جمال ابناس
” العالم الذي نعيش فيه مليء بالمعاناة والمصائب والأحزان.” قد يبدو هذا حكما بائسا وتشاؤميا عند أولئك الذين يعشقون فلسفة بون كلوس[1] (la Philosophie de Pangloss) ويهيمون في فكرة، أن الحياة رائعة وكل ما فيها جميل، ولا وجود للمصائب. وإن كانت، فإنها من صنع الإنسان، فهذا الأخير بالأصل شرير. هذا ما دافع عنه العديد من الفلاسفة أصحاب النزعة الرومانسية المفرطة في التفاؤل.
إن الرد على مثل هذا الحكم الذي يرى الحياة بنظرة وردية، سهل جدا. فيكفي أن نطرح سؤال: هل نستطيع تغيير الأشياء التي تقع خاصة تلك التي لا نرغب في وقوعها ؟ هل بإمكاننا أن نمنع أنفسنا من العمل مع مدير سيء؟ هل يمكن أن نحول دون وقوع حادثة سيرقد تقع لنا أو لأحد أفراد عائلتنا؟ هل بإمكاننا أن نختار كأبناء الأسرة التي سننشأ فيها؟ أسئلة كثيرة، لا يمكن لأصحاب النزعة الوردية في الحياة والمغالية في التفاؤل أن يجيبوا عنها. لأنهم بكل بساطة، لا يحوزون على الحكمة الرواقية (la sagesse stoïciens). فما الذي يمكن أن تمدنا به الرواقية، لنواجه به نصيبنا من المأساة في العالم وحقنا من السيزيفية، إذ لا يكفي لشخص أن يكون متفائلا حتى يتجنب المآسي والوقائع غير المرغوب فيها.
حريا بنا إن أردنا أن نفهم الفلسفة الأخلاقية التي يقدمها الرواقيون لنا أن نستوعب بداية تصورهم للكون، لأنه أس نظريتهم الأخلاقية. يقول أحد الرواقيين ” حتى البراغيث خلقت لتوقظ الانسان من سباته العميق” إن معنى هذه القولة، هو أنه لا وجود لشيء في العالم يقع بالصدفة، فالوقائع لا تحدث عرضا، إذ الكسموس الرواقي، هو كسموس خاضع لمنطق العقل الإلهي بما هو عقل ينظم ويخطط لكل شيء بدقة وغاية في الصرامة، إنه عقل ضد الديونوزوسية[2] والغرابة واللامبالاة.
إله الرواقية، لا يعبث ولا يلعب النرد[3]، كما قال اينشتاين ذات مرة (le Dieu ne joue pas au de). إنه إله فيتاغورس الذي يوزع ويخطط استنادا إلى علم الرياضيات[4]. يجب أن ندرك إذن، أن الكون يتماهى مع العقل الإلهي، بل إنهما واجهان لعملة واحدة، فالإله الدي يؤمن به سينيكا، إبكتيت، وماركوس أوريليوس، هو إله يتدخل في العالم، ولا يدع أي مجال للعبثية. ونتيجة لهذا التصور، ستحاول الرواقية التفكير في كل ما يقع، من باب أنه يجب ان يقع، بدعوى أنه لا يمكن أن يقع هناك أو هنالك أحسن منه، فليس أبدع مما هو كائن.
قد يتدخل المتفائل مرة ثانية، ذاك الذي يؤمن بإمكانية خلق عالم ليبنتزالمتحسن[5]، باعتباره أحسن العوالم الممكنة. وسيقول بصوت مرتفع: وبماذا ستنفعنا هذه الفلسفة الرواقية، سوى أنها ستستنبث فينا أخلاقا انهزامية، وأدب استسلامية ورضوخية، انصاعية؟ قد يكون الجواب – أي نعم، قد تبدو كذلك – لكنها، في الحقيقة قد تتجاوز ذلك. خصوصا، إن حاولنا أن نفتح مداركنا جيدا وبعمق على نصائحها وتوجيهاتها، حتى نفهم جوهر نظريتها الأخلاقية، وفلسفة الرواقين عامة، منذ اللحظة اليونانية حتى حدود الرومانية[6].
في كتاب رائع يروي، قصة لبعض الجنود الأمريكيين، الذين شاركوا في التدخلات العسكرية بالعراق وأفغانستان. تحاول جولي ايفان (Jules Evans) في كتابها ‘’ La Philo c’est la vie‘’ أن تؤسس لطريقة علاجية جديدة، انطلاقا من العودة إلى الفلسفات القديمة وخاصة الرواقية. في نظر الكاتبة الفرنسية، وبعد العديد من جلسات الاستماع لهؤلاء الجنود الذين فقدوا أياديهم وأرجلهم، وتعرضوا لتشوهات خلقية. تبين لها، أنهم في حاجة لفلسفة تعيد لهم الأمان الداخلي والرضا على ذواتهم ليواجهوا العالم من جديد. فلسفة قادرة على أن تعيد إخراج ما وقع لهم من مآسي بطريقة، تقيهم من الانتحار ونشر السلبية المفرطة في عائلاتهم. تقترح صاحبة الكتاب الرجوع إلى النظرية الرواقية – وهذا ما نجده عند الكثير من الكتاب الفرنسيين في الفلسفة في الآونة الأخيرة-[7]. تسلط الفرنسية جولي إيفان الضوء، في هذا العمل على مبدإ رواقي، تلخص فيه جوهر هذه الفلسفة. يتعلق الأمر بمبدإ يقوم على التمييز “بين ما يتعلق بنا، وما لا يتعلق بنا “.
