
ترجمة: رشيد الدكالي
أجرى المقابلة نيكولاس ترونج Nicolas Truong وترجمها عن الألمانية فريديريك جولي Frédéric Joly ونشرت المقابلة بجريدة “لوموند” يوم 10 أبريل 2020.
في مقابلة مع جريد لـ «MONDE»، يقوم الفيلسوف الألماني بتحليل المرونة الأخلاقية والسياسية لأزمة الصحة العالمية التي تسببها جائحة كوفيد-19 ويحث الاتحاد الأوروبي على مساعدة البلدان الأكثر تأثرا. ولد في عام 1929، ويعتبر يورغن هابرماس Jürgen Habermas أحد أهم الفلاسفة في عصرنا. ويمثل الجيل الثاني من مدرسة فرانكفورت، وقد نشر للتو في ألمانيا إنتاجا ضخما لتاريخ الفلسفة يقع في مجلدين (سيتم نشر ترجمته إلى الفرنسية بواسطة Gallimard بحلول عام 2022). وهو مؤثر أوروبي، ومؤلف “حول دستور أوروبا Zur Verfassung Europas” (2011)، و”مستقبل الطبيعة البشرية، نحو تحسين النسل الليبرالي Die Zukunft der menschlichen Natur. Auf dem Weg zu einer liberalen Eugenik? ” (2001)، يفسر لماذا يجب على الاتحاد الأوروبي مساعدة البلدان الأعضاء المثقلة بالديون والضعف البنيوي، نتيجة التأثر بشكل خاص بجائحة كوفيد-19، كإسبانيا وإيطاليا.
ما رأيك، من وجهة نظر أخلاقية وفلسفية وسياسية، في هذه الأزمة الصحية العالمية؟
هابرماس: من وجهة نظر فلسفية، ألاحظ أن الوباء يفرض اليوم، وفي نفس الوقت وبشكل عام، دفعة تفكيرية، هي حتى الآن، من اختصاص الخبراء: يجب أن نشتغل على المعرفة الواضحة من لا معرفتنا. واليوم، يكتشف جميع المواطنين كيف يجب على حكوماتهم اتخاذ قرارات بناء على المعرفة المحدودة لعلماء الفيروسات virologues الذين يقدمون لهم التوصيات. نادرا ما يضاء المشهد الذي يحدث فيه فعل سياسي ينغمس في وضعية اللايقين. ولعل هذه التجربة غير العادية، في أقل تقدير لها، ستترك بصمتها في الوعي العمومي.
ولكن ماهي التحديات الأخلاقية التي تواجهنا من خلال هذه الأزمة الصحية؟
أنا أرى، قبل كل شيء، وضعيتين حساسيتين من المحتمل أن تقوضا عدم المساس بالكرامة الإنسانية، عدم المساس هذا الذي يضمنه الدستور الألماني في مادته الأولى (دستور ألمانيا: المادة الأولى: كرامة الإنسان – حقوق الإنسان – القوة المُلزمة قانونًا للحقوق الأساسية)، والتي يفسرها في مادته الثانية (الفقرة الثانية): لكل شخص الحق في الحياة والسلامة البدنية. تكون حرية الشخص مصونة. لا يجوز التدخل في هذه الحقوق إلا بموجب القانون”. تتعلق الوضعية الأولى بما يسمى بـ “الفرز”؛ والثانية باختيار الوقت المناسب لرفع الحجر.
إن الخطر الذي يشكله تشبع وحدات العناية المركزة في مستشفياتنا – خطر تخشاه دولنا وقد أصبح بالفعل واقعا في إيطاليا- يثير سيناريوهات طب الكوارث، التي لا تحدث سوى في الحروب. عندما يتم استقبال المرضى بأعداد كبيرة جدا، بحيث لا يمكن معه علاجهم كما ينبغي، فإن الطبيب يضطر حتما إلى اتخاذ قرار مأساوي لأنه في جميع الحالات قرار غير أخلاقي.
