علي محمد اليوسف
ثبت أن التفسيرالمادي الماركسي للتاريخ شأنه شأن المناهج والدراسات التاريخية المضادة له المثالية المقاطعة الرافضة للجدل التاريخي ,كالرأسمالية الديمقراطية والليبرالية وغيرها,الجميع يشتركون في حقن تحفيزيات محركة ذاتية للوقائع التاريخية والاحداث في تبرير انتقالات التاريخ النوعية او ما يسمى الطفرات, في وصول التاريخ الى غائيات وحتميات سعى الى بلوغها في السيرورة التطورية المحكومة بأرادته الذاتية وبالضرورة ونزوعه لخير الانسانية في تقدم التاريخ الى أمام, مع عدم أهمال الماركسية عامل الانضاج الموضوعي( الاقتصادي, الاجتماعي, الثقافي) في الانتقالات والتحولات النوعية المراحلية عبر التاريخ.
كان هذا التفسير الجدلي الماركسي أستقراءا وأستنطاقا للتاريخ كماض أختط مساره , قبل أكتشاف أو وضع قوانين المادية التاريخية وصياغة فلسفتها المعروفة,وتبلورها المتكامل في التطبيق الاشتراكي الشيوعي.على وفق ديناميكية تحفيزية ذاتية حملها التاريخ في مساره التطوري الطويل لآلاف السنين أو يزيد ,متجاوزة بذلك أية عشوائية أو سلسلة مصادفات أن يكون لها سببا او تأثيرا سلبيا أو ايجابيا في مسارتطور التاريخ عبر العصور.

بمعنى أن التاريخ البشري كان محكوما- حسب الماركسية- بالتطور الذاتي والموضوعي الطبيعي قبل أهتداء الماركسية أكتشاف تلك القوانين المادية الجدلية.وأن هذه المراحل التطورية أخذت نصيبها في التطبيق المراحلي الانتقالي من مرحلة الى أخرى اكثر تطورا وتقدما في حياة الانسان ووجوده كحتميات ضرورية ملزمة للتاريخ بلوغها, ويجب أن تحصل في التاريخ البشري عموما بمعزل عن أرادة الانسان وتصنيعها وحاجته لها.
ومن الجدير ذكره أن داروين في نظرية التطور والانتخاب الطبيعي للاصلح, أستبعد فكرة الغائية التطورية والحتمية في ألزام التاريخ السير بمقتضاها حسب النظريات التي ذهبت في هذا المنحى التطوري الحتمي.وأن التطور الطبيعي للحياة والكائنات على الارض حسب نظرية داروين البيولوجية لا تسري ولا تنطبق في معطياتها على التاريخ البشري في أرتقائه التطور الانثروبولوجي الذي هو علم دراسة الانسان كوجود أرضي يعنى بتطوره التاريخي.
الملفت للملاحظة أن التفسير الماركسي (قفل) التطور التاريخي بمرحلة افتراضية في حتمية ووجوب أنحلال الرأسمالية الامبريالية لتعقبها المرحلة الاشتراكية الشيوعية, وهكذا تتوقف دورة حياة التطور التاريخي وهو ما لم يحدث..
بالمقابل نجد أن الرأسمالية (المعولمة) هي الاخرى من جانبها (قفلت) التطور التاريخي بما اطلقت عليه نهاية التاريخ عولميا عندها ,عقب أستفادتها التاريخية المجّانية من تمزّق الاتحاد السوفييتي وأنهيار النظام الشيوعي دراماتيكيا ونادت بعدها أنه لا تاريخ بعد العولمة الرأسمالية وأن العولمة هي نهاية التاريخ وأفول نجم وعصر الايديولوجيات السياسية في قيادتها التاريخ.

لم يكن واردا في الاستقراء التنبؤي الماركسي أن ينهار النظام الشيوعي قبل انهيار الرأسمالية الامبرالية,هكذا كان التفسير الاستقرائي الماركسي للتاريخ القائم على مركزية الفهم أن التطور البشري منذ العصور الاولى للبشرية, كان محكوما بغائيات وحتميات وقوانين طبيعية تقود التاريخ قسرا وبمعزل عن أرادة الانسان, قوانين ذاتية مصدرها الواقع المعيشي للبشر, ونضجهم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي موضوعيا.
نخلص بايجاز أن تطور التاريخ ماركسيا بنوع من الغائيات والحتميات الضرورية,كان مرتكزه التحفيز الذاتي الديناميكي الشغّال فيه باستمرارهو تطور الواقع الاقتصادي والاجتماعي ومن ثم الثقافي أيضا,هذا التفسير تم دحضه تاريخيا في بروز وانبثاق عصر العولمة وعدم أنحلال النظام الرأسمالي الامبريالي, رافقه انحلال النظام الاشتراكي الشيوعي في منظومة الاتحاد السوفييتي القديم, وبذا تنتفي الحاجة لدحض ما سبق وتم دحضه تاريخيا واقعيا على الارض, في وجوب اعادة دحضه بالتنظير الايديولوجي او الفلسفي في الفكر والايديولوجيا.

