رشيد العيادي : طالب بسلك الماستر ، جامعة ابن زهر
سوسيولوجية الجسد وتفكيرها إبستيمولوجيا
إن الوعي بالعوائق الابستيمولوجية لهو بتلك القيمة المنهجية الصارمة تجاه موضوع البحث ،بحيث يمكّن دائما من ممارسة اليقظة العلمية التي تجعل الباحث حذرا تجاه أي عائق ابستيمولوجي « obstacles épistémologiques » يمس إنتاج المعرفة السوسيولوجية. هذه العوائق التي تأخذ مكانها بين رغبتنا في الفهم والمواضيع التي نرغب في فهمها. وهو الأمر الذي يجد صداه في تعريف مانويل كاستلز Manuel castells وإيميليو دويبولا Emilio de Ipola ،عندما أعلنا أن الابستمولوجيا ليست شيئا آخر غير ممارسة اليقظة تجاه العمليات (المفهومية والمنهجية) ذات العلاقة بممارسة علمية حيث تهدف هذه اليقظة إلى إلغاء أو تحييد فعاليات العوائق الابستيمولوجية التي تمس إنتاج المعارف[1]،ما يجعلنا أمام صعوبة غزو الموضوع بلغة باشلار ، فالدراسة السوسيولوجية لموضوع الجسد تواجه أولا وقبل كل شيء رهان الموضعة العلمية ؛ والتي تعني نقل الموضوع من التناول العفوي العامي إلى التناول السوسيولوجي العلمي، ولعل أول ما يسترعي الانتباه في هذا الصدد ذلك التماهي الذي يحصل عادة بين الباحث وموضوع البحث ، وما يخلفه من آثار على مخرجات البحث السوسيولوجي. وليس هذا الوقوف عند العوائق الابستمولوجية بأمر عابر، بل هو بتلك المهمة التي تجعلنا نسائل العلاقة بين السوسيولوجية كخطاب علمي خاص و”الجسدانية” كظاهرة اجتماعية ، حيث نجد الذات(الممثلة للمعرفة السوسيولوجية) التي قد تكون في علاقة تماهي مع موضوعها، من خلال ممارستها المحاكمة المعيارية، أو تدعم أيديولوجية ما… وهذا غير مسموح به في الممارسة العلمية، خصوصا و أن علم الاجتماع الذي من شأنه ، في واقع الأمر، أن يفهم قد استخدم أحيانا للإدانة على حد تعبير بيير بورديوpierre bourdieu .
إن استقصاء العلاقة بين السوسيولوجيا والجسد ، والجسد والسوسيولوجيا ، يجعلنا نقف في العلاقة الأولى على المعرفة السوسيولوجيا، والتي ترتبط أساسا بالشروط المنهجية والعلمية القادرة على الموضعة العلمية لموضوع الجسد في البراديغم السوسيولوجي ما يجعلنا نسائل موقع الباحث ضمن المرجعيات والاعتقادات الأيديولوجية؟ فالباحث السوسيولوجي ليس بمنأى عن الانحياز إلى مرجعية معينة ؟ كذلك نتساءل عن تلك المسافة النقدية وحدودها تجاه الجسد وكيف يتم تصريفه وتقديمه ثقافيا ودينيا واجتماعيا وإعلاميا…” إن ميزة عالم الإجتماع ،إن كانت هناك ميزة ،هي ليست في أن يحلق فوق أولئك الذين يصنّفهم ،بل أن يعرف أنه هو أيضا مصنف وأن يعرف على نحو تقريبي موقعه ضمن التصنيفات[2]. لهذه الاعتبارات فإن الوقوف عند (وتجاه) مواقعنا موقف مساءلة لهو بتلك الأهمية التي تجعل من الباحث دائما مستحضرا ذاته خلال السيرورة البحثية التي يأخذها مبحثه وتفكيره للموضوع.
وفي ما يخص علاقة موضوع الجسد بالسوسيولوجيا فإننا نتساءل عن تلك الشروط الموضوعية والذاتية التي يجد الباحث نفسه أمام إكراهاتها ، ولعل من بين الإكراهات التي تسترعي الانتباه هو أن الباحث حامل لشرطه الوجودي الذي هو جسده ، هذا الأخير الذي بجميع مكوناته وحالاته الفزيولوجية والبيولوجية والنفسية والعضوية (ونعني هنا حالات المرض والقلق والغضب والضغط التي ترتبط بالباحث وجسده) التي يتبدى أنها تنعكس على إنتاج المعرفة السوسيولوجية ، على اعتبار أن الجسد هو شرط حضورنا في العالم . وإن كان هذا الشرط حاضر وقائم بقوة فإن قدرا من الموضوعية لن يتحقق إلا إذا أدرك الباحث ووعى منذ البداية تلك الموجهات الذاتية أيا كان شكلها ومصدرها وقام بتحديدها ،وعمل على ضبطها ، والمساءلة في الحقيقة ليست سهلة ولكنها تتطلب شأنها في ذلك شأن أي جهد علمي خلاق، القدر الكبير من المحاولة والمثابرة إلى جانب الأمانة العلمية.[3]
ومن تم فوجب الوعي واستكشاف ما يعتمل في أتون الجسد الإنساني من تمظهرات خفية لا مرئية يُنظر لها أنها متوافقة مع الشرط الجسدي في ما هو جوهري.
يولد السوسيولوجيون في مناطق الاضطراب الاجتماعي والثقافي ، حيث البداهات القديمة تنكسر، وحيث روتينيات التفكير تنهار في مواجهة انبتاق الجديد.[4] هذا الجديد الذي جعل مجموعة من المواضيع تتشابك وتتداخل وتتسارع على مستوى الواقع خصوصا في ضل الثورة التكنولوجية والصناعية التي يشهدها العالم اليوم ، مما جعل بعض السوسيولوجيين يخوضون في نقاشات عامة كلية تتكلم في كل شئ ولا تقول أي شئ ، ضاربين بالتفكير المنهجي عرض الحائط، سعيا وراء الأضواء، ولقد أُطلق على مثل هؤلاء ، على حد تعبير بييير بورديو توصيف” المفكر السريع” وهو ما يجعلنا نتساءل إلى أي حد يمكن الاطمئنان إلى مثل هذا التفكير الذي جعل الكثير من السوسيولوجيين يتحفّظون علميا تجاه هذا النوع من المعرفة، فصنفوها على أنها خطاب شبه سوسيولوجي (أي سوسيولوجي فقط بصاحبه). خصوصا وأن أشباه السوسيولوجيين ينشطون وبقوة، اليوم ، في الحقل الإعلامي ويقومون “بالدعوة السوسيولوجية” للتقاليد والأعراف السوسيولوجية والتي تنسحب أساسا على “السنّة الوظيفية البارسونية” . كخطاب مؤدى عنه. وعلى شاكلة “درس على الدرس”leçon sur la leçon لبيير بورديو في الكوليج دوفرانس سننضر في من سبقنا ونقول : يكفي اليوم لتكون ‘سوسيولوجيا’ أن تحمل في يديك تلاث كتب مختلفة اللغة ومحفظة سوداء غالبا فارغة، لكن أنيقة، وقبعة عادة ما تكون هي الأخرى سوداء وأنيقة. إذن طبيعي أن تصنع سوسيولوجية أنيقة لا تريد أن تخدش الحياء العام (علميا) . السوسيولوجيا اليوم مهووسة بالميكروفون، والصورة وإعادة إنتاج الكلام والحديث (تشوّهت إعلاميا) ، “وغالبا”- وليس كل ممثليها- ما تنتصر إلى الصيغ التعبيرية من قبيل أعتقد، ومن المؤكد أن ، ولاشك ، ولا يختلف عليها إثنان، واتفق الكل على، وعلميا يبدو أن ، ومنهجيا لا يسمح بكذا … مؤكدين أيديولوجياتهم ووثوقيتهم ، والتي تكفي فقط السخرية منها لتفتضح وتتهاوى لعدم صلابتها أمام قوة الواقع . حتى أصبح الابتكار غائبا لا يزورنا إلا في فترات قليلة.