على ” زيد وعمر ” أن يعلما أن ما يتعلق بهما لا يتجاوز المستويات التي تخص مشاعرهما، إرادتهما أراءهما، ومقدار مشاعرهما من الحب والكراهية. أما الموت والمصائب وتلك الأمور التي لا نملك أي حيلة في ردها، فهي بكل بساطة تقع خارج الفاعلية الإنسانية. يقول إبكتيت ” لا بد لي أن أموت” ويضيف ” تذكر أن هذا الشيء قد ضاع منك وأن هذا الإنسان قد مات، فلا تكتئب أو تحزن “
لا يجب أن نفهم من هذه الشعارات التي ترفعها المدرسة الرواقية، أنها فلسفة بئيسة ولا تؤمن بالتغيير، بل على العكس من ذلك، هي فلسفة تحاول التفكير في الإنسان، انطلاقا من الوضعيات التي لا يستطيع أن يفعل شيئا فيها، حيث لا يمكنه أن يغير، حسبه فقط، أن يتقبل الأشياء على النحو الذي وقعت عليه. فالرواقية تؤمن بأن أسمى شيء يمكن للفلسفة أن تقدمه للإنسان، هو أن تنقد حياته. ولن يتمكن من إنقاذ ذاته، إلا من خلال عدم إفراطه في الأمل والخوف معا، لأن الإفراط فيهما، يوقع الإنسان في الشقاء والتعاسة التي ستجعله عالقا في دوامة ما يسميه سبينوزا بالمشاعر الحزينة.
تقدم الرواقية نظرية سيكولوجية تهدف إلى تقوية وعي
الإنسان لمواجهة الواقع والمستقبل. لنقل بشكل واضح، إن الرواقية تبحث عن بناء
إنسان بارد إزاء المصائب والأقراح من جهة، وإنسان غير متحمس حد الإفراط على أن كل
ما سيقع في المستقبل سيكون جميلا، كما يعتقد بونوكلوس الذي كان يردد عبارة، كل شيء
سيكون بخير) (tout ira pour le bien والحال أنه ليس كل ما يقع دائما جميل ورائع ويلبي انتظاراتنا في الحياة.
يلزمنا، إن أردنا الحياة السعيدة، أن نعيش وفق قاعدة ” لا إفراط في الأمل،
ولا إفراط في الخوف “
[1]– في رواية ” Candide ou l’optimisme ” لفولتير يتخذ هذا الأخير شخصية ” Pangloss ” ليجسد من خلالها التصور التفاؤلي عند ليبنتز، فبون كلوس فيلسوف متفائل جدا، وقد وظفه فولتير بهدف السخرية من فلسفة ليبنتز.
[2]– ديونيسيوس أو باكوس أو باخوس في الميثولوجيا الإغريقية، هو إله الخمر والرقص والشدو والمرح
[3]– إن معنى هذه القولة عند آينشتاين، يفيد كون ما يقع في العالم، وما يظهر فيه من ظواهر، ليس مرتبط بالصدفة، فكل شيء بتدبير من محكم من الله
[4]– يعتبر فيتاغورس في فلسفته الأنطولوجية أن الرياضيات علم إلهي
[6] – في التأريخ للفكر الرواقي، يجب دائما التمييز بين مرحلتين أساسيتين، مرحلة البداية وهي اللحظة اليونانية، ثم مرحلة الثانية، وهي المرحلة الرومانية
[7] – لوحظ في الأونة الأخيرة وتحيدا ميل مجموعة من المفكرين والباحثين في مجال الفلسفة، الرجوع الواضح إلى الفكر الفلسفي الرواقي، إيمانا منهم بأن الإنسان في المرحلة المعاصرة في أمس الحاجة للدروس الفلسفية التي تقدمها الفلسفات القديمة وتحديدا الرواقية. ولنا في أعمال، look ferry وFrédéric Lenoir وجولي ايفان “jules Evans خير دليل على هذه النزعة التي تدعو إلى قراءة الفلسفات القديمة بالشكل الذي ستعين الإنسان على مواجهة واقعه المعقد والمليء بالقلاقل والاضطرابات.
****
الفلسفة الفرنسيّة المعاصرة: اتّجاهات ومذاهب وإسهامات
4 أسابيع مضت دراسات وأبحاث, فلاسفة, كتب 0