من جانب آخر تلتقي العولمة مع الماركسية في أعتمادهما الغائية والحتميات الضرورية في أن تكون الصدف التاريخية هي الاخرى محكومة بموازاة تطور التاريخ. في التفسير التاريخي من جهة وفي أقفالهما التاريخ المراحلي بمرحلة معينة, كلا حسب احتياجاته السياسية من جهة اخرى.
الماركسية أوقفت التاريخ على رأسه بدلا من قدميه كما فعل هيجل, حين أعتبرت الشيوعية آخر مراحل تطور التاريخ البشري .وكذا فعلت العولمة في أعتبار أنها تمثّل مرحلة نهاية التاريخ ونهاية عصر الايديولوجيات وأنه لم تعد هناك حاجة ولا ضرورة لمرحلة تاريخية تلي العولمة وتعقبها.(مقولات فوكوياما في نهاية التاريخ وأفول عصر الايديولوجيات).
أن العولمة لا تمثل صيرورة تاريخية في وصولها لحتمية تاريخية أوجدتها ومهدّت في أنبثاقها , كانت متوقعة ومحسوبة لا بد أن يصلها تطور التاريخ البشري,بل ولدت العولمة من صدفة عشوائية تطورية نوعية طارئة على الاستقراء التاريخي, ساهم بوجودها أنهيار الشيوعية السوفييتية بشكل دراماتيكي غير متوقع. ولم تنبثق العولمة بعوامل تحفيز ذاتية أعتملت مع فاعلية الجدل الموضوعي بايجادها تاريخيا.
أذ كان النظام الرأسمالي حينها يراوح بمشاكله ولا يزال في عصر العولمة, ولم تدب به الحركة الا بعد أنهيار النظام الشيوعي,لتأخذ العولمة دورها المتفرد في الهيمنة في غياب الند والمنافس.وبدأ التنظير العولمي يذهب منحى اكثر راديكالية في التبشير ليس في نهاية التاريخ وحسب وانما في (حتمية) صدام وصراع الحضارات, وترشيح الاسلام المتطرف لقيادة هذه المهمة بالضد من العولمة التاريخية.
النظام العولمي الرأسمالي لن ينجو هو الآخر من التجاوز والمغادرة في تفسيره التاريخ على وفق المنطق الايديولوجي السياسي قصير النظر, ليلتقي بذلك مع الاخفاق الشيوعي في (اقفال) التاريخ مرحليا,حينما اعتبرت العولمة نفسها المحطة الاخيرة لوقوف قطار التاريخ البشري.
وبذا فان النظام الرأسمالي العولمي أدرك جيدا, بل أراد – خاصة الآن عولميا – ان لا يكون هناك غائيات وحتميات تطورية تعتمل داخل التاريخ الانساني يتجاوز العولمة و تقوده الى مراحل متقدمة جديدة بعد العولمة تفقدها مبرر وجودها تاريخيا.
كما اوضحنا ان كلا النظامين الشيوعي والرأسمالي قفلا التطور التاريخي سياسيا كلا من جانبه على أساس من حتمية تاريخية أصبحت الآن (اكسباير) منتهية الصلاحية التداولية والاستعمال.فالتاريخ الانساني لا يتوقف في مرحلة الفتراضية تمليها المصلحة السياسية الايديولوجية المرتبطة بذلك النظام.

