الرئيسية / منتخبات / تغطية /  اليوم العالمي للفلسفة: أين نحن؟!

 اليوم العالمي للفلسفة: أين نحن؟!

سامي عبد العال – مصر

لا يجسد العنوان احتفاءَ العالم بإبداع مهم فقط، لكنه يترك تساؤلاً إزاء الموقف الضمني منه: أين نحن العرب تجاه ما يجري على صعيد التفلسف؟ هل من مواقف جديدة نخترعها لحياتنا البشرية النوعية؟ كيف نستطيع استشكال فكرنا بإيقاع فلسفي يصلح لمعايشة آخرية قصوى ومفتوحة؟ وسؤال الصلاحية من صلب التفلسف حين يمس الوجود الثقافي والحيوي لأمة من الأمم.

ولئن كان ثمة اهتمام لدى الإنسان العالمي بالفلسفة ( آفاقه الكونية )، فهي كذلك بمقدار الاسهام فيها لا مجرد التلهي بإنتاج الآخرين كبضائع رمزية عابرة للقارات. ولاسيما أن الحياة لا تمانع من الانهماك في إنسانية تتجاوز كل حدود ممكنة. والفلسفة لا تبرح تلح على الإدلاء بإبداع العقل لتحرير الإنسان.

لقد درج العرب على جلب الأفكار من هنا وهناك… شرقاً وغرباً وهذا شيء محمود. ولكن نتيجة الجمود تحولت المجتمعات العربية إلى اسواق لمعلبات العقل الغربي، فضلاً عن محاصرة أساليب التفكير الحر ومناهجه. فأضحت الاتجاهات والمذاهب الفلسفية ماركات عالمية تزخرف رؤوس العرب والمسلمين ليس أكثر. مثلها مثل الروائح والعطور الأوروبية والأساليب الخاصة بالمودات وشعارات العولمية وأسواق البضائع والتحف التي تغيب فيها خصوصية ما.

وجه الطرافة أنَّ الوضع الفلسفي العربي أمسى كالطربوش الشرقي والعمامة المصرية واللفافة السودانية والعقال الخليجي والشنَّة المغربية. أضحى غطاء الرأس علامة الخُيلاء والزهو الفارغين من السعي نحو الأصالة التي تخص الإنسانية فينا. كيف لهامات بأوصاف سيميائية أنْ ترتفع دون قوام فكريٍّ حقيقي؟ وهل الفكر الحقيقي بصمة خارجية دون مس الأعماق الممتدة لدى غيرنا؟ مع العلم أننا لا نخاطب الآخر عندما ننسلخ بالكلية من جلدنا بل الآخر قابع في أدق التفاصيل، وكلما أغرقنا فيها كانت إمكانية الكشف عما هو كوني أقرب من أي شيء سواه.

صحيح أنَّ مواكبة الحضارة أمر ضروري بل يستحيل تركه إطلاقاً. لأنَّ ما هو كوني بمعناه الثقافي المتنوع علينا أن نجددَّه داخلنا يومياً. وينبغي أن نبتكر استقباله ضمن التفاصيل اكتشافاً وضيافةً وابداعاً. بيد أننا – في الوقت عينه – جئنا به كما هو. وقد حفظناه  كـ” السوائم تحمل أسفاراً “. وطبعاً تفهم الذهنية العربية الاسلامية قولاً كهذا جاء في القرآن لوصف مواقف السخرية!!

الفلسفة أكثر مجالات الفكر كشفاً لطبيعة الشعوب وتحولاتها. لأنَّ بُومة الحكمة، بومة منيرفيا، لا تنعق – كما يقول هيجل – إلاَّ وقت الغسق. الصوت الذي يمثل نذيراً لما هو قادم في حياة المجتمعات الإنسانية. بذات المعنى تواصل النعيق إذا تتبعنا خريطة التفكير العربي. حيث انتشرت الأصوليات العنيفة باسم الدين. وتجذر التخلف كمرض عضال لا نبرأ منه. وخيم ركود الرؤى فلا تتطلع نحو المستقبل. وانغلقت العقول تحت حمأة الصراع المذهبي والطائفي. وحل الربيع العربي بكل قتلاه وضحاياه.

أليس الاحتفاء العالمي شيئاً مهماً إزاء ما هو إنساني؟ التفلسف قضية حيوية بل أكثر أساسية من أشياء أخرى. إنّها تصقل قدرة الإنسان على مراقبة المصير ومزاحمة الفناء نحو مزيد من المعرفة. لقد اعتبر أفلاطون الفلسفة مرانا على الموت. فكيف بشعوب يمرح بينها القتل العنيف بكل الأسماء جيئة وذهاباً دونما أن يستوقفه أحد أو يتأمله؟! الفلسفة علامة بارزة على صحة العقول حين تساءل وجودها.