عندما نتحدث عن الجسد كموضوع للسوسيولوجيا فإننا لا نتحدث عن سوسيولوجية إقطاعية مثل الأخريات (مثل تلك التي تعالج الموت، “الشباب”، الشغل…)… فبأخذنا للاحتياطات الأبستمولوجيا المستعملة نجدها (أي سوسيولوجيا الجسد) تخترق المعارف التخصصاتية وتتقاطع مع حقول أخرى (تاريخ، إثنولوجية، سيكولوجية، تحليل النفسي،
بيولوجيا، طب، علوم رياضية…)…فالجسد أصبح واجهة الاجتماعي والفردي، الطبيعة والثقافة ، البيولوجي والرمزي.[5] فهذا التراوح بين هاذين القطبين اللذان يتجاذبان بعضهما
البعض يحتم علينا أن نكون حريصين كل الحرص أمام هذا الوضع الهلامي للجسد،
ولعل
أول سؤال يمكن ان يصادفنا في معرض حديثنا عن الجسد هو أين ينتهي الجسد البيولوجي
ليبدأ الجسد الاجتماعي؟ ما هو مفترق الطرق الذي يفصل بينها ؟ إن إضفاء الطابع
الاجتماعي على الجسد، عبر الأعمال اليومية للإنسان[حيث] يصبح الجسد غير مرئي ويمحى
طقوسيا من خلال التكرار الذي لا يمل لنفس الأوضاع والاعتياد على المدركات الحسية.[6]هو
ما يجعل الجسد مخفيا بسبب الطقوس، إلا أن ما يجعلنا ندرك بأننا لدينا أجساد سوى إذا خبر الشخص تلك الفترات من التوتر التي يخرج
الجسد بسببها من الطقس الذي فرضه عليه النظام الاجتماعي (الألم ،التعب،
المرض…).إنها الازدواجية اليومية. طبقا لما سبق ، فإننا نكون بصدد فتح نقاش ابستييمولوجي
آخر وهو متى يختفي الجسد؟ ومتى يظهر؟ إذن والحالة هذه تكون مهمة السوسيولوجية
ترتكز على إضاءة مناطق الظل دون وهم ولا استيهام السيادة ، لكن بحماس أكثر لتوجيه
أي بحث دون إغفال التواضع والتأني ، ولا الابتكار الذي يتوج عملية التفكير…
تعتبر الجسدانية لجّة بعظمة هادئة تتحدى إمكانية فهمنا لها، وتقول لنا بقوة غير
مسبوقة أن التجربة لا توجد أبدا جاهزة ، وأن أي علاقة بالجسد هي نتاج بناء
اجتماعي، إنها أيضا بالنسبة للباحث ثمرة
نظر صارم وبحث يتطلب مهارات فكرية خاصة[7].
إنها تُعنَى بكل الأوضاع الجسدية(جلوس، قعود، إيماءات، إشارات…) وكل أشكال
الدلالات والتمثلات التي يقيمها الأفراد والمجموعات حول أجسادهم وتأثيراتها
المتبادلة. في كلمة واحدة ، إنها تعنى بالجسد
باعتباره يمس جميع الجوانب الاجتماعية والحياتية للأفراد . ويبقى الرهان
الأساسي بالنسبة للخطاب السوسيولوجي قائما أمام نقل واقع الجسد في كل مناحي تمظهراته
إلى لغة سوسيولوجية تعكسه بشكل واضح .لهذا السبب لم يفتأ جاك بيرك في كتاباته من
أن ينبه القارئ بأن على العبارة أن تجهد نفسها بأقصى ما تستطيع لتعكس الواقع ، لأن
الواقع ليس بمستوى حتى تكون العبارة مستوية.[8]
إنه يدعونا إلى تقديم أقصى قدر من الجهد لنكون صادقين في نقلنا للواقع ، هذا
الواقع الذي يقدم نفسه على أنه غير خاضع للترتيب والنظام فالكل يتداخل وبالتالي على اللغة أن تنقل هذا التداخل واللانظام بشكل منظم وصارم. إذن والحالة هذه ، تتمثل حبكة الفهم باتخاذ الكل الجسدي ضمن الكل المجتمعي باعتباره موضوعا وميدانا دون الركون إلى أي تجزيئ يخل بالمعرفة السوسيولوجية للموضوع، بدءا بالتجزييء الذي تقوم به اللغة الاعتيادية ، عملا بوصية بورديو التي يقول فيها : على العلوم الاجتماعية أن تهيمن على
كل ما تقوله ضد الأفكار المسبقة التي تروج لها اللغة الاعتيادية وأن تقول ما هيمنت عليه بلغة مهيأة مسبقا لتقول شيئا آخر تماما… ويضيف كذلك بقوله إن استبدال كلمة بأخرى ،
هو في أغلب الأحيان إحداث تغيير إبستيمولوجي حاسم (قد يمر دون يلاحظه أحد)[9]. يظهر من كل ما سبق أن سوسيولوجيا الجسد هي سوسيولوجية تفاصيل تنحاز عن الانتصار إلى أي نموذج تفسيري يقدم نفسه على أنه قادر على تفسير ظاهرة الجسدانية من خلال منظوره الخاص (لاسيما النمط التفسيري البيولوجي والنمط التفسيري الاجتماعي البنيوي).وبما أن السوسيولوجية تضع نفسها أمام النقد والمساءلة، فإنها لا يجب أن تستثني العلوم الأخرى التي تعالج نفس المواضيع من وجهة نظرها. على أيّة حَالٍ على السوسيولوجية ألا تخجل أو تتراجع أمام الطب والبيولوجية اللذان يزعمان أنهما يمتلكان الحقيقة حول الجسد، وأن تعمل جاهدة بأن تبرهن على أن المعطى الثقافي هو في قلب الفكر الطبي والبيولوجي. وفي تقديمهما لكتاب كرس شلج : “الجسد والنظريات الاجتماعية” تقرر منى البحر ونجيب الحصادي أنه: إذا عجزت مقاربة سوسيولوجية في الجسد عن تفسير الأهمية التاريخية التي يحظى بها في الأنظمة الاجتماعية أو فشلت في تبيان لماذا أصبح الجسد يشغل إلى هذا الحد الكبير من أشياع الحداثة ، فإن هذا يثبت عجزها ويشي بهدرها من التفاصيل ما حقه الإبقاء[10] عين المراد الذي نريد أن نسجله هنا هو أننا ملزمين بتطوير فهم متعدد الأوجه للجسد مستحضرين اللحظة الابستمولوجية والمنهجية التي هي أساس كل معرفة موضوعية لرفع الصمت عن الجسد الذي عادة ما يصيح من وراء معرفة ضمنية حوله تعمل دور التهميش له وواقع طقوسي شامل يلعب دور الإخفاء للإجحاف الاجتماعي بين الجنسين.
ولعل ما يجعلنا نحقق هذا الهدف المعرفي والعلمي لهو ذلك التقصي التاريخي للجسد ، عبر جرد تدريجي للتصورات حول الجسد عند من اهتموا به ، وعادة ما كان هذا الاهتمام غير معلن عنه فهو متضمن دائما في العلوم الاجتماعية.(والقاعدة التي سأعيد التذكير بها هنا، هي، أننا نعنى بتلك المعرفة المطبقة على الجسد كمعرفة ثقافية تعطي للفرد معنى لجسده ، في كلمة، الجسد لم يدرك على مر العصور إلا كمعطى ثقافي، فعندما أرى فأنا لا أرى أجساد ولكن أرى رجال ونساء[11])
كل ما تم التطرق إليه الآن على مستوى المدخل الابستيمولوجي، علينا ان نضعه هو الآخر موضع مساءلة ابستمولوجية، لأنه رغم كل الإشارات التي تطرقنا لها والتي تجعلنا نمتلك المشروعية في مقاربة موضوعنا هذا قد يكون هدفها _إن نحن وعينا بها جيدا_ تلك المشروعية ذاتها ، لأن انتزاع الاعتراف العلمي يخول لصاحبه أن يمرر أشياء غير علمية .وبالتالي فإننا يجب ألا ننزه أنفسنا عن أي هفوة علمية تم اقترافها من طرفنا أثناء الممارسة العلمية . فاختيار الموضوع نفسه علينا أن نسائله حيث أنه قد يكون مفروض علينا من حيث لا ندري، خصوصا وأنه يشوبنا الشك في من يهيمن على من، لكن مع ذلك فإن السوسيولوجيا دائما تجعلنا نقف عند عصرنا وموضته واتخاد المسافة العلمية تجاهها. يقول بورديو في معرض نقاشه لموضوع المثقف :ثمة شئ محزن في الطريقة التي يتسارع
فيها “المثقفون الأحرار” لتقديم بحوثهم عن الموضوعات التي يفرضها العصر كما اليوم الرغبة والجسد والاغراء[12].على أية حال فإننا يجب أن نسعى جاهدين إلى تحقيق الموضوعية المأمولة من بحوثنا ، خصوصا وأننا نخاطر بلمس ما يمنع لمسه اجتماعيا. البحث مغامرة تتسم بالخطر ، لكن هل يُغفر لإنسان أن ذاتيته الفردية لم تسلم من التعريض بها أثناء محاولته إلقاء الضوء على ذاتية الجماع
أنثربولوجيا الجسد :