مشروع فلسفيّ لبنانيّ عربيّ فريد من نوعه واجتماع باحثين في مودّة التفاهم الفكريّ الراقيّ إعداد وتقديم: مشير باسيل عون عقل العويط أهدى مشير باسيل عون الى مكتبتنا اللبنانيّة والعربيّة، الجزء الأول من الفلسفة الفرنسيّة المعاصرة (عشرة أجزاء)، أكثر من خمسمئة صفحة من إعداده، وبتقديمٍ مرجعيّ مطوّلٍ له، بحثًا في فلسفات …أكمل القراءة »
مقتطف من كتاب آلان باديو: بيانٌ ثانٍ من أجل الفلسفة
4 أسابيع مضت ترجمة, صدر حديثا, فلاسفة, كتب 0

ترجمة فتحي المسكيني فتحي المسكيني لقد أصبح من العسير أن نتصدّى للرأي السائد، وإن كان يبدو مع ذلك منذ أفلاطون أنّهُ أمرٌ واجب على كلّ فلسفة. أوّلا أليس المضمون المباشر للحرية الأكثر اعتبارا في بلداننا- أعني تلك حيث يكون شكل الدولة هو «الديمقراطية» البرلمانية-، هو حرية الرأي؟ ثانيا، أليس ذلك …أكمل القراءة »
كتاب “بيان ثان من أجل الفلسفة” لآلان باديو

ترجمة فتحي المسكيني يصدر قريباأكمل القراءة »
جيل دولوز، خارج الفلسفة، نصوص مختارة …قريبا

ترجمة: عبد السلام بنعبد العالي وعادل حدجامي منشورات المتوسط، إيطاليا. مقطع من الكتاب: ليست الكتابة هي أن تحكي ذكرياتك وأسفارك ومغامراتك العاطفية وأحزانك وأحلامك وأوهامك. أن تبالغ في الواقعية أو التخييل، فالأمر سيّان: في الحالتين كلتيهما، يتعلق الأمر بحكاية بابا-ماما، والبنية الأوديبية التي نُسقطها على الواقع أو التي نستبطنها في …أكمل القراءة »
سارتر وفلسفة اللغة
18 أغسطس 2021 دراسات وأبحاث, علي محمد اليوسف, فلاسفة 0

علي محمد اليوسف علي محمد اليوسف حتما يكون سارتر في فلسفته الوجودية التي يفخر ويعتز بها كرائد متفرد لها بلا منافس في تبيان رأيه حول علاقة اللغة بالفلسفة الذي يحسب له اسبقية التنبؤ الرافض في أن يكون للغة كهوية تواصلية انثروبولوجية فلسفة متفردة تقوم على مراجعة تاريخ الفلسفة وقضاياه بضوء …أكمل القراءة »
فلسفة عبر القطائع: حوار مع برنار هنري ليفي
16 أغسطس 2021 ترجمة, حوارات, فلاسفة 0

أجرى الحوار : جان جاك بروشييه ترجمة : الحسن علاج شيد سارتر فلسفة عبر سلسلة من القطائع . سارتر منظر للنزعة الفردية ، سارتر مثقف ملتزم ، سارتر مكتشفا لليهودية : وجوه ثلاثة قام برنار هنري ليفي بإعادة بنائها في مقال متحمس . ـ جان جاك بروشييه . أهو إرث …أكمل القراءة »
الفلسفة والجوهر
5 أغسطس 2021 دراسات وأبحاث, علي محمد اليوسف, مفاهيم 0

علي محمد اليوسف علي محمد اليوسف المثالية والوجود يذهب المثاليون أن أي شيء يكون موجودا, أو يمكن معرفة أن له وجود لا بد أن يكون متمثّلا في معنى ما عقليا او ذهنيا. باحث فلسفي. يمكننا بناءا على هذا الاقتباس تثبيت ما يلي: أن يكون الشيء موجودا يترتب عليه أن يكون …أكمل القراءة »
حوار مع جان بول سارتر: حياة من أجل الفلسفة
31 يوليو 2021 حوارات, فلاسفة, مجلات 0

ترجمة: الحسن علاج في 1972 ، ارتأى بول أ . شيلب Paul A.Schlipp) (، الذي كان يشرف على تسيير مجموعة مكتبة الفلاسفة الأحياء بالولايات المتحدة ، تأليف مجلد حول سارتر ، وقد منحه هذا الأخير تعهدا بسيرة ذاتية قصيرة مع العمل على ضم ما يناهز الثلاثين نصا نقديا تعالج كل …أكمل القراءة »
حفلة التيس: قراءة في فلسفة الطغيان وتهافت الدولة العسكرية
20 يونيو 2021 دراسات وأبحاث, عامة, مفاهيم 0

عمرون علي إذا أردتَ أن تتمنى شيئاً لدكتاتور أو أن تدعو عليه، فادعوا الله أن يُسلّط عليه كاتباً مثل يوسا يُخلّد قذارتهُ ويفضحُ فساده عمرون علي أستاذ الفلسفة المسيلة – الجزائر- مدخل عام الكتاب المفتوح عقل يتكلم والكتاب المغلق صديق ينتظر والمنسي روح تسامح، اما الكتاب الممزق فهو قلب …