مصطفى العارف
ذأستاذ الفلسفة المعاصرة، جامعة سيدي محمد بن عبد الله، فاس المغرب

“عزيزتي روحي الصغيرة”، بهذه العبارة كان هيدغر ينادي زوجته إلفريد. لقد كانت الوحيدة له، لكنها لم تكن وحدها. كانت إلفريد هي “الوطن” الذي يعود إليه دوما وأبدا، “الوطن” بهذا المعنى يضحي المكان الأول والنهائي لكل تجوال. “الوطن” هو ما نبتعد عنه، ونعود إليه في كل مرة، إنه كامن فينا، ويحل في ذواتنا، لكنه يبعث على الضجر والملل، لذلك نسعى لهجره، والابتعاد عنه، “الوطن” سجن. كان بعض السجناء يقضون مدة طويلة في السجن، ويتوقون للخروج منه، لكن ما أن يُطلق سراحهم حتى يجدون أنفسهم تواقين للعودة إليه. هكذا كانت إلفريد، كانت بمثابة الملجأ والملاذ والمأوى. من كثرة تجواله وتنقله كان هيدغر في كل مرة يقول لإلفريد: ” تتأتى لي الفرصة في كل مرة اكتشاف أشياء جديدة بجانبك، لكن هل باستطاعة روحي التي تعصف بها الريبة والشك والقلق بأن تحبك إلى الأبد؟ إنها “امرأة ضحت بكل شيء، لم تكمل دراستها، وجعلت المنزل والأطفال ملاذا للراحة عندما أعود متعبا من الأرض البعيدة لتلك التساؤلات الكبيرة“.
لكنها لم تكن الوحيدة، كان هناك الكثير منهن. لقد كان هيدغر جوالا وسائحا بالمعنى الحرفي لكلمة “سائح”، كان يتيه في الجبال والغابات باحثا عن الهدوء والسكينة والوحدة، لكنها ليست عزلة، ليست العزلة هي ما يغوي هيدغر، بل الوحدة، أن تكون وحيدا لا يعني أن تكون منعزلا، فبإمكان الإنسان أن يكون منعزلا في المدينة الصاخبة، غير أنه لا يستطيع أن يكون وحيدا، لأن الوحدة تلقي بنا بجانب الأشياء، تجعلنا نتلمس صفاء ونقاء الكينونة.
كان هيدغر فيلسوف الكينونة يغوي النساء بسرعة كبيرة بمجرد ما يقابلهم. كتبت إلفريد رسالة في يونيو 1956 بخصوص علاقته بالشابة مارلين( Marielene ) لكنها لم ترسلها إلى زوجها: “إن المخاطرة تكمن في أنك تسعى إلى نساء أخريات، إنك تسعى إلى “وطن” جديد“. إن “الوطن” هو المخاطرة الحقيقية، هو الملاذ الذي لا نلوذ إليه إلا لكي نهرب منه، أو نهجره. كتب هيرمان هيدغر، الابن الأصغر، ذات مرة في سنة 2005:” ولدت سنة 1920 بصفتي الابن الشرعي لمارتن وإلفريد هيدغر، لكن والدتي أخبرتني في يوم عيد ميلادي الرابع عشر أن والدي البيولوجي هو أحد أصدقاء طفولتها، لقد كان عرابي الطبيب فريدل سيزار( Friedel Caesar) الذي توفي سنة 1946“. لم تكن إلفريد كما هي تماما، متماثلة مع ذاتها، لقد كانت تبحث هي الأخرى عن “وطن” وملاذ آخر. كان هيدغر على علم بهذه العلاقة، كتب لزوجته سنة 1919:” أعرف أن فريدل يحبك، لقد كنت أعرف ذلك منذ فترة طويلة، لكن دعينا نترك للأشياء ذوقا خاصا”(…) أنا أثق بك وبحبك لي.،( Alain Badiou, Barbara Cassin, Heidegger le nazisme, les femmes, la philosophie, 2010)
لم يكن هيدغر غاضبا، على الأقل من خلال مضمون رسالته، لقد كان يلتمس العذر، يعطي للآخر الحق في التمرد على وجودٍ قد يصيبه الملل والضجر، ولن يكون ذلك ممكنا إلا بالثقة فيه وبه، الثقة هي القوة الكبيرة لقبول ما لا يمكن قبوله، والصفح عما لا يمكن الصفح عنه، إنها تقول “نعم” لكل شيء كان محجوبا، ودفينا، “هذا القبول بقولي “نعم” هو ما منحته لك عندما أخبرتني عن الوالد البيولوجي لهيرمان“، فليس علينا البحث عما هو دفين ومتواري لتعزيز الثقة، إنها مثل “الإيمان”، فهو يؤمن بما ( بمن) لا يكشف عن نفسه، الخبيء والمتواري في غياهب الكينونة. الثقة لا عقلانية في ماهيتها، إنها تنقض العقل ومقولاته، فهي تثق فيما هو غائب ولا يمكن تبريره، أو حتى تقبله، أن تثق في شيء يعني أن ” تؤمن” به، ” من حقي أن أعلن حربا شرسة على العقلانية دون أن أكابد لعنة العلمية” يقول هيدغر.
كان هيدغر ينفر كثيرا من المدينة، لم تكن المدينة بكل مغرياتها لتنال منه، المدينة سجن كبير يعمل على الضم والتوحيد، وتنميط الكائن إلى درجة التشابه، “فنحن نتسلى كما يفعل الناس، ونقرأ الصحف ونشاهد الأفلام كما يفعل الآخرون، ونعتبر أمرا ما فضيحة لأن الناس اعتبروه كذلك(…)” تخلى هيدغر عن كل هذا، وعن ثرثرة المدينة وما يلازمها من انعزالية، واستغرق في الوحدة والتوحد الذي يلقي به في حوار غني مع الأشياء: الشيء هو الطبيعة كما هي، أو لِنقل إنها الكينونة الأصيلة التي لا غنى عنها. هذا الارتماء في أحضان الطبيعة ( بمعناها العام والخاص المتعلق بالطبيعة الإنسانية بما هي تمرد على الاعتيادي) هو ما جعل هيدغر يلقي بنفسه في أحضان النساء. يتصل بحنا أرندت ويناديها “محبوبتي الصغيرة”، ثم فيما بعد يدعوها للقاء يوم الأحد 28 يونيو بعد الساعة التاسعة…