لو كانت الفلسفة حاضرة بقوة في الحياة العربية ما كان للإسلاميين لينشروا ترهات الوعود الذهبية بالحكم المقدس واستعادة العصور المثالية لماضي العرب والمسلمين. لأنه لا يوجد عصر أيا كان يسمى بذلك الزمن الذهبي غير القابل للمقايسة. ويصعب تحديد هذا العصر أو ذلك بصراعاته وتناقضاته على هذا الغرار. ولكانت الفلسفة قد أسست وعياً نقدياً يختبر المواقف ويؤصل لعقلانية منفتحة.

حقاً العقل الصحيح يستطيع التفكير بحريةٍ، بينما ستعتل صحة الأجساد إذا كان العقل مريضاً. لقد كان شعب اليونان مخترعاً لصنف نادر من الرياضة اسمها ” الألعاب الأولمبية”. ليس ذلك ضرب عشواء من النشاط الحياتي. لأنه اليونان الذي أحب الحكمة هو اليونان نفسه الذي أسس فلسفات للعالم والإنسان والتاريخ. أي أن اليونان صاحب الفيلوسوفيا philosophia هو نفسه صاحب حب الحياة وبناء الاجسادbody building . وكل فلسفة تنقل – إلى درجة الوضوح – قوة الأبنية الجسمية والعقلية الهادرة لشعبٍ ما. أما الهُزال الفكري، فلن يكون إلاَّ جيناً وراثياً لمزيد من الانهيار تحمله أجيال أخرى من البشر.

الدليل أنَّ اليونانيين اعتبروا غرباء المدينة- كأثينا مثلاً- برابرةً. أي أنهم كانوا متطفلين على النقاء الروحي والفكري للشعب الأثيني. وكذلك رأى هيدجر أن ثمة علاقة روحية خالصة بين اللغة الألمانية واللغة اليونانية القديمة. على أساس التعبيرات الماهوية عن الوجود من جهة، وعلى أساس أن الشعر وهو التقنية الفلسفية الأولى بتجلياته في الثقافتين الإغريقية والجرمانية من جهة تالية.

نفس المسألة طرحها هيجل تحت مسمى روح الشعب. فالشعوب لها روح مميز بقدر مشاركتها في المجرى الفكري للتفلسف. وهي إذ ذاك تجسد طابعاً خاصاً يترك العالم فيه أصداءه. أي داخل إنتاج الحياة وابداع مفرداتها. كما يتجلى خلال الفنون الشعبية والأساطير والأشعار والحكايات الأدبية واتجاهات التفكير. ورأى هيجل في الشعوب الشرقية عجزاً عن الانتاج الروحي مكتفين بالحركة والحماس الحسي.

من جهة أخرى لم يقصد أفلاطون أنَّ الفلسفة تسبب موتاً من وراء عبارته( الفلسفة مران على الموت)، ولكنه ربما يقصد عدة أشياء.

أولاً: أنَّ الفلسفة تستكشف المصير الإنساني بالتفكير الكلي النافذ إلى جوانب الحياة.

ثانياً: تعطي العقل مرونة لتصور النهايات القصوى للعالم. فالتفكير يتوقف حال إدراك اقتراب الختام من لحظة الانغلاق. وبالتالي التفلسف تحذير دائم حتى لا يتم الوصول إلى ذلك.

ثالثاً: الموت قوة خفيه تحتاج إلى جلّد ومران قوى على اللاشيء. وكما يؤكد هيدجر فإنَّ العدم nothingness ليس شيئاً مادياً. لكنه الإحساس المرعب بفقدان الوجود وضياع الامتلاء إذ يعانيه الانسان. والمجتمعات العربية الاسلامية يتهددها هذا العدم. على الأقل هذا العدم الحضاري الذي يترصدها كفوهة بركان. وأنَّ الإرهاب الديني محض ظاهرة في الصراعات الايديولوجية وفي بالنكوص الفكري.

ثالثاً: أنَّ الابداع الفلسفي يوازي فكرة الخلود، لأنَّه يشكل صناعة الإنسان لعالمه الموازي لعالم الآلهة. بل هو ابداع لعالم مختلف يؤنسن الأساطير والوجود. وهو نوع من التوحد بالفيزيس physis. وهي كلمة يونانية تعني القوة النامية في الأشياء والكائنات. فمن يتفلسف يعشق شيئاً طبيعياً توحداً بالإمكانية القصوى للوجود. وبالتالي إذا جاءه الموت سيكون قد فارق إمكانية النيل منه، لأنه وضع نفسه في طريق اللانهاية العصية على الإفناء.