فمن خلال هذه الطريقة ينشأ إغراء انتهاك مبدأ المساواة الصارمة في التعامل بغض النظر عن الخلفيات المرتبطة بالوضع الاجتماعي، والأصل، والعمر، وما إلى ذلك.، ومنها إغراء تفضيل الحفاظ، على سبيل المثال، بالأكثر شبابا، على حساب، الأكبر سنا. وحتى لو وافق، المسنون على التضحية بأنفسهم كتصرف أخلاقي ينم عن نكران الذات، فأي طبيب يمكنه أن يقارن بين “قيمة” حياة إنسان بـ “قيمة” حياة إنسان آخر، وبالتالي يثبت نفسه كجسد له الحق في الحياة والموت؟
إن لغة “القيمة”، المستعارة من مجال الاقتصاد، تشجع على القياس الكمي (التكميم) الذي يتم تبنيه من وجهة نظر الملاحظ. ولكن لا يمكن معالجة استقلالية الشخص على هذا النحو: بحيث لا يمكن أخذه في الاعتبار إلا من خلال اعتماد منظور آخر، من خلال وضع نفسه في مواجهة هذا الشخص.
على العكس، تظهر الأخلاقيات الطبية la déontologie médicale أنها تتوافق مع الدستور وتفي بمبدأ أنه لا توجد حاجة “لاختيار” حياة إنسان على حساب حياة آخر. وفي الواقع، تملي -هذه الأخلاقيات الطبية- على الطبيب، في المواقف التي تسمح فقط باتخاذ قرارات مأساوية، أن يتم توجيهها حصريا على أساس الأعراض الطبية التي تشير إلى أن العلاج السريري للمعني لديه فرصة كبيرة للنجاح.
ماهي الوضعية الأخرى؟
مع اتخاذ القرار بشأن الوقت المناسب لإنهاء الحجر الصحي، قد تجد حماية الحياة، التي هي ضرورية ليس فقط على المستوى الأخلاقي وإنما أيضا على المستوى القانوني، نفسها في صراع مع، دعنا نقول، منطقيات الحساب النفعي logiques de calcul utilitaristes. يجب على رجال ونساء السياسة، عندما يتعلق الأمر بالتحكيم بين الأضرار الاقتصادية أو الاجتماعية من جهة، والوفيات التي يمكن الحد منها، من جهة أخرى، مقاومة “الإغراء النفعي tentation utilitariste”: فهل يجب أن نكون على استعداد لمخاطرة “تشبع” نظام الرعاية الصحية، وبالتالي ارتفاع معدلات الوفيات، لتعزيز الاقتصاد والتخفيف من كارثة اجتماعية ناتجة عن كارثة اقتصادية؟ إن الحقوق الأساسية تمنع مؤسسات الدولة من اتخاذ أي قرار يترتب عنه وفاة الأشخاص الطبيعيين.
ألا نخاطر بتحويل حالة الاستثناء عن القاعدة الديموقراطية؟
بطبيعة الحال، يجب أن يظل تقييد عدد كبير من حقوق الحرية المهمة في ظل فترة الاستثناء المحدودة للغاية. لكن هذا الاستثناء، كما حاولت أن أبين، مطلوب بحد ذاته، كأولوية، للحق الأساسي في الحياة والسلامة البدنية. ففي فرنسا وفي ألمانيا، لا يوجد سبب للشك في ولاء القيادة للدستور. وحقيقة أن رئيس وزراء هنغاريا (المجر) فيكتور أوربان Viktor Orban يستغل الأزمة الصحية لإسكات معارضته بشكل نهائي يفسرها التطور السلطوي autoritaire طويل الأمد للنظام الهنغاري، والذي شهده المجلس الأوروبي، وقبل كل شيء، المسيحيون الأوروبيون الديموقراطيون، دعنا نقول بشجاعة.