هذا الاقفال الافتعالي للتاريخ شيوعيا أورأسماليا في مرحلة تطورية من مراحله المستمرة ,نجد فيه النظرية تسبق الواقع ولا تأتي تفسيرا له,وتسبق المسار التاريخي ولا تهديه او يهتدي هو بها,والنظرية تجرّ التاريخ وراءها وتتقدمه, لكن لم ولن تلبث هذه الدوغمائية الفجّة طويلا قبل الاصطدام بحقيقة ان التاريخ يصنع النظريات ويسحبها وراءه وليس العكس.وليس بمقدور النظريات والمناهج كتابة تاريخ يمشي ويعيش على الارض.
الحقيقة التي اثبتها التاريخ بمساره العشوائي اللاغائي وغير الحتمي في التطور انه لا التفسيرالماركسي ولا التفسير العولمي قادر على غلق مسار التاريخ وايقاف قطاره في محطة نهائية واخيرة لا تاريخ بشري تطوري بعدها.هذا مناف لحيوية وديناميكية الوجود الانساني على الارض.
كما ان التاريخ لم يستقم سابقا ولن يستقيم لاحقا في صناعة ( المتنفذ الحاكم) للتاريخ وكتابته او البطل الخارق أو أية سلطة دينية او سياسية له ,وسوف لن يستقيم وتلجم تطوره الى ما لانهاية المصالح السياسية والايديولوجية ايضا كما حاولت سابقا وفشلت. لأن التاريخ تحكمه العشوائية والصدف الطاردة للغائيات والحتميات, كما ان التاريخ هو متمرد وعسير ايضا في حركة تطوره المتلاحقة من السيطرة عليه ومصادرته من قبل الحكام والملوك والمتطرفين والابطال الخارقين.او من قبل اصحاب النظريات المسبّقة على حركة التاريخ ومحاولة سحبه وراءهم,ربما كان امكان حدوث ذلك في عصر او فترة زمنية.لكنها تبقى مرحلة مقطوعة و كسيحة في التعميم فالنظريات لا تصنع تاريخا ولا تقدر سحبه تابعا وراءها.
ان التاريخ في مجمل اخفاقاته وتراجعاته وقطوعاته وتقدمه ,هو سلسلة من المصادفات العشوائية التي يتخللها ويعتريها التقدم الى أمام بأرادة انسانية وليس بقوى ذاتية غير منظورة,الى جانب القطوعات والتراجعات غير المنتظمة التي أعاقت مسار التاريخ.وبحسب سارتر (فان جميع الامور تحدث بالمصادفة التي هي الصفة الاساسية المميزة للوجود).

كما ان عشوائية التاريخ وتأثير المصادفات فيه جعلت من تطوره لا يحدّه انتظام المسار ولا تحكمه غائيات غير منظورة يسعى بلوغها.ووصول مرحلة تطورية مجاوزة لسابقتها بعد انضاج عاملي الذاتية والموضوعية اللذين مصدرهما الفعل الانساني المتحقق على الارض وليس ديناميكية ذاتية شغّالة غير منظورة ولا محسوسة تلهم التاريخ وتقوده الى مراتب التقدم الى امام.مثال ذلك الثورات الشعبية والتمردات والكفاح المسلح والحركات الاصلاحية في مختلف مشاربها وغيرها هي التي كانت تصنع مراحل تاريخية متقدمة وتبديل حال سيء الى افضل منه. وفي هذا يبرز الدورللارادة الانسانية الفاعل والجوهري في تقدم التاريخ الى امام .ومن هنا نجد الفروقات التاريخية بين شعب وآخر او أمة واخرى,وهذه الانجازات المتناثرة كجزرمعزولة ليس بمقدورها ومكنتها ان تحكم مسار التاريخ البشري بمجموعه بنوع من الغائيات المرحلية البعيدة المستقبلية.وصناعة تاريخ مرحلي في بلد او عدة بلدان لا يعني ذلك تخليص التاريخ البشري من مساره العشوائي والاعتباطي. وعشوائية المسار التاريخي وتأثير المصادفات ونتائجها غير المحسوبة التي لا وصاية ولادخل مباشر لارادة الانسان بها, فهي باقية ولا تنتهي,صحيح جدا ان الوجود الانساني سابق على التاريخ, وهذا الوجود وحده كفيل بأعطاء التاريخ معنى وهدف, لكن في المحصلة الانسان وحده يعمل على تصحيح المسار العفوي الشاذ غير المنتظم للتاريخ, ولكنه لا ينهي بذلك تلك العشوائية في التاريخ التي تنتظمه تداخليا على الدوام. كما أنه لا معنى لتاريخ أوأي معطى انثروبولوجي أو معرفي أو وجودي من غير أسبقية فعالية الانسان عليه وتأثيره فيه و تعليل سبب وجوده وعلّة حصوله أيضا. وبهذا يقول ارتيجا (ان التاريخ يستوعب احداث الحياة الانسانية الماضية والحاضرة والمستقبلية, وما لا يتصل بالانسان ليس تاريخا, فالتاريخ هو الآنية في المحل الاول, يليها الطبيعة باعتبارها ميدان التاريخ).
علي محمد اليوسف/الموصل