بادئ دي بدء، لا بد أن نسجل هنا أن جميع المجتمعات على اختلاف ثقافاتها وعاداتها وأمكنتها وأزمنتها ، إلا وتنسج معرفة ورؤية خاصة بها حول الجسد ؛ أحواله، مكوناته ، تحركاته ،تعابيره ،اتصالاته …ومن خلال ذلك يعطى للجسد معنى ومدلول وقيمة. إلا أن مفهوم الجسد بذوره يخضع لمفهوم الشخص ، ولهذا فإن العديد من المجتمعات لا تميز بين الانسان وجسده. ففي المجتمعات التقليدية لا يتميز الجسد عن الشخص، فالمواد الأولية التي تؤلف عمق الإنسان هي نفسها التي تعطي القوام للكون وللطبيعة، فبين الانسان والعالم والآخرين يسود نفس النسيج ، ولكن بدوافع وألوان مختلفة لا تغير في شئ من اللحمة المشتركة.[13] إن هذا يجعل كل المعارف تكون تحت رحمة الرؤية السائدة للعالم ، مما يعني أن المعرفة المعطات أو المقدمة حول الجسد هي معرفة ثقافية ورمزية وليس حقيقة في ذاتها ، ولعل هذا هو مكمن التباين والتعارض الذي يتخلل المعرفة حول الجسد. إن مجتمع الكاناك مثلا نرى أن خصائص الجسد عنده لا تتميز عن المجال الذي يتجدر فيه ، طبقا لذلك ، فإنه لمّا كان العالم الذي يحيط بمجتمع الكاناك ، هو عالم طبيعي نباتي (الأشجار ، النباتات ،الثمار …) فإن هذا التجاور جعل المجتمع الكاناكي يستعير أسماء أعضائه من أسماء النباتات والأشجار أو من البيئة الطبيعية بصفة عامة .”إن كلمة gemeinschaft alles lebendigen تعني في آن معا جلد الانسان ولحاء الشجرة ووحدة اللحم والعضلات (pié) تحيل إلى اللب أو إلى نواة الثمار. والجزء الصلب من الجسد ، أو الهيكل العظمي، يسمى بنفس الكلمة التي تطلق على قلب الخشب. وهذه الكلمة تشير أيضا إلى بقايا المرجان الملقاة على الشواطئ . إنها الأصداف البريّة أو البحرية التي تستخدم للتعرف على العظام المغلّفة كعظم الجمجمة. كما تستمد أسماء الأعضاء الداخلية المختلفة أيضا من المصطلحات النباتية . فالكليتان والغدد الأخرى بداخل الجسم تحمل اسم ثمرة ظاهرها قريب من باطنها .والرئتان اللتان يذكّر غلافهما بشكل الشجرة الطوطمية للكاناك، المسمّاة kuni ، تعرفان بهذا الاسم . أما الأمعاء فتشبّه بالضفائر المتسلّقة التي تغص بها الغابة .إن الجسد يبدو هنا كشكل نباتي آخر ، كما أن العالم النباتي يعدّ امتدادا طبيعيا للجسد ، فليس هناك حدود ظاهرة بين هذين الميدانين.[14] إن هذا التجاور الطبيعي بين الجسد والطبيعة النباتية يضيع علينا القبض على الجسد ككيان مستقل ، إن الجسد عند الكانك لا يمكن أن ندركه إلا عندما ندمجه في العالم النباتي الذي يحيط به ، فهو في قلب الطبيعة النباتية ، فحتى مفهوم الجسد le corps كمصطلح للتوصيف غير وارد عند الكاناك ، مما يجعلنا نعي بأن اللحم والعظام والأشياء الأخرى التي نتكون منها كأفراد تأخذ دلالاتها ومعانيها حسب السياق التداولي الذي نعيش فيه ، ومن تم فالسياق شرط واقف ؛ يتوقف عليه كل معنى لأجسادنا. “هكذا تبرز أمثلة عديدة مستقاة من الحياة اليومية للكاناك جيدا لعبة هذه الدلالة الجسدية ، فعن طفل كسيح ،يقال أنه (ينمو أصفرا) ويشبه في ذلك جدرا ينقصه النسغ ويذبل. لقد انتفض شيخ مسن في وجه الدركي الذي أتى للبحث عن طفله من أجل أن يجبره على القيام ببعض الأعمال الصعبة التي يفرضها البيض: أنظر لهذه الدراع ، قال الشيخ، إنها من الماء). إن الطفل شبيه “ببرعم شجرة ، يكون مائيا في البداية، ثم مع الزمن، يخشوشب ويصبح صلبا”. [15]يضهر أن المواد التي تكون الجسد هي نفسها المواد التي تكون العالم ، فلا ضير أن تؤلف نفس مواد العالم النباتي لحم الجسد كذلك عند المجتمع الكاناكي ، بل هذا التأليف بين هدين العنصرين ضروري لإدراك العالم . “إن كل إنسان، في عالم الكاناك الكوني ، يعرف من أيّ شجرة في الغابة يتحدّر كل من هؤلاء الأجداد. إن الشجرة ترمز للإنتماء إلى المجموعة من خلال غرس الإنسان في أرض أجداده، وإعطائه وسط الطبيعة مكانا يذوب بين الأشجار التي لا تحصى ،التي تكتظ بها الغابة. وعند ولادة الطفل، وهناك حيث يدفن الحبل السري ،يغرس برعم ينمو شيئا فشيئا ويكبر تدريجيا مع نضوج الطفل. إن كلمة karo التي تعني جسد الانسان تدخل في تأليف العبارات التي تعمّد : جسم الانسان ،جسم البلطة ،جسم الماء ، الخ[16] هكذا يمكن الإنتهاء إلى أن الجسد في المجتمع الكاناكي ليس له وجود ، إلا كعنصر ضمن الرمزية الكونية للعالم ، فهو لا يوجد إلا في علاقاته وارتباطاته بالآخرين فلحم الإنسان ولحم العالم يدركان كشئ واحد. هكذا ، وعلى سبيل المقارنة ،يبدو لنا أن المجتمع الكاناكي مثله مثل المجتمع المغاربي الإفريقي، ففي المغرب على سبيل المثال لا الحصر ، يتم الإشارة إلى البنيات الإجتماعية التي ينبني عليها المجتمع القبلي بتوصيفات جسدية فيقال مثلا “العظم ” أو “الفخدة” للإشارة لمجموعة بشرية صغيرة تشترك في جملة خصائص معينة. الجسد إذن يتسرب من بنيته إلى بنيات أخرى ، فممارسة الجنس عندنا نصفه “بالأكل” ، وأحيانا “بالضرب” (كَلْتْ الحلوة ، أو ضربت ليها الحلوة،) فسطوح الجسد وأعضاؤه تصير طعاما، فالنهود تصير تفاح، والفرج يصير حلوى ، والخصر يصير طرف أو نص، والقضيب يصير عمود أو عصا. يتسرب الجسد كذلك إلى المعمار وهو ما أشار إليه عبد الصمد الديالمي ، بقاع الدار، قاع المدينة، فم الدار ،رأس الدرب ،(نجد الصومعة، أو البرج في وسط المدينة كتعبير عن القوة والكبرياء ، وبالتالي إشارة إلى الذكر من خلال رمزية قضيبه: تقول إحدى الجارات في أكادير في نقاش لها مع جارتها فوق سطح العمارة حول الواقع السوسيوسياسي بأكادير : شوفي راه كيبنو الجوامع تبارك الله، شوفي الصومعة قداش. أجابتها الجارة الأخرى : هادوك راه غير لقوالب مشيرة إلى الأصبع الوسط الذي بطبيعة الحال هو رمز للقضيب ) إنها عبارات تدل على “تحول بعض الوحدات المعمارية إلى أجساد لكن يتم التركيز على بعض أعضائه فقط”[17]. يتسرب الجسد كذلك إلى البنيات السياسية والمجتمع بحيث تتطابق تراتبية الارتفاع في الجسد مجازا مع تراتبية المجتمع ، فأهل المنزلة العليا يعرفون “بالرؤساء” من الرأس “والوجهاء” من الوجه ، و”الأعيان” من عين و”الصدارة” من صدر- وكلها أسماء تشير إلى القسم الأعلى من الجسد. والعكس صحيح : عجبا ما أقرب لفظ “الخدم” من القدم ، و”الأخدام” من أقدام ، وهكذا فالجسد لا يتميز عن المجتمع ، فهو مقسم إلى مراتب ، فمنه الرفيع ومنه الوضيع[18] ومن تم نفهم أن الفرد لا يتميز عن النسيج المجتمعي الذي ينتمي إليه بل هو متضامن معه آليا. إلا أننا نرى في بعض الأوقات ذوبان التمييز والتفرد عند امتزاج الأجساد في المجتمعات القبلية القديمة ( والشعبية اليوم) ، ففي الأعراس والأفراح التي تنظّم إلى اليوم في القبائل والدواوير المغربية تمتزج وتندمج الأجساد مخترقة الإختلاف النوعي وكذا القيم والأخلاق المنظمة لحدود الأجساد كأفراد، فالحدود مثلا بين أبناء وبنات العم تنحل في ظل صخب الفرح والإحتفال ، كما لو أن تلك الحدود ذابت ليحل محلها التساهل مع حركات الأجساد فيمكن أن تخوض نقاشا طويلا خارج الحدود الأخلاقية مع ابنة عمك ، تلك التي كنت في ما قبل تستحي حتى أن تنظر إليها. في تلك الأجواء يتم اعتبار الصدام وملامسة الأيادي وكثرة الكلام والضحكات الصاخبة وتبادل الكلام والهمس في أذن ابنت الجارة ، وضرب النساء على أكثاف الرجال في فترة الضحك ، والذهاب في ظلمة الليل مع ابنت خالتك لجلب الأواني، ورقص الفتيات والنساء أمام الكل، والدخول إلى أماكن أكثر خصوصية، وإطلاق النظر في كل الجهات وتبادله، وتحرير مناطق من الجسد عند الفتيات والنساء مثل الرقبة ، وشعر الرأس من الغطاء لتتحول