رابعاً: أنَّ التفلسف يعني العيش في النور. وإذا كان الظلام( هذا الكهف الأفلاطوني) يحل كالموت، فالفلسفة بمثابة انكشاف وتجلي خارج نطاقه. أي تمثل الحقيقة أمراً يدعو للوضوح واللاتحجب بعبارة هيدجر.

خامساً: التفلسف عملية ولادة متجددة باستمرار. كما كانت النباتات تنمو وتستزرع وتكرر دوراتها في شكل العود الأبدي بمفهوم نيتشه. والموت بهذا المعنى لا يستطيع التغلب على الفيلسوف لكونه كلما يموت سيظهر بدورة أخرى من الحياة كحال الطبيعة في الثقافة الشرفية القديمة.

سادساً: التفلسف يؤجل الموت والفناء. هذا التأجيل لا يخال الموت يوماً مغالبته أو طرحه أرضاً. لأن الموت سيهزم  الشيء غير المؤجل، المنتهي بعوامل ذاتية. وحالما يفعل ذلك لن يجد موضوعاً في التفلسف، لأنَّ الأخير أفق طويل بلا نهاية محددةٍ. التفلسف اتساع بلا سقف وعليه فهو كعمل فكري خارج التوقعات.

سابعاً: التفلسف فعل مقاومة شرسة لكل قوى الشر. إنه يقاوم عوامل الانسحاق والانهزام أمام جحافل الخرافة وصورها الإنسانية.

ثامناً: الفلسفة ترسم أملاً إنسانياً في عالم أفضل بتعبير كارل بوبر. عالم أفلاطوني مغاير لحياة الزيف والصور الفانية. وبالتالي ستساعد الفلسفة على اجتياز محن الحياة، ستُهوّن مصيراً مؤلماً ولو حدث.

تاسعاً: أنَّ الفلسفة تخفف الآلام الإنسانية وتهدهد وجوداً قلقاً. باعتبار الآلام جزءاً من الوجود الإنساني المشترك. فإذا عرف أحدُّنا أن الجميع سيموت ربما سيواكب نفس الشيء نفسياً ويستطيع تجاوزه.

إنَّ اليوم العالمي للفلسفة يرتبط بالتزامن المفترض بين بني البشر. كمحاولة التقاء على رصيد تاريخي من تأسيس لمعاني الإنسان. أي فعل فلسفي حقيقي يضيف إلى هذا الرصيد شيئاً ذا قيمة.  دوما هناك تساؤل: ما مضمون أن نتزامن في إنسانيتنا؟ إنه تأشير للعقول على عقارب الساعة الكونية رغم الاختلاف والثراء اللذين يميزان حياتنا. التفلسف يعبر عن تلك المفارقة التي تحدد بوصلة التوحد نحو أهداف كلية في وجود التنوع كل التنوع إلى حد الادهاش.

لعل اليوم المشار إليه بالعنوان مقصود لتحديد ماذا سنقدم نحن لبعضنا البعص في حياتنا المشتركة. وكيف أسهمت الفلسفة في فكرة الإنسانية التي قال عنها كانط إنَّها كالنجوم في كبد السماء… شيئان يبعثان على الرهبة: القانون الأخلاقي داخل صدري والسماء المرصعة بالنجوم فوقي.

والكلام رغم تكراره إلاَّ أنَّ إشارته لا تخطؤها العين من حيث كون الإنسان- في وجوده المشترك- غدا قانوناً كونياً يواكب حركة الأفلاك في إدهاشها وسموها. وبقدر ما يشعر الإنسان بوجوده الممتد كونياً يرى نفسه إنساناً حقيقياً. الفلسفة تستطرق تلك الوضعية على نحو أفقي داخل البشر جميعاً بلا انقطاع. إنها التفكير المغاير وصولاً إلى الفضاءات النائية والمجهولة من العقل، من الوعي، من الحقائق، من التاريخ.

من ثمَّ جاء ارتباط الزمن بالعالم في الاحتفاء بالفلسفة. فالاحتفاء استعادة زمن العالم حينما يكون معروضاً للجميع. وهذا العرض عرض راهن بشكل دائم. أي هل يعيش الإنسان في أي مكان زمنه الكلي أم لا؟ ذلك لأننا نرى قطعان البشر الداعشي يعيشون أزمنة أخرى. ويجترون نصوصاً دموية غير نصوص الفلاسفة المعاصرين الأكثر انفتاحاً على كافة الحيوات المهمشة.

العالم بصيغة الجمع مقصودٌ هكذا ليس أكثر. لأنه ليس فكرة خارج الإنسان، العالم حاضر عبر وجوده اليومي. كما أنه ليس ترفاً بالنسبة لمن يتفلسف. ولا هو كذلك لمن يحيا داخل أية ثقافة ولو كانت محلية. العالم بحضوره الثقافي الثري يقتحم حياتنا في كل لحظة. لا مفر منه وبخاصة مع وسائل الاتصال والعالم الافتراضي والصور المذهلة لنتاجاته. المسألة باستمرار: كيف نحتفي بالفلسفة ابداعياً؟!

