
علي سكاك
ان المجتمع -باعتباره كيانا- لا يتوقف تعريفه على المحددات المادية فقط, من افراد ومجال جغرافي وثروة مادية يتم تداولها؛ فهذه المحددات قاصرة على الإحاطة بتعريف المجتمع بل انها تشوهه ما دمت لم تحتضن معها محددات اخرى, لا يكون المجتمع جديرا بهذا الاسم الا بها. نتحدث هنا عن ضرورة الأخذ بعين الاعتبار وجود منظومة من الروابط الثقافية والاجتماعية والقيمية, المهيكلة لعلاقات و تفاعلات الأفراد, والنابعة من احتكاك بعضهم مع بعض في مجال جغرافي معين؛ هذه التي المنظومة التي بقدر ما تعمل على تشكيل الشخصية القاعدية لأفراد المجتمع فإنها كدلك تضفي هامشا من الاتفاق الأخلاقي بينهم, يصبح كتعاقد ضمني يلزم كل افراد المجتمع؛ ومن هنا نشأ ايضا ما نسميه بالعقل الجمعي. فماذا نقصد بالعقل الجمعي اذن؟ وكيف يتشكل؟ وما هي حدود تأثيره؟
العقل الجمعي او الوعي الجمعي او الضمير الجمعي. هي مفاهيم تصب في ذات المضمون, الا اننا قد ندرج مفهوم العقل الجمعي ونحن نتناول الجانب الضبطي للمجتمع. ويفصل عالم الإجتماع الفرنسي ايميل دوركايم (1857-1917)الذي صاغ نظرية العقل الجمعي، بين العقل الجماعي كشعور خارج عن ارادة الفرد وتصوراته, وبين التصور الفردي الذي لا يقيم له دوركايم وزنا في افتعاله للظواهر الإجتماعية 1. وان التصورات الفردية هذه تتكاثف بفعل عوامل عدة لتشكل عقل جمعي خارج عن ارادة الأفراد, ما يشكل قهرا وإلزاما لهم. ومنه فإن العقل الجمعي ظاهرة اجتماعية يعجز فيها الأفراد عن النأي بأفكارهم ومواقفهم وقرارتهم ويفترضون ان مواقف الجماعة وسلوكياتها هي الصحيحة وهي الجديرة بالإتباع.
ووجود العقل الجمعي يتجلى في تمظهوراته المختلفة، وفي قدرته على اخضاع الأفراد له، وانخراطهم في تنفيد اليات الإلزام والقهر الاجتماعي بوعي او بدون وعي منهم. والعقل الجمعي عقول وليس عقل واحد، فلكل فئة او جماعة اجتماعية او مجتمع؛ عقل جمعي يؤطره ضمن حدود الممارسات وقواعد السلوك المسموح بها؛ ونجد ان كل جماعة اجتماعية او مجتمع توحده معاير وقيم وأهداف، انما يرزح تحث عقل جمعي واحد؛ هذا العقل الذي تبلور معالمه منظومة من الآراء والاعتقادات والاتجاهات وطرق للتفكير؛ والتي تعمل اي جماعة على ادمجها في افرادها بغية تأمين وحدتها وتحقيق غاياتها, وتستحيل هذه المنظومة مع التواتر الى قناعات راسخة لدى افراد الجماعة او المجتمع, آو الى بوصلة للسلوك الاجتماعي يغدو من الصعب المضي بدونها.
وعند محاولة الغوص في بنية العقل الجمعي؛ سنجده يتشكل جراء تداخل مجموعة من المكونات والعناصر التي تساهم في تقعيد وتعقيد نسيجه، ومن جملة المكونات والعناصر التي يجد فيها العقل الجمعي ضالته: التراكم التاريخي للعادات والتقاليد والأعراف- تقديس الرواسب الثقافية والإبقاء على العمل بها – المنظومة العقائدية من ايمان ديني وغير ديني- تأثير للغة والحكايات والأمثال والفنون الشعبية- الطقوس و السحر والشعوذة- التمثلات السائدة حول الموت والحياة- الأحداث والتجارب التي عايشها المجتمع- المناخ والمجال الجغرافي- الإعلام- النظام السياسي والاقتصادي المتبع، وتجدر الإشارة الى ان العامل الديني هو من العوامل التي لازلت تلعب دورا فعلا في تركيبة العقل الجمعي للمجتمعات التقليدية، ودلك باعتبار الدين عنصرا مهما في المنظومة الأخلاقية التي تتكئ عليها هذه المجتمعات. آن هده المكونات والعناصر هي مصادر اساسية لسلوكات المجتمع وممارساته، وهي بمثابة المادة الخام التي تدخل في البناء التلقائي للعقل الجمعي، وتنعكس على البنى الذهنية لأفراد الجماعة او المجتمع الواحد، وتنسج بذلك شعورا مشتركا بينهم تذوب فيه كل التصورات والمشاعر الفردية, ودلك في نوع من “التوافق”2 الذي يكون في ظاهره اتفاق صامت وعفوي. وهنا يجب الأخذ بمنتهى الأهمية؛ التباين بين طبيعة انتظام الجماعة الإجتماعية والانسجام الحاصل بين اعضائها, وطريقة انتظام المجتمع ومستويات التوافق الذي يحصل بين اعضائه.