وظيفته من غطاء للرأس إلى قرص يحيط بخصر الأنثى مبديّة تراقص الأفخاذ حينما ترقص على أنغام الموسيقى (الشطيح). كما يمكن أن ترقص مع فتاة لا تعرفها ، أو تأخذ صورة مع العروس وأنت ملتصقا بها أو واضعا يدك على كتفيها ، مع العلم أن هذه العروس هي التي كانت ابنت عمك الأمس حينما كنتما تتكلمان واضعين مسافة متر أو أكثر وأنتما تتحدثان كلام متقطع وعام، بل الأكثر من ذلك يمكن أن تأكل النساء والرجال والعزاب والعازبات على مائدة واحدة ، هذه المائدة التي تكون مائدة حوار منفلت من القانون الأخلاقي أكثر منها مائدة أكل. كل هذا لا يثير أي إزعاج لكل الفاعلين المشاركين في العرس أو الحفل . في كلمة إننا نتحرر من المكبوت خلال الأعياد والمناسبات والأعراس. إن العيد حسب عبارة روجيه كايوا الموفقة في كتابه الإنسان والمقدس” هو يوم التكرّس للإلهي ، كما إنه زمن الإباحة والتبدير… ويضيف كذلك إذا كان مقدس الاحترام هو الذي يتحكم بسير المعتاد، فإن ما يسود في ذروتها هو مقدس الانتهاك”[19]. إلا أن الأمر غير المفهوم هنا هو ما هي القوة التي تتمتع بها طقوس الأعياد والأفراح والأعراس لتسمح بهكذا خروقات بالطفو بكل سهولة على مستوى العلاقات دون أن تخلف أي ردة فعل معاكسة ؟ يبدو أن الانتقال من النقيض إلى النقيض أخلاقيا وقيميا يبدوا مؤلما وقاسي جدا، لكنه يغدوا ممكنا ومحتملا إذا ما تم توفير أنماط متسقة أخرى للسلوك تحقق انسجامه وتخفف – إلى حد ما- من حدة تناقضاته. فالطقس إذا لا ممدوحة عنه في إخفاء الأجساد كليا وتصريفها جزئيا عبر الطقس نفسه. في نفس السياق يقول دافيد لبروتون “ففي ابتهاجات الكرنفال على سبيل المثال ، تمتزج الأجساد، بلا تمييز وتشارك في نفس حالة الجماعة بحيث تصل إلى توهجها فلا شيء في هذه الاحتفالات أكثر غرابة من فكرة المشهد والابتعاد والتملك من خلال النظرة فقط. ففي حماسة الشارع والساحة العامة من المستحيل البقاء بعيدا، إن كل إنسان يشارك في الدفق الجماعي وفي الامتزاج المبهم الذي يهزأ من الأعراف والأوامر الدينية. إن المبادئ الأكثر قداسة تتحول إلى سخرية على يد المهرجين والمجانين وملوك الكرنفال. فالصور الساخرة والضحكات تنطلق من كل الجهات… إنه يعلق مؤقتا العادات…ويؤسس قواعد الانتهاك ويؤدي بالناس إلى التحرر من الغرائز المكبوتة عادة”.[20] فالجسد إذا في التقاليد الكرنفالية والثقافة الشعبية القبلية المغربية غير منفصل ، ولا متميزا عن الإنسان مثل الجسد الحديث الذي ينظر له كعامل تفرد. إنه جسد غير راض على حدوده التي لا يمل من انتهاكها ، فهو يمتزج مع الجمهور، ومن ثم “يبقى خاضعا لكل اجتماعي كوني يتجاوزه ، وحدود اللحم لا تمحي علامات حدود الجوهر الفردي. إن نسيجا من الاتصالات يمزج في قدر مشترك الحيوانات والنباتات والإنسان والعالم غير المرئي”.[21]
النظرية البنيوية الاجتماعية والنظرية البيولوجية : نقد المعرفة الأيديولوجية
النظرية البيولوجية وتكريس التفاوتات
النقاش هنا يدور بين نظريتين احتدم الأخذ والرد وتطور بينهما بشكل كبير ، فالنظرية البيولوجية ترى بأن أن إمكانيات الأجساد وقدراتها وفاعليتها هي التي تقف وراء هويات الأفراد وكينوناتهم بل أكثر من ذلك تنتج العلاقات الاقتصادية والسياسية والاقتصادية التي تحدد أنماط العيش والمواقع والحظوظ . إن التفاوتات الطبقية واللامساواة في الثروة المادية، والحقوق القانونية والنفوذ السياسي والمكانة الاجتماعية والرأسمال الاجتماعي والعلمي والثقافي، والتمايزات بين الجنسين… أمور ليست مشكلة اجتماعيا ، وبالتالي يمكن تغييرها ، بل هي معطاة سلفا ، أو بالأحرى تحصل على شرعيتها من قوة الجسد البيولوجية. يشير توماس لاكوير thomas laqueurإلى حدود القرن الثامن لم يعرف الجسد أي تصنيفات أوتقسيمات جندرية (نوعية genre ) ، على اعتبار أنه كان يزعم بأن الجسد الذكوري هو القاعدة ، وأن الجسد الأنثوي ليس إلا جسد احتاز على مكونات الجسد الذكوري ،لكن الإشكال هو أنه رتّب بطريقة مختلفة وأكثر تدنيا . وظل التصور السائد لقرون على أن الأنثى لها نفس أعضاء الرجل ، إلا أن الاختلاف هنا هو أن الأعضاء عند الأنثى توجد داخل الجسد وليس خارجه مثل الرجل ، سيبنى على هذا الأمر تصور ثاني وهو أن الفرج عند المرأة ليس سوى قضيب داخلي ، واعتبرت شفرات الفرج جلدة الذكر ، كما اعتبر الرحم صفنا ، والمبيضين خصيتين داخلتين. أيضا اعتقد أن النساء يفرزن منيا.[22] هكذا نرى تكريس النظرة الأحادية للجنس ، ما جعل اعتبار المرأة رجلا ناقص وفي أدنى مرتبة. يرجع ذافيد لوبروتون إلى أن الأعمال التي تدعم هذا الاتجاه تندرج ضمن التقليد الدارويني الذي دشنه بكتاب : “التعبير عن المشاعر عند الانسان والحيوان ” ما خلاصته أن استعمالات الجسد خصوصا في بعده الوجهي أو الحركي ،والترجمة البدنية للأحاسيس التي يشعر بها الفاعل تتعلق بميكنزمات بيولوجية كونية وفطرية[23]. نضيف كذلك كتاب عالم الحشرات إدوارد ولسون Edward Osborne Wilson والذي حاول فيه الكاتب بناء الأسس البيولوجية لكل السلوكات الاجتماعية ، الشئ الذي يؤدي إلى اتجاه عرقي تطوري يهدف إلى إعلاء حظوظ التوالد . إن علماء البيولوجيا والسوسيوبيولوجيا يذهبون إلى ان النظام الاجتماعي بعلاقته وفاعليه وجماعاته تابع لبرمجة وراثية ثابتة تتم عبر التناسل ، جاعلين من كل ما هو ثقافي واجتماعي ليس سوى عارض بسيط لما هو بيولوجي. طبقا لهذا الطرح فنحن لسنا إلا منتوج للجينات الموروثة عن آبائنا ، ولإحداث تغيير في طباع الإنسان لابد من التدخل في جيناته وتعديلها ، حسب هذا الطرح نكون نزعنا من الاجتماعي والثقافي واختزلنا في البيولوجي. لقد تفشى هذا الاتجاه وتمخضت عليه معارف كثيرة تقيم فوارق حادة بين الجنسين ، مثال ذلك أن بذل المرأة نشاطا ذهنيا مكثفا أو طويلا يؤدي إلى اضطرابات مرضية نسائية بعينها ويسبب اعتلالا عاما في صحتها . وبحسبان أن وظيفة المرأة الطبيعية تشتمل على حمل الأطفال ، يلزم أن يقتصر العالم الأكاديمي على الذكور.[24] وتكتب جوليان فيري في هذا الصدد كذلك أن طاقة المني هي التي تنشط وظائف المرأة وتمنح المتزوجة ثقة في النفس وجرأة. كما أنه هناك من يبرر الأفضلية للذكر على الأنثى من حيث تحكمه في نوع جنس ويبني رأيه على أن التطور الجنيني الذي يحدث بالتقاء البويضة المكونة من 23 زوج من الكروموسومات في الأنثى مع حيوان منوي من الذكر الذي يحتوي أيضا على 23 زوج كروموسوم ، واحدة من هذه الكروموسومات الذكرية تكون مسؤولة عن تحديد جنس المولود ، لأن البويضة تحتوي على دائما على الكروموسوم x، اما الكروموسومات الموجودة في الحيوانات المنوية فتحتوي إما على الكروموسوم x أو على الكروموسوم y . وهكذا فإن تم تلقيح البويضة بالكروموسوم x تحمل البويضة الملقحة رمز xx ويكون جنس الجنين حينئذ أنثى ، أما إذا تم تلقيح البويضة بالكروموسوم y تحمل البويضة رمزxy ويكون جنس الجنين حينها ذكرا. نتيجة لهذا العامل البيولوجي يتم بناء تلك الفروقات التي تؤسس للإجحاف الاجتماعي وتأتي مجموعة من الادعاءات الأخرى التي تعزز هذا الزعم من قبيل كبر حجم دماغ الذكر على حجم الأنثى ويعتبرون ذلك مقياس للفكر والتعلم وأفضلية الرجل في هذا الجانب.
