
فتحي طالب
فتحي طالب ( تونس )
دُون مقدّمات مملة ، يجب التفكير بجديّة في طبيعة القطيعة بين النظم والميادين التي تُسير
الفرد العربي في علاقته بذاته ومحيطه أو لنقل يعيشُ وفق بناها واستراتيجياتها .
وكما يعلم القاصي والداني أنها لازالت تخطتها الأنظمة الكولونيالية وتشرفُ عليها وتُعطي أوامر تنفيذها بما يخدم مطامحها ويجعلها في صدارة المنافسة مع آخرها السياسي .
هذه القطيعة التي نجد في مقدّمتها صِراع سياسات الرأسمال مع السياسات الإشتراكية وتقديمها كل ما يُمكن تقديمه من أجل الحفاظ على بقائها وامتدادها وهيمنتها فهي صورة مطابقة للأوليغارشية التي تسعى إلى السيطرة على يومي الأفراد والجماعات وقمع كل أشكال مناهضة هذه السياسات (جمعيات ، منظمات ، أحزاب ، أفكار ، مشاريع سياسية وفكرية وثقافية ، تحرّكات العمال ..) حيث تتم هذه الهيمنة بطريقة ذكيّة ومدروسة ترفع عنها أدلة الإتهام وعلى سبيل المثال تدعيم شبكات القطاع الخاص ومن ثمة دحر المرفق العمومي .
الأنظمة الكولونيالية اليوم أخذت منحى آخر وخططت لسياسات جديدة ترتكز أساسا على السيطرة على ( البنوك – الثروات الطبيعية – السوق التجارية بمختلف منتجاتها ومبيعاتها ) وضرب المنشآت العمومية والاستعاضة بالمنشآت الخاصة وحتى نوضح للقارىء الكريم أن المشكل ليس في شرعية وجودها ونشاطها ، لا ، إن المشكل يتمثل في خطورة أولويتها وسيادتها ليصبح المواطن داخل أسوار وطنه وخارجه في حالة من المهانة والضعف ويتحول وبطريقة مستمرة إلى تابع ورقم وأداة .
إن العدالة والديموقراطية والمساواة والحريّة وغيرها من القيم الإنسانية والأفكار الباءة التي تقوم عليها الدولة العادلة في ظل هذه السياسات تتحول إلى قيم شيطانية وأفكار هدامة وذرائع إنتهاك الحق باسم الحق وقواعد تبني عليها مشاريعها .
نجد من الأفكار والسياسات الكبرى التي تُصنّف كخصمٍ سياسي اعترفت بهذه الشرعية وهنا حتى نبيّن أن المشكل يتعدّى هذا الحد ، مثل اشتراكية الإصلاح أو اشتراكية التطور التي تعتقد أن النظام الجديد لا يتم Socialisme réformiste ou évolutionniste
بالقسر أو بالقهر والاستبداد بل يتم بالطرق الشرعيّة وهذا جوهر الدولة الديموقراطية المنشودة وماهيتها .
نحن اليوم نعيش في دولة ظاهرها ديموقراطية وباطنها كولونيالية تديرها عائلات أرستقراطية ترزح تحت خط العبودية للآخر الجغرافي والسياسي وتنصاع لأوامره ولا تخالف قرارته ، دولة ناعمة طيّعة وهي نموذج تاريخي للتبعية رغم توفر جميع الموارد البشرية والطبيعية ومن فضائل الجوائح كجائحة كورونا مثلا أنها تضع الدول التابعة والمتبوعة أمام رهان ، الأولى إما الاتعاض والتيقن بضعف سيدها والتعرف عن قرب وحقيقة على وهم السيادة وكسر قيودها والثانية ستسعى جاهدة إلى مضاعفة سياسات أكثر نعومة واحتواء .
لقد بيّنت هذه الجائحة تساوي الأمم والدول في النزوع نحو البقاء والحفاظ على استمرارها البيولوجي الحيوي والأنطولوجي من حيث مبدأ الوجود ، لقد بددت الجائحة الفوارق التاريخية والحضارية بقديمها وحديثها ولو لفترة من الزمن ووضعت البشرية على صعيد واحد ، لا تفكر إلا في المأكل والمشرب والمسكن ، هذا هو هاجس الفرد الأمريكي الذي تسيطر دولته على العالم وتدير شؤونه وهاجس الفرد الفرنسي والألماني الذي تتنافس دولته على سوق شمال إفريقيا وثرواتها وهاجس الفرد العربي الذي اعتاده وحفظه ، درس وجودي مذهل وصادم قد يبدو للبعض أمرا عاديا لكنه بالنسبة للبعض الآخر ليس عاديا بالمرّة ، هنا نتحدث عن فكرة التساوي وننقاشها ونضع خيارات لبلداننا العربيّة في ظل التبعات السياسية والإقتصادية والحضارية للجائحة .
أعتقد أن الشعوب العربية وحتى تتطهر من خطيئة التبعية عليها أن تعرف حجمها التاريخي
أي ما كانت عليه في الأمس من سبقٍ وتقدم وريادة في جميع المجالات وتقف عند دوافع تقهقرها وتأخرها لأن الوعي بمحاسن الماضي ومساوئه يساعد على تعقّل الحاضر وبناء المستقبل ، إذ لا يمكن تجاهل الماضي ولو للإعتبار .
إن التعددية السياسية والحزبية في بلداننا يجب أن تنخرط جميعها دون استثناء أو فوارق في العمل على بناء بلدان عربية ما بعد الجائحة ، فالحفاظ على الوطن وتحقيق السيادة والكف عن جلد الذات وتقزيمها أمام الآخر هو الخيار الأول لهذه الصحوة .
يجب التحايل على الزمن واستثماره والوعي بأن العالم متساو أمام رعب الجائحة والكل يعمل على القضاء عليها بل يمكن أن نخصص هذا التساوي ونفصله لنجد أنفسنا أقل حدة وخطورة أمام مخلّفاته وهو ما يضاعف من رصيد خيارات الصحوة والبناء .
بقلم الباحث : فتحي طالب ( تونس )