من أرشيف الدكتور سامي عبد العال:

شيطَّانُ الديمقراطيةِ: هذه هي السياسة !!

سامي عبد العال –  كلية الآداب / جامعة الزقازيق- مصر يبدو أنَّ للديمقراطية وجهاً آخر كوجه الشبح، وهو” الأثر المقلُوب ” الذي يجعلها مصدراً لرعب البعض من الحرية. فالحرية ضمن المجال العام تشكل مصدراً لقلق دائم، لدرجة أنَّ تجنُبها( إنْ لم يكن للأنا فللآخر) هو القاسم المشترك بين التيارات السياسية في …

أكمل القراءة »

حول استعادة  ” الله ” من الجماعات الإرهابية

سامي عبد العال ربما لم تُوجد كلمةٌ أُرْيقت بدلالتها الدماءُ مثلما أُريقت تحت كلمة الله. ففي كلِّ مرةٍ يقتل إرهابيٌ شخصاً آخرَ، لا يكون مقصودُها واحداً بين الاثنين. على الأقل يزعم الإرهابيُ كون القتيل قد تخطى رقعة الإيمان( المرتّد ) أو لم يؤمن ابتداءً( الكافر). كما أنَّ دلالة الكلمة بمُراد …

أكمل القراءة »

أين تكْمُن قوةُ المجالِ العامِ ؟

سامي عبد العال  كلية الآداب / جامعة الزقازيق- مصر هناك فارق حَذِر بين القوة والسلطة رغم إحلال الكلمتين أحياناً في اللفظ نفسه: power . إذ تنطوي القوة على أبعاد ماديةٍ وأخرى رمزية تمنحُ وجودَّها معنى بعيداً. وهي أيضاً القدرةُ على بث فاعليتها الخفية عبر نفوذها المقبول داخل المجتمعات مثل القوة …

أكمل القراءة »

الأصُوليَّة… والوصُوليَّة: حين يُغْيَّب المجال العام  

سامي عبد العال  كلية الآداب / جامعة الزقازيق- مصر في المجتمعات الأقل ديمقراطيةً وإزاء فشل” الاستعمال العمومي للعقل ” لو أوردنا كلمات كانط، ثمة أسئلةٌ مزعجةٌ: هل يُغيَّب المجال العام على غرار وصفنا الاعتيادي لأي شيء آخر؟! أليس المجالُ العام  Public sphereعمليةً تاريخيةً تستوعب طاقات المجتمع وبالتالي يبقى فضاءً مفتوحاً …

أكمل القراءة »

المُقدَّس والسياسة: عن أحداث 11 سبتمبر

سامي عبد العال  كلية الآداب / جامعة الزقازيق- مصر مع كل إشارة إلى الذكرى السنوية للأحداث الإرهابية( تفجيرات 11 سبتمبر2001 )، لا تذهب آثارُها طيَّ النسيان. لكنها تظل باقية كأصداء ورواسب تسهم – فكرياً وثقافياً – في تأويل الأفعال والتداعيات السياسية على نطاق عام[1]. وربما تحددُ المواقف ودرجات الفعل ورد …

أكمل القراءة »

 صيدُ الفراشات: دولةُ الخلافةِ والنِّساء

سامي عبد العال  كلية الآداب / جامعة الزقازيق- مصر هناك سمةٌ مشتركةٌ في خطابات الإسلاميين المتطرفين: كونَّها كلاماً ينحدر بأهدافها من أعلى إلى أسفل حيث ضجيج التفاصيل، وحيث إيراد المبررات الواهية فيما ينحدر إليه تداول الخطاب من أهدافٍ. ذلك بسرعة خاطفةٍ تُجاري سرعةَ الضوء بلا إنذار، كما أن تعقد الواقعٍ …

أكمل القراءة »

الاغتراب في الوجودية  الجزء 2

  علي محمد اليوسف الفهم الفلسفي الاغترابي لدى فيورباخ وماركس: يفهم (فويرباخ) الذي سبقت مفاهيمه الفلسفية الوجودية غيره من فلاسفة الوجودية لفترة زمنية طويلة قوله: (الاغتراب طارئ على الصحيح وليس ناشئا منذ البداية والعودة الى الحقيقي هو عود الى طبائع الامور والاشياء ، الصحيح هو الاساس والاغتراب هو العرض واذا …

أكمل القراءة »

 

شاهد أيضاً

أربعةُ جُسورٍ مُعَلَّقة

كَتبتها: رجاء بكريّة رقصة ُفلامِنكو بِدِفءِ جسورِ بابلَ المُعلَّقة مساء اليوم الأوّل من سنة انتظرتها …