية بمباركة الساكنة. و بهذا الصدد، يُذَكِّر صاحب كتاب “فهم النازية” (Tallandier, 2018) بأن تنفيذ المشروع الهتلري كان مبنيا على نظرة للواقع ولوغوس يستدعيان لخدمتهما العلم، التاريخ والانثروبولوجيا.     …أكمل القراءة »

ميكائيل فوسيل (1): اجتثاث الشر نهائيا، معناه المساس بالحرية(2)

24 يوليو 2021 ترجمةمجلاتمفاهيم التعليقات على ميكائيل فوسيل (1): اجتثاث الشر نهائيا، معناه المساس بالحرية(2) مغلقة

يوسف اسحيردة ترجمة يوسف اسحيردة في هذا الحوار الشيق، يستعرض الفيلسوف الفرنسي ميكائيل فوسيل، مُختلف السبل المُستخدمة في محاربة الشر: الانتقام، العدالة، العفو. لكنه يُحذر من خطأ جسيم : مُحاولة اجتثاث الشر نهائيا، ما يعني في نهاية المطاف المساس بالحرية. المجلة : كيف نُصلح الشر اللاحق؟ عن طريق الانتقام؟ عن …أكمل القراءة »

إدغار موران: الهويّة واحدة ومتعدّدة

8 يوليو 2021 بصغة المؤنثترجمةفلاسفةمتابعات التعليقات على إدغار موران: الهويّة واحدة ومتعدّدة مغلقة

د. خديجة زتيلـي تقديم وترجمة: د. خديجة زتيلـي تحميل المقال كاملا ترجمة القسم الأول من كتاب موران الأخيرتنزيل     يُنبّها إدغار موران Edgar Morin في اسْتهلاله لكتابه دروس قرن من الحياة  Leçons d’un siècle de vie، الصادر في مطلع شهر جوان الماضي، إلى أنّه لا يتغيّا من خلال هذا المنجز …أكمل القراءة »

ميشال أونفري: الرواقية كوصفة وجودية

4 يوليو 2021 ترجمةفلاسفةمجلات التعليقات على ميشال أونفري: الرواقية كوصفة وجودية مغلقة

يوسف اسحيردة “الرواقية هي فلسفة الفلاح الذي، من خلال احتكاكه بالطبيعة كل يوم، قد فهم الدورات التي تُشكلها والمكان الذي يحتله…” حاوره سفن أوتولي ترجمة يوسف اسحيردة يرى ميشال أونفري في الرواقية فنا للعيش هدفه التحكم في الأهواء وتعلم الموت. غير أنه بين الرواقية الإغريقية والرواقية الرومانية، يختار هذه الأخيرة …أكمل القراءة »

ريتا فرج: المنظومة البطريركية الدينية تدافع بقوة عن نفسها وتتبنى لغة متوترة تجاه النسويات المجددات

1 يونيو 2021 بصغة المؤنثجرائدحواراتمفاهيم التعليقات على ريتا فرج: المنظومة البطريركية الدينية تدافع بقوة عن نفسها وتتبنى لغة متوترة تجاه النسويات المجددات مغلقة

كه يلان محمد  كه يلان محمد حضور المرأةِ في حقل الدراسات الدينية والحفريات المعرفية مؤشرُ إلى إنفتاح الأفق بوجه تأويلات جديدة للنصوص المؤسسة للأحكام والمفاهيم الفقهية وبالتالي لم يعدُ هذا المجال حكراً لصوت الفقهاء، بل بدأت الأشتغالاتُ للإبانة عن حيثيات عملية التعتيم على دور ومواقف النساء في مناهضة هيمنة التأويل …أكمل القراءة »

إدغار موران: الفِكر المعقّد/المرَكَّب والفكر الشامِل

29 مايو 2021 بصغة المؤنثترجمةفلاسفةكتب التعليقات على إدغار موران: الفِكر المعقّد/المرَكَّب والفكر الشامِل مغلقة

خديجة زتيلي ترجمة: د. خديجة زتيلي إدغار موران الفِكر المعقّد والفكر الشامِلتنزيل مقدّمة:      بعد أن نقلتُ الفصل الأوّل، الذي يحمل عنوان ”الإنسان والثالوث البيو- سوسيو- أنثروبولوجي”، من الفرنسيّة إلى العربيّة من كتاب إدغار موران، من أجل فكر شامل: الإنسان وعالمه Penser global : l’homme et son univers، أعود من …أكمل القراءة »

ميكافيلي وفعالية الشر(1)

28 مايو 2021 ترجمةمجلاتمفاهيم التعليقات على ميكافيلي وفعالية الشر(1) مغلقة

يوسف اسحيردة جون فيولاك(2) ترجمة يوسف اسحيردة نيكولاس ميكافيلي (1469 – 1527) هو الرجل الذي حَرَّرَ الممارسة السياسية والمعرفة التاريخية من كل قاعدة أخلاقية وكل استنادٍ إلى فكرة الخير. ومع ذلك، فهو لم يكن مُنَظِّرًا، بل موظفا ساميا لجمهورية فلورنسا، ومستشارً، وديبلوماسيًا. في سنة 1512، شَكَّلَت عودة آل ميديشي إلى …

شاهد أيضاً

الكتابة والنساء والسترات الصفراء: حوار مع الكاتبة آني إرنو

أجرت الحوار: نيللي كابريليان (Nelly Kaprièlian) ترجمة: عبد السلام اليوسفي بينما يرد اسم الكاتبة آني …