لم تكن أرندت هي المنافسة الوحيدة لإلفريد، ربما تكون أرندت قد تركت بصمتها على هيدغر، لكن فيلسوفنا كان فتانا. لقد كانت هناك مارغوت فون ساشن مينينغين( Margot von Sachsen-Meiningen )، التي كانت تتلقي دروسها سنة 1942، وشكلت للأستاذ لحظات سعادته خلال الحرب، ثم صوفي دوروثي (Sophie Dorothée ). يبدو جليا كيف أن لحظات المتعة واللذة والنشوة والإثارة والاستمتاع لم تكن فقط لحظات مسروقة، لم تكن مجرد سرقات جنسية من خارج الرباط المقدس، والزواج الكاثوليكي، يكتب هيدغر إلى إلفريد قائلا: ” عزيزك مارتن الذي أخذ الشيب منه كل مأخذ، لكنه لم يكن حكيما بعدُ“، يشكر إلفريد ويذكر لها دوري فييتا ( Dory Vietta )، وهيلد يغارد فييك (Hildegard Feick)، يذكرهما بكل أريحية في حضرة زوجته. لا يتعلق الأمر في واقع الحال بذكر الحقيقة أو بكشف سر خبيء، الأمر أعقد من مسألة الحقيقة والكذب، ليست ثنائية الحقيقة والكذب بكل هذه البساطة المبتذلة، إن الطبيعة هي من تتحدث وتقول كل شيء، الأشياء في طبيعتها تنكشف وتتبدى وتتعرى، بعد أن كانت محجوبة.
لهذا السبب كان هيدغر ينزوي إلى الجبال والغابة، كان يبحث عن البساطة التي تكشف حقيقة الأشياء في نقائها الخالص، ” توفيت أخيرا فلاحة عجوز هناك في الجبال، كانت تحدثني أحيانا، وفي حديثها كانت تبرز لغة عتيقة لم يكن ليفهمها شباب اليوم. ذات مرة زارتني في الكوخ بسبب قضائي لوقت طويل وحيدا، ثم قالت بعفوية بسيطة بعيدا عن التأنق المزيف والثرثرة الكذابة: كنت أريد الاطمئنان عليك، ثم مضت. خلال ساعاتها الأخيرة أوصت أفراد عائلتها بإبلاغ تحياتها لي(…)
أن تعيش وحيدا لا يعني أن تكون منعزلا، العزلة أمر يسير، أما الوحدة فليست كذلك، “فبإمكان الإنسان أن يكون منعزلا وبسهولة كبيرة، غير أنه يصعب عليه أن يكون وحيدا”، ذلك أن الوحدة لها سحرها الخاص الذي يجعلك تصطدم وتلاقي الأشياء في حميميتها، إنها تلقي بنا إلى جانب الأشياء والموجودات، فتكون قريبا منها وتنصت لها، أما داخل المدينة فأنت بجانب كل شيء، وبالتالي “لا شيء”؛ إفراط وتخمة في كل شيء؛ كل الأشياء موجودة ومتاحة بسهولة ويسر لا نظير لهما. لهذا السبب أغادر المدينة، وأنزوي إلى كوخي الريفي، وأنصت للجبال والغابات والضيعات، لتكن لدينا الشجاعة الكافية للإنصات للطبيعة”. يقول هيدغر في رسالته إلى أرندت في مارس من سنة 1925″ تمنيت لو أنك استرحت كما استرحت أنا هنا. إن عزلة الجبال والحياة الهادئة لأهل الجبل، والقرب الجوهري للشمس والعاصفة والسماء، وبساطة الأثر المفقود لمنحدر واسع مُثلج، كل هذا يُبعد الروح عن الوجود المقطع هنا. ما هو مهم هو أن المرء يصبح هنا بدون حاجيات، ويصبح العمل منظما ورتيبا كالعامل الغابوي الذي يقطع الأشجار في غابة الجبل.” (رسائل حنة آرندت ومارتين هيدغر 1925- 1975، ترجمة حميد لشهب، ص 47). إنها دعوة غير مباشرة ومباشرة في نفس الوقت، دعوة ماكرة للقاء حميمي في صحبة الجبال وسفوحها، بين أحضان نهر اللان ( Lahn )، وأشجار الغابة الفسيحة. تحاول الرسالة طمس العلاقة بين المعلم والطالبة، ذلك الإطار الاجتماعي الذي كان يحميهما. يحاول هيدغر فهم هذه العلاقة من منظور تفكيره، لكن شيئًا ما حدث كان يفوق قدرته على الفهم. هذه الفتاة الصغيرة لم تكن له، كان يعرف ذلك. كان يتأرجح بين المشاعر الأبوية والوقائية، وشغف غير معترف به تقريبًا للحب، كان يتردد بين القرب والبعد: “أتمنى أن تكون لدينا فرصة للقاء“.
فرصة اللقاء هي ما كان هيدغر يتمناه، كان يريد كسر الجليد بينه وبين أرندت (تلميذته) حتى يطلق العنان لطبيعته كما يراها تنطلق في الجبال والغابات، الطبيعة هي الإيروس الذي لا ينفك يسيطر عليه، “فالمشي في الظل لا يمكن أن يكون إلا حيثما تكون الشمس“.
****
إشكالية الصفح عند دريدا: تحقيقا للمستحيل
5 مارس 2019 فلاسفة, كتب, مقالات التعليقات على إشكالية الصفح عند دريدا: تحقيقا للمستحيل مغلقة