وتختلف سطوة العقل الجمعي من مجتمع الى اخر، وبين كل من المجتمعات التقليدية والمجتمعات الحديثة, وذلك تبعا لشدة حضور عناصره ومكوناته او ضعفها او غيابها. فالمجتمعات التقليدية تعرف سطوة عارمة للعقل الجمعي، و ذلك بسبب حيوية وكثافة العناصر والمكونات المنسجة له؛ وعلى سبيل التوضيح يلعب تغلغل العادات والتقاليد والأعراف وقوة الانتماء التي تؤثث بنمط الأسرة الممتدة ونظام القرابة, دورا هاما في اذكاء سطوة العقل الجمعي في المجتمعات التقليدية, واشعاع قهره على الأفراد واجبارهم على الدخول في دائرة الامتثال الاجتماعي. اما في المجتمعات الحضرية فإن الأمر يختلف، فحضور العقل الجمعي في هذه المجتمعات يكون حضورا ثانويا؛ ومرد ذلك الى ضعف العوامل الرئيسية الفاعلة في بنائه، وذلك بسبب طبيعة المجتمعات الحضرية التي تتميز بالاختلاف والتنوع والاتجانس. ففي نظريته” الحضرية كأسلوب للحياة” رصد عالم الإجتماع الأمريكي لويس ورث (1897-1952) مجموعة من الخصائص التي يتميز بها نمط العيش دخل هذه المجتمعات وتؤثر مباشرة على صوار الفعل الاجتماعي للأفراد دخلها، ومن هذه الخصائص نذكر: عقلانية التفكير- نفعية المصالح – تنافسية النشاط – تخصصية المجال – ثانوية العلاقات – توتر المشاعر- تعدد الولاءات. ان هذه الخصائص بدورها، هي جسر لشيوع فلسفة جديدة دخل هذه المجتمعات وهي الفردانية، والتي تناهض تماما ما يمله وما يفرضه العقل الجمعي. فمثلا لنأخذ خاصيتا العلاقات الثانوية وتخصصية المجال، كتجلي لضعف وتفكك العقل الجمعي في المجتمعات الحضرية؛ فالعلاقات الثانوية التي تطبع المجتمعات الحضرية، هي نتيجة لضعف او غياب روابط القرابة في هذا المجال، والتي تشكل احد ركائز العقل الجمعي. وأن التخصص في المجال كذلك دخل المجتمعات الحضرية، هو نتاج لوجد تقسيم جديد للعمل الاجتماعي معزز بأساس اخلاقي مخالف لما هو عليه الوضع في المجتمعات التقليدية.
استنتاجا مما سبق فإن ضعف او غياب سطوة للعقل الجمعي في المجتمعات الحضرية، هو تحصيل حاصل لضعف العوامل المؤثرة في تركيبته. فعامل الدين والعادات والتقاليد، يتلاشى بفعل الإختلاف والتنوع للدان تعرفهما المجتمعات الحضرية، وقوة الانتماء تضعف بسبب تعدد الجماعات وبالتالي تعدد ولاءات الفرد لها، هكذا الى ان نصل الى اندثار كلي للعقل الجمعي، وتعوضه عقول اخرى، وذلك في بعض المجتمعات الموغلة في الحضارة .
ختاما فإن العقل الجمعي هو عقل قهري، ومتسلط، ومقاوم لأي تغير، ويملك القدرة على اعادة انتاج نفسه باستمرار. وللعقل الجمعي سلبيات كما يمكن ان تكون له ايجابيات، ولعلى من ايجابياته ادخار وحدة الجماعة او المجتمع وللإبقاء عليها من اجل تحقيق أهداف حضارية مرسومة، مع العلم ان لكل مجتمع أهدافه وغاياته التي يضع لها معاير ووسائل للوصول اليها. ومن سلبيات العقل الجمعي؛ تكبيله لحريات الأفراد وخنقه للإبداع ولابتكار تحث دريعة الحفاظ على السائد والمألوف.
___________________
1- قواعد المنهج في علم الإجتماع, اميل دوركايم, ترجمة وتقديم محمد قاسم, مراجعة السيد محمد بدوي دار المعرفة الجامعية الإسكندرية, 1988,ص195-196.
2- الجماعة والمجتمع حسب تونيس, اميل دوركايم, ترجمة محمد الإدرسي, منشورات مؤمنون بلا حدود,18 ننوفمبر2016.