لماذا ترفض أوروبا فكرة إنشاء “صندوق كورونا” الذي تضمنه مجموعة السبعة والعشرين، والذي يمكن أن يسمح بالتولي الجماعي لإرهاق التكلفة المالية للأزمة؟
أنت تتطرق إلى قضية شائكة وراهنة تثير الشك في وجود الاتحاد النقدي. إن الدول الأعضاء المثقلة بالديون والضعف البنيوي والتي تأثرت بشكل خاص بالأزمة، مثل إيطاليا وإسبانيا، وبدون أن تكون الأقل مسؤولية عنها، يجب أن تساعدها الدول الأعضاء الأخرى إذا أردنا انقاد اليورو، ومواجهة ضغوط المضاربة في الأسواق المالية، وبالتالي انقاد النواة الصلبة للاتحاد الأوروبي. وما من شك أن إدخال “(سندات الكورونا) coronabonds ” فقط، الذي دعت إليه فرنسا، يمكن أن يوفر حماية فعالة في هذا الصدد. هذه القروض المضمونة على المدى الطويل من قبل جميع الدول الأعضاء في منطقة اليورو هي الوحيدة القادرة على ضمان وصول دول الجنوب إلى أسواق رؤوس الأموال.
ولا أرى أي بديل آخر، مفيدا بمرور الوقت، من هذا الاقتراح. على أي حال، إن مناورات تجنب وزير المالية الألماني- التي لا ينبغي أن يوافق عليها زميله الفرنسي بأي حال من الأحوال- ليست على مستوى الوضعية.
” ما هو الغرض من الاتحاد الأوروبي، إذا لم يظهر في أوقات كورونافيروس هذه التي يوحد فيها الأوروبيون صفوفهم ويكافحون من أجل مستقبل مشترك؟” كتبته أنت في منشور جماعي في «LE MONDE» و «DIE ZEIT»، في 2 أبريل.
لقد طرحنا أنا وأصدقائي هذا السؤال على حكومتنا ومستشارتنا أنجيلا ميركل Angela Merkel ووزير المالية أولاف شولز Olaf Scholz (SPD عن الحزب الديموقراطي الاجتماعي الألماني). وكلاهما تركوني محظورا تماما؛ وحتى اليوم، يتمسكون بعناد بسياسة الأزمة التي استمرت عشر سنوات ضد احتجاجات دول الجنوب، لتحقيق أكبر فائدة لألمانيا ودول الشمال. يخشى الغالبية العظمى من السياسيين الألمان من أن موقفا أكثر تصالحية من شأنه أن يزعج منتخبيهم بشدة. وعلى الرغم من ذلك، فقد قاموا هم أنفسهم بإذكاء وإطراء النزعة المتمركزة حول الذات l’égocentrisme والاحتفاء الذاتي l’autocélébration لأبطال التصدير العالميين لدينا، وقد دعمت الصحافة هذه القومية الاقتصادية على نطاق واسع.
هناك معطيات امبريقية مقارنة تظهر أن حكومتنا، من خلال هذه القومية الاستبدالية، لم تطلب بشكل كافٍ من شعبها من الناحية المعيارية، قد قللت من الحساسية الأوروبية. فإذا ارتكب ماكرون خطأ في علاقاته بألمانيا، لذلك تألفت على الفور الاستهانة بالوطنية- القومية le national-étatisme إلى حد ما لأنجيلا ميركل، والتي يتم التعبير عنها خصائصها في مجالات أخرى.
كيف تعيش الحجر الصحي؟
إن الساعات التي تم قضاءها أمام الكمبيوتر في العمل على العلوم التاريخية للفكر هي التي تجعل المعاناة أقل.
قد تؤدي أزمة الصحة العالمية هذه إلى زيادة قوة الشعوب الوطنية التي تهدد أوروبا بالفعل، كيف يمكن مقاومتها؟
هذا السؤال يطرح بشكل مستقل عن الوضعية الحالية لحالة الطوارئ – ولكن يجب الإجابة عليه بشكل مختلف في كل بلد. في ألمانيا، قام الماضي الاشتراكي الوطني، وفي الوقت الحاضر، بحمايتنا بقوة ضد أي مظهر واضح لإيديولوجية اليمين المتطرف. ومع ذلك، سمحت الأحزاب السياسية والسلطات لنفسها بالتغاضي لفترة طويلة، تحت ستار معاداة الشيوعية المهيمنة.