النظرية البنيوية الاجتماعية: من الذكر والأنثى البيولوجيين إلى الرجل والمرأة الثقافيين:
ترجع أصول البنيوية الاجتماعية أساسا إلى مدرسة علم اللغة البنيوي ، وأعمال فرديناند دي سوسير Ferdinand de Saussure ، والشخصيات البارزة في هذا الاتجاه كلود ليفي شتراوس (الأنثربولوجيا) لويس ألتوسير (النظرية الاجتماعية والفلسفية) رولان بارت Roland Barthes (النقد الأدبي والدراسات الثقافية) كرِسْتيَنْ ميتْز Christian Metz (النقد السينمائي) جاك لاكان Jaques Lacan (التحليل النفسي) ميشيل فوكو Michel Foucault (تاريخ الفكر) وجاك دريدا Derrida Jaques (الفلسفة).هذا من حيث روادها أما مضمونها –وهو أحد مضامينها والذي يهمنا هنا بالأساس- البنيوية تعتبر كل النتاجات الإنسانية أشكالا لغوية وهذا يتضمن ما يدعونه »بالأفكار العامة «فهي تعتبر أن منهجية النظام الاجتماعي ، هي أننا عندما نتحدث مع الآخرين فإننا نستخدم مصطلحات ذات معان عامة مسبقا ، ونخلع عليها معاني معينة ترتبط بالسياق ، وبالتالي فإن هذه المعاني المبنية سيوسيوثقافيا يمكن اعتبارها مجالا آخر من مجالات الواقع الاجتماعي .هكذا فالبنيوية تساهم في فهمنا لهذا المجال . إذ نستطيع أخذ مجموعة أفكار عامة ، أو نظرية معينة ، ثم ننظر في البنية الكامنة في تلك الأفكار ، أي في سبب وجودها على ماهي عليه أومنطقها. أي منطق اشتغالها واستمرارها ودوامها. ومن تم تصبح البنيوية منهج أو أسلوبا للنظر إلى العالم ،أو التفكير فيه ، يمكّننا من اكتشاف أمور كانت خافية علينا من قبل. ولما كان الجسد في كليته بناء سوسيوثقافي فإنا سنحاول اكتشاف هذا البناء.
إذا كانت السوسيولوجية تهتم بالعلاقات الاجتماعية والفعل المتبادل بين “الرجل” و”المرأة” ، فإن الجسد دائما حاضر هنا في قلب كل التجارب ، وعليه تقوم وتبنى كل القيم الثقافية والاجتماعية ، والتي منها قيمة الرجل والمرأة كدورين اجتماعيين وثقافيين ؛ تتغير هذين القيمتين من سياق إلى آخر ومن زمن إلى آخر ومن ثقافة إلى أخرى … الأمر الذي يجعلنا نتساءل بأننا ألا يمكن أن نقول أن الجسد نفسه ينظر إليه من خلال حجاب التمثلات ، فالجسد ليس طبيعة ، ومن هنا فلا وجود له . نحن لم نر أبدا جسدا منفردا ، نحن نرى ونشاهد “رجالا” “ونساء” ، ولا نرى أجسادا ، لأن الجسد في هذه الحالات يخاطر بأن يكون كلية[25]. هكذا تحاول النظرية البنيوية فتح النقاش حول هذين القيمتين لفضح الإجحاف الاجتماعي الذي يختبئ وراء ذلك.
إن كل المجتمعات تفرض على الجنسين مواقف ومهاما متباينة، وأغلبها تحاول عقلنة هذه الفوارق بالارتكاز على الخلافات الفيزيولوجية بين الجنسين أو دورهما المختلف في عملية إعادة الانتاج . ولكن دراسة مقارنة للأدوار المنوطة بالجنسين في الثقافات المختلفة تبرز أن العوامل السابقة الذكر قد تكون نقطة البداية في توزيع هذه الأدوار ، ولكن الثقافة السائدة هي التي تحدد في الواقع نسبتها للمرأة أو الرجل . وتتباين الخصائص النفسية المنسوبة للرجال والنساء في المجتمعات تباينا كبيرا هي الأخرى ، إلى حد كونها ترتكز على تبريرات فيزيولوجية واهية[26]. وهوما رأيناه مع النظرية البيولوجية من خلال حججها الواهية ، والتي لم تصل إلا لطريق مسدود. من المهم إدن أن نتساءل عن تاريخانية ثقافاتنا الحاملة لقيمنا ومعاييرنا وعاداتنا التي تقيم صرحا يقينيا أمامنا يرفض وبعناد تفكيكه والبحث في مشروعيته ، ولعل بيير بورديو قد سبق لهذا الطرح في كتابه “الهيمنة الذكورية” عندما تساءل عن الآليات التاريخية المسؤولة عن نزع التاريخانية والتأبيد النسبيين لبنى التقسيم الجنسي ومبادئ الرؤية المتناظرة ، ويتضح هذا السؤال بشكل كبير عندما توقف بورديو عند ما أسماه “بمفارقة المعتقد” paradoxe de la doxa أي واقعة أن النظام الكون كما هو باتجاهاته الوحيدة واتجهاته الممنوعة ، على المعنى الحقيقي أو على المعنى المجازي ، وبالتزاماته وعقوباته ، محترم إجمالا Grosso modo ، وألا يكون فيه بعد انتهاكات وانقلابات وجنوحات ” وحماقات” اكثر … أو كأن يكون النظام القائم ، وهذا أيضا مدعاة الدهشة أكثر ،بعلاقاته الهيمنية وحقوقه ، وإهداره حقوق الغير وامتيازاته ومظالمه ، يتأبد في نهاية بذلك القدر من اليسر[27]. من خلال هذا السؤال في حقيقة الأمر علينا نعيد النظر في “بادئ الرأي” المسلم به تجاه واقع العلاقات بين الجنسين . فماهي إدن أساسيات الإجحاف الاجتماعي ؟
إن تكريس الفروق بين الجنسين يتضح أولا في حالة الصغار الذين تفرض عليهم هويات نوعية قبل أن يصبحوا واعيين بها أويدركونها ، على نحو يكرس هيمنة بعضهم على بعض ، ويستمر استدماج هذه الهويات عبر التوكيد عليها من خلال مؤسسات التنشئة الاجتماعية خاصة منها الأسرة ، وتظهر هذه التقسيمات والفوارق أساسا من خلال الجسد، وكأنها طبيعية ومقبولة لأنها وكما يقول بيير بورديو” بما هي أثر لما أسميه العنف الرمزي ، ذلك العنف الناعم واللاّمحسوس واللّامرئي من ضحاياه أنفسهم، والذي يمارس في جوهره بالطرق الرمزية الصرفة للاتصال والمعرفة ، أو أكثر تحديدا بالجهل والاعتراف أو بالعاطفة حدا أدنى. هذه العلاقة الاجتماعية العادية بشكل غير عادي، تمنح إذا مناسبة مميزة لالتقاط منطق الهيمنة الممارسة باسم مبدأ رمزي معروف ومعترف به من قبل المهيمن على المهيمن عليه ، أو باسم لغة (لفظ) أو نمط حياة ( أو أسلوب في التفكير ، أو القول ، أو الفعل ) وبشكل أعم باسم خاصية مميزة ، شعارا كانت أو وصمة . ولعل أكثرها فعالية رمزية تلك الخاصية الجسدية الاعتباطية بالكامل واللامتوقعية كما لون البشرة . أو نوع الجنس.” [28]وإلا كيف سنفهم استياء الرجال من أجسامهم التي يعتبرون أنها صغيرة بإفراط( اليدين، العضو التناسلي… )، بينما تنزعج النساء من أجزاء تبدو لهم كبيرة بإفراط( الرجلين، اليدين ، الأنف ، الشفتين…) . وبهذا يكون التقسيم ذكر أنثى أمرا مشكوكا فيه ، بل أكثر من ذلك غير مبرر وليست له قاعدة منطقية سليمة ، فهو ناتج عن عمليات تاريخية اعتباطية عملت على تكريس هذا النمودج الذي يحمل في طياته جوانب من التراتبية والأفضلية لجنس على آخر . إن ما يجعلنا نأتي على إرهاصات التقسيمات الإعتباطية المَبْنيّة والمُبَنْيَنّة كترسيمات لا واعية في أجسادنا حسب بورديو هو اكتشاف مقولات الذهن أو الفكر التي تكلمنا عنها مع دوركايم التي نبني بها العالم ، والسمة الأساسية التي تمتاز بها هذه المقولات أنها هي نتاج المجتمع والعالم ككل الأمر الذي يجعلها تكون متوافقة معه إلى الحد الذي يجعلها تغيب من وعي الأفراد وتفكيرهم ، كيف لا وهي