بعد سنوات من صدوره باللغة الفرنسية، صدر مؤخرا كتاب “الصفح…”[i] للفيلسوف الراحل الفرنسي جاك دريدا Jacques Derrida، مترجما إلى العربية عن دار المتوسط بإيطاليا (2018)، وقد عرّبه كل من المترجمين عبد الرحيم نور الدين ومصطفى العارف.أكمل القراءة »
نساء هيدغر
19 ساعة مضت Non classé, بصغة المؤنث, عامة, فلاسفة التعليقات على نساء هيدغر مغلقة

مصطفى العارف ذأستاذ الفلسفة المعاصرة، جامعة سيدي محمد بن عبد الله، فاس المغرب. مصطفى العارف “عزيزتي روحي الصغيرة”، بهذه العبارة كان هيدغر ينادي زوجته إلفريد. لقد كانت الوحيدة له، لكنها لم تكن وحدها. كانت إلفريد هي “الوطن” الذي يعود إليه دوما وأبدا، “الوطن” بهذا المعنى يضحي المكان الأول والنهائي لكل …أكمل القراءة »
سلافوي جيجيك والعنف
23 أكتوبر 2021 ترجمة, فلاسفة, كتب التعليقات على سلافوي جيجيك والعنف مغلقة

مراجعة لكتاب العُنف لسلافوي جيجيك ترجمة: آلاء رضا Irfan Ajvazi في كتابه “العنف” ، يطور المُنَظر السياسي المعروف سلافوي جيجيك عدة مفاهيم للتفكير في العالم المعاصر. في الوقت الذي تكون فيه المناقشات الفلسفية المعقدة غالباً مايبدو فهمها مقصوراً على فئة معينة بالنسبة للقارئ العام. تقدم أعمال جيجيك رؤىً جديدة في …أكمل القراءة »
تودوروف وكونية الأنوار
25 مايو 2021 متابعات, مفاهيم, مقالات التعليقات على تودوروف وكونية الأنوار مغلقة

عزالدين بوركة شاعر وباحث مغربي شكل عصر الأنوار مرحلة فارقة في التاريخ الحضاري والفكري والإنساني، حيث قررت الكائنات البشرية لأول مرة في تاريخها أخذ مصيرها بيدها وتواضعت على اعتبار رفاه الإنسانية الهدف الأسمى لأفعالها[1]. وقد شغل سؤال “ما الأنوار؟” بال فلاسفة كثر من أمثال كانط وصولا إلى تزفيتان تودوروف ومرورا بميشيل …أكمل القراءة »
جاك دريدا: نيتشه – كهف زارادشت
25 مايو 2021 ترجمة, عامة, فلاسفة التعليقات على جاك دريدا: نيتشه – كهف زارادشت مغلقة