“إن الشعبوية اليمينية “العادية ordinaire”، التي تمتد إلى ما هو أبعد من الطبقات الفقيرة والمهمشة من السكان، ينبغي أن تؤخذ على محمل الجد”.
في فرنسا، لطالما كان اليمين المتطرف المنظم قوة سياسية، لكن له أيديولوجية أخرى أكثر من التي لدينا: بحيث أنه يظهر كدولة أكثر منه قومية عرقية. واليوم، فإن اليسار الفرنسي الذي يتمتع بحساسية عالمية أساسية يتضرر أيضا من كره الاتحاد الأوروبي. على عكس شخص مثل توماس بيكيتي Thomas Piketty، فمن الواضح أنه توقف عن التفكير في معاداة الرأسمالية – كما لو كانت الرأسمالية العالمية لا تزال من الممكن محاربتها أو حتى ترويضها في هذا القارب الضعيف وغير المستقر الذي هو الدولة الوطنية!
ما القصة التي يمكن صوغها لمنح نفس جديد لاتحاد أوروبي مفكك؟
إن كل الحجج والمصطلحات المختارة ليست ذات فائدة كبيرة ضد الاستياء. فقط النواة الصلبة الأوروبية القادرة على العمل وتقديم حلول ملموسة للمشاكل الحالية يمكن أن تثبت أنها لا تقدر بثمن هنا. ليس في هذه المرحلة ينبغي القتال من أجل إلغاء النيوليبرالية.
كيف تفسرون أن الشعبوية- الوطنية في نقطة ما حدث انتشارها في العالم الفكري وفي الفضاء الأوروبي؟
قد يكون للشعبوية “الفكرية” اليمينية ادعاءات فكرية، لكنها تبقى ادعاءات فقط. هذا، وببساطة، تفكير ضعيف. على عكس، الشعبوية اليمينية “العادية”، التي تمتد إلى ما هو أبعد من الطبقات الفقيرة والمهمشة من السكان، هي حقيقة يجب أن تؤخذ بمحمل الجد.
ففي الثقافات الفرعية الهشة، تؤثر العديد من العوامل المحفزة، وبالتالي المثيرة للقلق، والتي تأتي على التجارب في العالم المعاصر: كالتغيير التكنولوجي، والرقمنة المستمرة لعالم العمل، وظاهرة الهجرة، والتعددية المتزايدة لأشكال الحياة، إلخ. ترتبط هذه المخاوف، من جهة، بالخوف الواقعي تماما من فقدان المرء وضعه الاجتماعي، ومن ناحية أخرى، بتجربة الضعف السياسي. لكن آثار الشعبوية اليمينة، التي تدعو، في كل مكان في الاتحاد الأوروبي، إلى اللجوء وراء الحواجز الوطنية، تتكون قبل كل شيء من شيئين: الغضب الناجم عن حقيقة أن الدولة الوطنية فقدت قدرتها في الفعل السياسي ونوع من رد الفعل الدفاعي الحدسي تجاه التحدي السياسي الحقيقي.
إن ما نرفض القيام به على الإطلاق، هو الاعتراف بأن التأكيد الذاتي الديموقراطي لأوروبا موحدة فقط، وأن هذه الشجاعة هي وحدها القادرة على إخراجنا من مأزق ما بعد الديموقراطية.
رابط المقال بالموقع الالكتروني لجريدة لوموند: https://www.lemonde.fr/idees/article/2020/04/10/jurgen-habermas-dans-cette-crise-il-nous-faut-agir-dans-le-savoir-explicite-de-notre-non-savoir_6036178_3232.html
ترجمة: رشيد الدكالي طالب باحث في السوسيولوجيا 07-05-2020