المقولات التي يدركون بها العالم ويعونه كوجود ؛ وهكذا فإن التعارض بين الذكر والأنثى والذي اعتبرناه تقسيما اعتباطيا ، يجد نفوذه في نسق التعارضات والتقابلات المتجانسة ، أعلى/أسفل، فوق/ تحت ، أمام/ وراء ، يمين /شمال ، مستقيم/ مقوس، جاف/ رطب، صلب/رخو ، مضيء/معتم ، عمومي/ خصوصي ، خارج/ داخل. إن هذه التقابلات كما يقول بورديو متوافقة مع حركات الجسد (أعلى/ أسفل ،صعود/ نزول، خارج /داخل . ويبقى الأمر الذي يثير الاستغراب والدهشة ، وطبقا لهذه التقابلات ، هو أن التقسيم الجنسي هنا يبدو وكأنه متأصل في نظام الأشياء ، وبالمثل في أجسادنا كبداهة لايمكن إدراكها إلا كمسلمة يقينية عند الأفراد ، تترجم إلى ترسيمات عملية أواستعدادت أو ما يمكن أن نسميه بالهابتوس الجسدي ؛ والذي يمكن الإشارة إليه على أنه عبارة عن مبادئ منتقاة أو أخلاق عملية أضحت أوضاعا واستعدادات جسدية ومن تم فالقيم ليست في الأخير إلى حركة جسدية وطرائق في الوقوف والكلام والسمع والجلوس. يقول بيير بورديو تكمن قوة الأخلاق العملية ، في انها أخلاق أصبحت فضيلة أخلاقية وسلوكا ووضعية جسدية[29]، وهكذا يكون الهابتوس habitus هو ما ورثناه ، لكن ما تجسّد على نحو مستدام في الجسد في شكل استعدادات مستدامة. هكذا نجد مفهوم الرطوبة ،والرخاوة، والليونة ترتبط بشكل غير مفهوم بجسد الأنثى ومفاهيم من قبيل الجفاف ، القساوة ، ترتبط بالذكر كما الإرتباط الذي يقع عندما أقول أسود وأبيض ، فإني أفهم ذلك مباشرة بجيد وسيء. وكما تضهر هذه المفاهيم بأنها منسية من السؤال ومغيّبة بقوة النظام نظرا لقوة تمركزها في العالم ، “تضهر كذلك قوة النظام الذكوري –كنظام- تتراءى فيه أمرا يستغني عن التبرير ذلك أن الرؤية مركزية تفرض نفسها وكأنها محايدة ، وأنها ليست بحاجة إلى أن تعلن عن نفسها كأنها محايدة ، وإنها ليست بحاجة إلى أن تعلن عن نفسها في خطب تهدف إلى شرعنتها . والنظام الاجتماعي يشتغل باعتباره آلة رمزية هائلة تصبو إلى المصادقة على الهيمنة الذكورية التي يتأسس عليها[30]. هكذا تًتًبَنْيّنْ الهيمنة الذكورية وكأنها أشياء عادية في أبسط حركاتنا وسكناتنا اليومية عبر آليات التنشئة ، في هذا الصدد تقول كونيل CONNELL إن رواج ملابس الأطفال الوردية للبنات والزرقاء للأولاد إنما يبين الأهمية المستمرة لتكريس الفروق بين الأجساد في وقت ليست فيه أية فروق مهمة . عادة ما يكون كل المواليد قادرين على التغوط والتقيؤ وإسهار آبائهم الليل . غير أنهم ليسوا قادرين على القيام بمهام اجتماعية مهمة يمكن أن تعزى بأي معنى بسيط إلى “جنس” أجسادهم . تشتمل أمثلة أخرى على مواقف توصف فيها البنت في مقتبل عمرها بأنها “ضعيفة” و”هشة” رغم أنها قد تكون أطول وأقوى من ندها الذكر . أيضا فإنه حين يصرخ الطفل من الألم ، فإنه يؤنب ويطلب منه التصرف كرجل[31] فليس من حق الذكر أن يتألم ولا ينبغي له ، فليس البكاء إلا للنساء ، لأن ذلك يخالف “طبيعته” الرجولية كما يريدها المجتمع، . تقربنا فاطمة المرنيسي أكثر من هذه التمظهرات التي تربط أعضاء الجسد وسطوحه البيولوجية بقيمة الرجولة بل أكثر من ذلك الافتخار بالأعضاء التي تتأسس عليها هذه القيمة، كقيمة “عليا” وأحيانا “مقدسة” لا تستمد تعريفها إلا إذا قورنت بالقيمة الأنثوية “السالبة”، ففي الوعي المغربي تدفع النساء الطفل بالنطق في جهة فاس باسم القضيب (حسب لهجة فاس الحطيوطة) مع ترديد النساء “هذا سيدهم” وهن يشرن إلى قضيب الطفل ويشجعنه على ترديد العبارة وهو يمس عضوه بيده ، كما أن تقبيل عضو الذكر تشكل حركة اعتيادية من طرف قريبة قد تهمس ” تبارك الله على الراجل[32] ، كل هذا من أجل تجسير الارتباط وتقويته عند الطفل بين القضيب والرجولة ، وهكذا تتوالى الأحداث التي تكرس هذا التمايز والذي يتجلى في تقسيم العمل ، وتقسيم الفضاءات إلى عام وخاص ، هذه التقسيمات التي دائما تحفظ الامتياز للذكر على الأنثى.
إن منطق السببية هنا غير مباشر ولا يعطي نفسه هكذا بسهولة ، الأمر الذي يضيع علينا منطق اشتغاله في المجتمع ، خصوصا الآلية السببية التي جعلت من النظام الذكوري أمرا عاديا ومؤبدا ، لذلك علينا أن ننتبه إلى أن في المجتمع تصور بنيوي ضمني لفكرة السبب ، فالسبب لا يمكن أن يكون في حادث بعينه أو شيء ما، بل يكمن في “ترتيب” معين للعلاقات ، ويمكن النظر إلى هذه العلاقات كمؤطر أو مشكّل ” لآلية سببية”… مثلا قد تكون الآلية السببية الكامنة( الخفية) في العلاقة بين القلق الذي أشعر به حيال رجولتي (فحولتي) وبين غضب زوجتي المكبوت هي التي ستؤدي في ظروف معينة إلى جدال عنيف حول من يطعم القطة[33] هكذا فالرجولة بارتباطها بالقوة والفضيلة والشرف تبقى ضمنيا غير منفصلة عن الرجولة الجسدية لاسيما عبر دلائل القوة الجنسية –فض بكارة الأنثى ، ذرية ذكور وفيرة … وهنا إشارة إلى قوة القضيب الخارجي عند الذكور ورمزية انتفاخه وصعوده ونهوضه التي تحيل إلى القوة الاخصابية ، والفرج أو البويضة كموضوع للتخصيب ،ومن تم يعد الفعل الجنسي بطريقة عجيبة عند الرجال على أنه “شكل من الهيمنة والاستيلاء والتملك ، ومن هنا ينبع الفارق بين الانتظارات المحتملة للرجال والنساء بخصوص الجنسانية وسوء الفهم المرتبط بالتأويلات السيئة للإشارات المبهمة عمدا أحيانا ، أو الخادعة التي تنتج عنها ، وعلى خلاف النساء المهيئات اجتماعيا لعيش الجنسانية كونها تجربة حميمية ، ومحملة بشدة بالعاطفة والتي لا تتضمن بالضرورة الإيلاج بل يمكن أن تشمل مروحة من النشاطات( الكلام، اللمس ،المداعبة ،العناق …) ، فإن الفتية (الذكور) ميّالون إلى “تقسيم” الجنسانية التي يتصورونها فعلا عدوانيا وجسديا بشكل خاص ، للفتح الموجه نحو الإيلاج ورعشة الجماع[34]. هكذا نفهم أن الرجل يهيء لكي يخبر الجنس كسيطرة وعنف موجه نحو هدف الإيلاج عكس الأنثى التي تهيء على اختبار الجنس كحركات ناعمة ورخوة تتراوح ما بين اللمس والتقبيل والكلام تهدف إلى الاستمتاع ، عكس الرجل الذي يهتم بهذه الأشياء أي اللمس والتقبيل والكلام فقط للبرهنة على قدرته على الإمتاع ، (أي إمتاع الأنثى )، وهكذا فالذكر دائما ما ينتظر الرعشة الجنسية عند الأنثى كإثبات لقدراته الجنسية حسب كاترين ماك كينون catharine mac kinno. وعادة ما تتظاهر الأنثى بالرعشة ؛ وما ذلك منها إلا تأكيد للهيمنة الذكورية عليها استجابة منها لرغبة ذاتية في نفس الرجل مُهمّشةَ رغبتها. الأمر الذي يجعلنا نقول مستعرين قولة بورديو الذي يقول فيها بأن الاستمتاع الذكوري هو في جزء منه استمتاع بالاستمتاع الأنثوي ، وبالقدرة على الإمتاع.