الترحال الفلسفي ترجمة: عبد الوهاب البراهمي قد يكون اسم نيتشه بالنسبة إلينا اليوم نحن في الغرب، الاسم الوحيد ( ربما على نحو آخر مع كيرجارد، وربما أيضا مع فرويد )الذي كتب في الفلسفة والحياة والعلم وفلسفة الحياة مع اسمها وباسمها. وربّما كان الوحيد الذي استخدم في ذلك اسمه، – أسمائه- …أكمل القراءة »
حنة أرندت: من الشر الشمولي إلى تفاهة الشر
21 أبريل 2021 بصغة المؤنث, عامة, فلاسفة التعليقات على حنة أرندت: من الشر الشمولي إلى تفاهة الشر مغلقة

عزالدين بوركة (شاعر وباحث مغربي) على سبيل التقديم: يقال إن البشرية لم تعرف في تاريخها الطويل، فترة عنف ودمار بقدر ما عرفته في الفترة الممتدة ما بين بداية الحرب العالمية الأولى ونهاية الحرب العالمية الثانية. وإنها الفترة التي عرف فيها العالم لأول مرة في تاريخه الحضاري والبشري معارك تمتد على …أكمل القراءة »
طيفيّة الأرشيف؛ الشهادة؛ المُضاعفة .. وجه التفكيكية المشدود بين الموت والحياة – الجزء الثالث
9 أبريل 2021 ترجمة, دراسات وأبحاث, مفاهيم التعليقات على طيفيّة الأرشيف؛ الشهادة؛ المُضاعفة .. وجه التفكيكية المشدود بين الموت والحياة – الجزء الثالث مغلقة

يوسف عدنان بقلم: يوسف عدنان – أستاذ باحث وناقد من المغرب حياة الأرشيف وبقايا الآثار يعتبر الأرشيف بالنسبة ل”جاك دريدا” شغفا حقيقيا “vérité passion” وموضوع يشملُه التفكير وإعادة التفكير الدائمة، كما صرّح بذلك في مُداخلته العُمومية الأخيرة، قائلا: “لم أفقد مُطلقا شيئا أو سبق لي أن دمرّته، حتى تلك القطعة …أكمل القراءة »
دريدا و الفُونتومانيا.. في جوار التحليل النفسي
15 فبراير 2021 دراسات وأبحاث, فلاسفة, مجلات التعليقات على دريدا و الفُونتومانيا.. في جوار التحليل النفسي مغلقة

وجه التفكيكية المشدود بين الموت والحياة (الجزء الثاني) بقلم: يوسف عدنان أستاذ باحث وناقد من المغرب لقد جمعت “جاك دريدا” بالتحليل النفسي la psychanalyse علاقة صداقة قوية، أبانت على صورها الساطعة والمُضمرة المؤرخة النفسانية “إليزبيت رودينسكو” elisabeth roudinesco في الفصل الأخير من مؤلف “جاك دريدا .. ماذا عن غذ، المنزّل …أكمل القراءة »
التفكيك كاستراتيتجية لانتزاع الحق في الفلسفة..
21 يناير 2021 عامة, فلاسفة, مقالات التعليقات على التفكيك كاستراتيتجية لانتزاع الحق في الفلسفة.. مغلقة

وفاق القدميري في البدء.. تقبع التفكيكية كرهان مستجد نحته جاك دريدا الفيلسوف الفرنسي، هكذا منعزلة عن كل ما يمكن أن يفهم أنّه مرادف لها، فصاحبها الأوّل يرفض أن تسمى تحليلا أو تأويلا حفرا أو نقدا، فهو يراها استراتيجية شاملة تتجاوز كل ذاك إلى ما هو أبعد، وعلى ذكر المجاوزة، فهي …أكمل القراءة »
هُونتولوجيا جاك دريدا .. وجه التفكيكية المشدُود بين الموت والحياة
11 يناير 2021 دراسات وأبحاث, عامة, علم النفس, فلاسفة التعليقات على هُونتولوجيا جاك دريدا .. وجه التفكيكية المشدُود بين الموت والحياة مغلقة

يوسف عدنان بقلم: يوسف عدنان أستاذ باحث وناقد – من المغرب إذا كان شبح دريدا ما يُميّز هذه الصفحات، إذا كان هذا الشبح هو الذي تم اختياره من أجل الكشف عن طيفية الوجود والعلامات والنصوص، فذلك حقًا لأنه مفكر للأشباح، وفيلسوف يُطيّف الفكر. لأنه من خلال فكرة مُتناقضة، من خلال …