نأتي الآن إلى لغتنا العربية ونبحث في لا وعيها الذكوري ، فعبر اللغة نبني تصورنا للعالم، ولمّا كانت اللغة العربية لغة ذكورية فإننا نبني تصورا ذكوريا لهذا العالم . وبالتالي المرأة لا تتكلم إلا من خلال لغة الرجل . هناك باب نحوي معروف يصطلح عليه ” الجنس” والذي لا يمكن أن تنفصل عنه فكرة ذكورية اللغة ؛ ويعني هذا الباب ذلك “التصنيف النحوي الذي يقدم قياسا معينا انطلاقا من التمييز الذي نجده في اللغات بين المذكر والمؤنث “والمحايد” ، والقائم على التقسيم الطبيعي إلى جنسين . وعلى هذا الأساس ، ينبغي التفريق بين الجنس النحوي (genre) والجنس الطبيعي (sexe) ، والجنس الأول ما هو إلا ترجمة لغوية ما للجنس الثاني[35]. من هنا يمكن أن نقول أن الاشتقاق بصفته آلية من آليات إنتاج الصور الصرفية اللغوية ، يتميز بنزوعه الذكوري –ومن حيث أننا تؤطرنا كلمة يجوز ولا يجوز في لغتنا كثيرا – فلا يجوز مثلا ، اشتقاق جمع مذكر سالم إلا إذا كان عاقلا . إدن ، والحالة هاته ، تبدو الآلة النحوية التي تبني الألفاظ وتبيح اشتقاقها ذكورية. يقول عبد المجيد جحفة إن اللغة ليست ذكورية مادة فحسب ، إنها ذكورية شكلا أي نحوا. من الأدلة التي يقدمها عبد المجيد جحفة على ذكورية اللغة نجد أنه يقول : ومن الأدلة على قولنا أن شكل اللغة ذكوري (وليس معانيها فحسب) أنه إذا أُنِّثَ اللفظ وكان مذكرا معنى ( مذكر معنى ومؤنث لفظا ، مثل “حمزة”) فإنه لا يُجمع جمع مذكر سالما . ألا ترى أن المؤنث اللفظي لا يحظى بالجمع جمع مذكر السالم ، وإن كان مذكر من حيث معناه ؟ بل إن الصرف حين يشم المؤنث في بعض الألفاظ ، وإن كان لفظها مؤنثا لم يجمعها جمع مذكر السالم : وكلمة حامد أو حليم إن كانت علما معروفا لمؤنث لم تجمع هذا الجمع . ويسري هذا كذلك على العلم المذكر العاقل ، المشتمل على تاء التأنيث الزائدة ، مثل حمزة وجمعة وخليفة ومعاوية وعطية ؛ فهذا النوع لا يجمع جمع مذكر سالما . وليست العبرة هنا بالمعنى ، بل العبرة بوجود تاء التأنيث اللفظية. فكأنما يقع التعارض ظاهريا بين العلامة الصرفية والمعنى ، وتنتصر العلامة لأنه لا يصح اتباع المعنى وحذف العلامة ، لأن حذفها يوقع في لبس ، إذ لا ندري أكانت الكلمة مؤنثة لفظا قبل الجمع أم لا ، لهذا رجعوا إلى المفرد واشترطوا خلوه من تاء التأنيث الزائدة . وهذه التاء زائدة فحسب ، ولكنها تبني جزءا مهما من القواعد الصرفية في اللغة العربية[36].
إن هذا الصّرف الذي يرى الزائد لفظا بغير معنى ، يرى كذلك ما لا يوجد لفظا ، ويذهب باحثا عن المعنى ، فإذا وجد المؤنث في غير اللفظ ، لم يجمعه كذلك جمع مذكر سالم. وحدها الكيانات العاقلة التي تجمع يمكن أتجمع جمع مذكر السالم ، أما الكيانات غير العاقلة كلها ( بما فيها النساء ) فتجمع جمع مؤنث السالم . وبهذا نقول “راشدون” جمع راشد ، ولا نقول “كرسيون” ( جمع كرسي ) ، غير أننا نقول “فاتنات” جمع فاتنة، مثلما نقول ” “شاحنات” جمع شاحنة ، “طائرات” جمع طائرة. ” فالقاعدة تسوي ، في الجمع المؤنث السالم ، بين المرأة والجماد ؛ ولكنها لا تسوي بينهما في جمع المذكر السالم كي تميز الذكر بذكورته (وبعقله) . إن جمع المذكر مبني على فكرة المنع والتحصين ، أما جمع المؤنث فمبني على فكرة الجمع والتهجين[37].
هكذا نجد اللغة تبني وتؤسس للفرق بين الذكر والأنثى وتقيم الصراع والتضاد بينهما ، ففي اشتقاقها تميز اللغة بين الرجل والمرأة ، ففي مقابل لفظة الرجل لا نجد “رَجُلَة” بمعنى مؤنث الرجل . وحتى اشتقاق الجمع الذي يسري على الرجل ، إذ نقول رجال ، لا يسري على المرأة لأن جمع المرأة نساء. مع أن جمع مذكر امرأة هو امرئ حسب البعض ، لكن الجمع الاشتقاقي يتحاشى أن يدرج المرأة فيه. هكذا يشتغل كل شيء كما لو أن المرأة ليس لها مكان في هذه اللغة الذكورية.( انتهى الكلام في لاوعي اللغة).
إن إنتاج الرجال والنساء كتصنيفات منفصلة وغير متساوية يتم عبر تحويل الفروق المتوسطية إلى فروق مطلقة. إن إقرارات من قبيل ” الرجال أقوى من النساء ” إنما تتغاضى عن عدد كبير من النساء الأقوى فعليا من الرجال … هكذا يتم طمس أوجه الشبه البيولوجية ، ويتم توكيد الفروق الجسمية وتوظيفها في تعزيز انظمة تصنيفية جندرية مجحفة. يتبدى هذا بطرق ومظاهر مختلفة ، ففي مقابل قوة الرجل ومبادرته ، يوكل إلى المرأة دور العاطفة ، الانفعالية ، وفي مقابل الحياة الموجهة نحو الخارج ، يوكل إليها دور الانزواء ضمن حدود منزلها ، وانحسار وجودها ضمن حدود أسرتها . وفي مقابل قوة الرجل وذكورته وسيطرته ، يوكل إليها تمثيل المازوشية والرضوخ والاستسلام للأقدار .وفي مقابل كبرياء الرجل وتضخم اعتداده بنفسه وعنفوانه ، يوكل إليها دور التعبير عن العيب والعار والحاجة إلى السترة. وبمقدار تهديد مكانة الرجل في الخارج، تتعزز قوته داخل المنزل لأسباب تعويضية دفاعية ، فهو السيد المسموع الكلمة ، ذو السلطة التي لا تناقش وهي التابع ،والخاضع ، خادم السيد. بمقدار نفي وإنكار المعاناة عند الرجل ، تفجر المعاناة عند المرأة[38].
نلاحظ إذن بأن هناك مبالغة واضحة في قوة الرجل وذكوريته ومكانته ،وهناك مبالغة في إسقاط القدرة على المجابهة والتصدي عنده . وهناك مبالغة في تقدير مدى تحمله وجلده وعدم شكواه . وهناك مبالغة في قدرته على كسب الرزق وتدبير أحوال الأسرة (أسطورة الرجل الذي ينتزع اللقمة من فم السبع) وهناك مبالغة في عدوانيته ، فورات غضبه، سلوكه الهجومي، من ناحية، وشجاعته وقدرته على التحمل من ناحية ثانية[39].
إن هذا الامتياز الذكوري ليس إلا فخ سقط فيه الرجل ، على اعتبار أن الرجل يجب عليه ،بل مطلوب دائما منه أن يحرص على تأكيد رجولته في كل الأحوال والظروف حتى لو كان ذلك على حسابه ، في حين لا يطلب ذلك من الأنثى. ومن هذا نفهم أن الجنسين معا مهيمن عليهم بالهيمنة ، وبالتالي فالقهر الاجتماعي والثقافي الذي يضغط على الرجل ليس مختلفا إلا في الدرجة والطريقة .
في الأخير إن الأنوثة والذكورة ماهما إلا طائفة من الصفات والسمات التي تم بناؤها اجتماعيا من خلال مؤسسات التنشئة الاجتماعية ، وتتحول هذه السمات إلى نوع من الشروط والمعايير التي يخضع لها الرجال والنساء في المجتمع. فالمرأة التي لا تفي بتوقعات الدور الأنثوي (الذي يتميز بالخضوع) فهي لا تنال مكانتها العالية . ونفس الأمر فالبناء الاجتماعي للرجولة يتأثر تأثرا كبيرا بالتنشئة الاجتماعية ، وبعوامل ومعتقدات ، لعل أهمها الحاجة لإتباث الرجولة ،ممارسة السلطة وإنكار الاحتياجات العاطفية. في كلمة ، إننا لا نولد رجالا ونساء بل نصبح كذلك.
خلاصة :
إن المسار الذي قطعه الجسد عبر التاريخ في العلوم الاجتماعية جعل منه موضعا خصبا لإنتاج المعرفة، فلقد رأينا في الجانب الأنثربولوجي كيف أن الجسد هو العمود الفقري الذي تقوم عليه وبه الطقوس (سواء للتقديس أو الانتهاك) وهذا يضهر في الأعياد والاحتفالات، كما أشرنا كذلك إلى أن الجسد لا يدرك إلا بارتباطه بالعالم فمكونات الجسد لا تختلف عن مكونات العالم الطبيعي ، لكن هذا الأمر لم يدم كثيرا ففي الحداثة الغربية حدث تحول يتمثل في إدراك الجسد كعامل تفرد وكمشروع شخصي يعد بمثابة مكان الهوية والشخصية . يبقى الجانب السوسيولوجي الذي تقصينا مساره كذلك والذي أشرنا فيه إلى اعتبار التفاوتات والتمايزات هي نتاج اختلاف مؤهلاتنا وقوة أجسادنا ( النظرية البيولوجية) أو أن هذه التفاوتات التمايزات ليست إلا بناء ثقافي واجتماعي قام على الاختلافات البيولوجية بين الجنسين ، والتي هي تمايزات اعتباطية أصبح ينظر لها بأنها أشياء طبيعية (النظرية البنيوية).
المراجع
1 طيب العيادي: محاضرة سوسيولوجيا الإعلام والعولمة ، كلية الآداب والعلوم الإنسانية ، جامعة ابن زهر ،22/03/2019
2 بيير بورديو، مسائل في علم الاجتماع، ترجمة د. هناء صبحي ومراجعة فريد الزاهي،، هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة ، 2012
3 حسن فهيم ،قصة الأنثربولوجية :فصول في تاريخ علم الإنسان ، عالم المعرفة .المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب- الكويت 1986
4 ذافيد لوبروتون ،سوسيولوجية الجسد، ترجمة عياد أبلال وإدريس المحمدي ، القاهرة : روافد للنشر والتوزيع ، الطبعة الأولى ،2014 .
5 دافيد لوبروتون، أنثربولوجيا الجسد والحداثة :ترجمة محمد عرب صاصيلا . مجد/ المؤسسة الجامعية للدراسات والأبحاث والنشر والتوزيع. الطبعة الثانية 1997م . بيروت .
6عادل المساتي : سوسيولوجيا الدولة بالمغرب ؛إسهام جاك بيرك، سلسلة المعرفة الاجتماعية السياسية ، 2010
7 كرس شلنج، الجسد والنظريات الاجتماعية، ترجمة منى البحر ونجيب حصادي، دارالعين للنشر – القاهرة ،2009
8 Forum Européen Bioéthique .le tanshumanisme et le corps : une relation d’amour ou de haine ? la date de vu 02/04/2019 : https://www.youtube.com/watch?v=KGMMnSQutGc
9 عبد الوهاب بوحديبة ، الإسلام والجنس ، ترجمة وتعليق هالة العوري ، مكتبة مدبولي ،الطبعة الثانية ، 2001
10 عبد الصّمد الديالمي ،المدينة الاسلامية والأصولية والارهاب: مقاربة جنسية، دار الساقي، الطبعة الأولى ،لبنان، 2008
11 فؤاد إسحاق الخوري ، إيديولوجية الجسد ، رموزية الطهارة والنجاسة ، دار الساقي ،الطبعة الأولى ، لبنان ، 1997
12 روجيه كايوا، الإنسان والمقدس ،ترجمة سميرة ريشا ، المنظمة العربية للترجمة ، توزيع مركز دراسات الوحد العربية ،الطبعة الأولى ، 2010
13 فاطمة المرنيسي ، ما وراء الحجاب : الجنس كهندسة اجتماعية ، ترجمة فاطمة الزهراء أزرويل ، المركز الثقافي العربي ، نشر الفنك، الطبعة الرابعة ، الدار البيضاء- المغرب، 2005
14 بيير بورديو ، الهيمنة الذكورية ، ترجمة د . سلمان قعفراني ومرجعة ماهر تريمش ، مركز الدراسات العربية ، الطبعة الأولى ، 2009
15 عبد المجيد جحفة، سطوة النهار وسحر الليل : الفحولة وما يوازيها في التصور العربي، دار توبقال للنشر –المغرب ، الطبعة الأولى 1999
16 د.مصطفى حجازي، التخلف الاجتماعي : مدخل إلى سيكولوجية الانسان المقهور ، المركز الثقافي العربي ،الدار البيضاء-المغرب، الطبعة التاسعة ، 2005
17 إيان كريب، النظرية الإجتماعية : من بارسونز إلى هابرماس ،
ترجمة د.محمد حسين غلوم ، مراجعة: د. محمد
عصفور . المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب –الكويت ، 1999
[1] طيب العيادي: محاضرة سوسيولوجيا الإعلام والعولمة ، كلية الآداب والعلوم الإنسانية ، جامعة ابن زهر ،22/03/2019
[2] بيير بورديو، مسائل في علم الاجتماع، ترجمة د. هناء صبحي ومراجعة فريد الزاهي،، هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة ، 2012،ص 118
[3] حسن فهيم ،قصة الأنثربولوجية :فصول في تاريخ علم الإنسان ، عالم المعرفة .المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب- الكويت 1986 ص 199
[4] ذافيد لوبروتون ،سوسيولوجية الجسد، ترجمة عياد أبلال وإدريس المحمدي ، القاهرة : روافد للنشر والتوزيع ، الطبعة الأولى ،2014 . ص 10
[5] ذافيد لوبروتون، اسم المرجع سبق ذكره .ص 11
[6] ذافيد لوبروتون ، أنثروبولوجية الجسد والحداثة ،مرجع سبق ذكره..,ص92
[7] ذافيد لوبروتون ،سوسيولوجية الجسد ، مرجع سبق ذكره 176_177
[8] عادل المساتي : سوسيولوجيا الدولة بالمغرب ؛إسهام جاك بيرك، سلسلة المعرفة الاجتماعية السياسية ، 2010 ص 7
[9] بيير بورديو، مسائل في علم الاجتماع، مرجع سبق ذكره ،ص 59
[10] كرس شلنج، الجسد والنظريات الاجتماعية، ترجمة منى البحر ونجيب حصادي، دارالعين للنشر – القاهرة ،2009، ص 11
[11]Forum Européen Bioéthique .le tanshumanisme et le corps : une relation d’amour ou de haine ? la date de vu 02/04/2019 : https://www.youtube.com/watch?v=KGMMnSQutGc
[12] بيير بورديو، مسائل في علم الاجتماع، مرجع سبق ذكره ،ص 115
[13] ذافيد لوبروتون، انثربولوجيا الجسد والحداثة ، مرجع سبق ذكره ص 6
[14]ذافيد لوبروتون، انثربولوجيا الجسد والحداثة ، مرجع سبق ذكره ص 14
[15]مرجع سبق ذكره ص15
[16] مرجع سبق ذكره ص15
[17] عبد الصّمد الديالمي ،المدينة الاسلامية والأصولية والارهاب: مقاربة جنسية، دار الساقي، الطبعة الأولى ،لبنان، 2008 ص 30
[18] فؤاد إسحاق الخوري ، إيديولوجية الجسد ، رموزية الطهارة والنجاسة ، دار الساقي ،الطبعة الأولى ، لبنان ، 1997 ص 3-4
[19] روجيه كايوا، الإنسان والمقدس ،ترجمة سميرة ريشا ، المنظمة العربية للترجمة ، توزيع مركز دراسات الوحد العربية ،الطبعة الأولى ، 2010 ص : 16
[20] مرجع سبق ذكره ص 28
[21] مرجع سبق ذكره ص 31
[22] كرس شلنج ، مرجع سبق ذكره ص 69
[23] ذافيد لوبروتون ،سوسيولوجية الجسد ، مرجع سبق ذكره ص 121
[24] كرس شلنج ، مرجع سبق ذكره ص 73
[25] ذافيد لوبروتون ،سوسيولوجية الجسد ، مرجع سبق ذكره ص 48
[26] فاطمة المرنيسي ، ما وراء الحجاب : الجنس كهندسة اجتماعية ، ترجمة فاطمة الزهراء أزرويل ، المركز الثقافي العربي ، نشر الفنك، الطبعة الرابعة ، الدار البيضاء- المغرب، 2005 ص 21
[27] بيير بورديو ، الهيمنة الذكورية ، ترجمة د . سلمان قعفراني ومرجعة ماهر تريمش ، مركز الدراسات العربية ، الطبعة الأولى ، 2009 ص 15
[28] نفس المرجع السابق :16
[29] بيير بورديو، مسائل في علم الاجتماع، مرجع سبق ذكره ،ص 216
[30] بيير بورديو ، الهيمنة الذكورية ، مرجع سبق ذكره ، ص 27
[31] كرس شلنج ، مرجع سبق ذكره ص 147
[32] فاطمة المرنيسي ، ما وراء الحجاب : الجنس كهندسة اجتماعية ، مرجع سبق دكره ص : 186
[33] إيان كريب، النظرية الإجتماعية : من بارسونز إلى هابرماس ص 43-44
[34] بيير بورديو ، الهيمنة الذكورية ، مرجع سبق ذكره ، ص 42
[35] عبد المجيد جحفة، سطوة النهار وسحر الليل : الفحولة وما يوازيها في التصور العربي، دار توبقال للنشر –المغرب ، الطبعة الأولى 1999 ص 48
[36] مرجع سابق ص : 49
[37] مرجع سابق ص: 50
[38] د.مصطفى حجازي، التخلف الاجتماعي : مدخل إلى سيكولوجية الانسان المقهور ، المركز الثقافي العربي ،الدار البيضاء-المغرب، الطبعة التاسعة ، 2005 ص 204
[39] مرجع سابق ص 203