علي محمد اليوسف
تصدى (ديكارت) بمنهجه في اعلاء شان العقل بحسم ان تكون للجنون او أي من مظاهر الاختلال العقلي والعصاب النفسي قدرة ابداعية وقد أكد هذه الافتراضية ميشيل فوكو من بعد ديكارت قائلاً: (الجنون هو التدمير الكامل المطلق للعمل الفني).
يناقش ديكارت فيقول : (ان القاء الشك على ما هو بديهي تماما انما يعد ضربا من الجنون.. اذ كيف لي ان اشك اني اجلس هنا الى جوار المدفئة وارتدي حلة نومي وامسك الصحيفة بين يدي ، كما امسك بأشياء اخرى غيرها!؟)([1]).
وكيف لي ان انكر بان هاتين اليدين يداي وان هذا البدن بدني اللهم الا اذا قارنت نفسي بأولئك المجانين الذين اصابت الكآبة الصفراوية القاتمة أدمغتهم بالاضطراب والغشاوة حتى وصل الامر بهم الى ان يذهبوا هنا وهناك قائلين انهم ملوكاً بينما هم عراة تماماً او يتخيلون انهم اباريق او ذو ابدان زجاجية ..انهم على اية حال مجانين وقد لا اكون اقل منهم جنونا لو سرت على نهجهم([2]) ويمضي قائلا : (اني انا الذي افكر فلا يمكن ان اكون مجنوناً)([3]) ، واقصى ديكارت عن الذات التي تشك كل من لا يفكر وكل من ليس موجودا ووجود الفلسفة لديه وجود يتحقق في (اللاجنون) في حين يهبط الجنون الى درك اللاوجود([4]).
ان امثلة عديدة جدا من فلاسفة وادباء وفنانين بقوا اغترابيين منعزلين لكنهم لم ينقطعوا عن عطائهم الفلسفي والفكري والفني ونقل رؤاهم وتجاربهم في اغناء الفكر الوجودي الانساني والنفاذ الى اعماق النفس البشرية واكتشفوا مجاهلها واناروا الطريق امام اجيال رغم كل ممارساتهم الانعزالية التي هي سمتهم الاغترابية الايجابية كما تشير على سبيل المثال سيرة حياة (ديكارت) اذ بقي يتنقل ويسافر متنكرا، محتجبا عن اقرب المقربين اليه… بينما عطّل الجنون (نيتشه) لاكثر من ثلاثة عشر عاماً قضاها مجنونا ثم مريضا وكان في جنونه معطّلا عن أي عطاء فلسفي او ابداع…
فالعزلة النفسية لدى المبدع حتى وان كانت في ثناياها عصابا نفسيا او انفصاما بالشخصية وليس جنونا مطبقا ، فهي تبقى عنده اغتراب عدم ضياعه في متاهة الذات المغيّبة عن الواقع والمحيط بلا رجعة مثلما هي لدى المجنون والعزلة النفسية المرضية ، أي مبعث اغترابية المثقف المبدع رحلة طويلة شاقة وصراع واحتدام مع الذات والموضوع ليست مغيبّة ولا مقطوعة الجذور والعلائق والروابط بالواقع الحي الديناميكي للآخرين… والاغترابي المنعزل نفسيا بأمكانه العودة والرجوع للتفاعل مع المحيط متى رغب واراد وبوعي وادراك سليمين ورحلة الفنان الاغترابي المبدع تشبه الغوّاص الذي يبحث فقط عن الاصداف التي في داخلها لآلئ… ورحلة الاغترابي تأمل الذات والمحيط بعمق قد يطول, انها ليست رحلة استجمام او رحلة ضياع في تعامله مع الحياة لا يعرف منتهاها او يجهل الغايات من رحلته ، فهو يستطيع في كل وقت العودة الى شاطئ الانطلاق الواقعي ثانية لانه يعي ذاته واغترابه اولا ويعي اغترابه عن موضوعه ثانيا…
الغربة النفسية الغير سلبية التي هي من اختصاص رجل الابداع المثقف في تعامله مع الحياة بكل ظواهرها تقوم على مبدأ المؤرخ المشهور الفيلسوف (توينبي) في تفسيره حركة التاريخ ونشوء الحضارات واندثارها انه مبدأ (التحدي والاستجابة) تحدي المحيط المستفز لفرد او مجموعة من الافراد يمثلون الصفوة او النخبة.. التي تأخذ على عاتقها مهمة الاستجابة والرد تجاه التحدي واستفزاز المحيط برؤى جديدة تتجاوز بواعث ومسببات هذا الاستفزاز.. ويذهب توينبي انه كلما كانت تحديات المحيط اكثر قسوة وشدة ووطأة يكون رد فعل الابداع الحضاري بالضد منها موازيا لها او اكثر بالشدة والاصرار والعزم… وكلما ضعفت في المحيط عوامل الاستفزاز والتحدّي .. ضعفت امامها طرديا عوامل استجابة التغيير والتبديل…
ومن خصائص الابداع القدرة على تحويل ما هو سلبيي في المحيط ومظاهر الحياة الى قيم ايجابية جمالية تحل محل مظاهر الخلل السلبية والقصور والنقص في الكثير من جوانب الحياة ، يمكنه من ذلك – المثقف المبدع- قدرته العالية على امتلاك الحساسية المعقدة الخاصة جدا والاستعداد الموهبي في تحويل ما هو سلبي الى ايجابي … وبهذا لن تكون العزلة النفسية للمبدع ، اغترابا سلبيا ، مغّيبا عن تأثيره في المحيط. يساهم في تخريب (مصنع الحيوية البشرية) كما يعبر غوردييف اذ يعتبر انفعالات الانسان السلبية المستمرة والخوف الدائم والاشمئزاز والغضب والتمزق كلها من مظاهر تخريب مصنع الحيوية البشرية . ويعبر سارتر عن نفس الفكرة : ان الوجود بذاته – أي الموضوع الذي لا وعي له ولا حركة ، والوجود لذاته – أي الانسان في وعيه وضميره هما شكلا الوجود الانساني والانسان بلا موضوع لا يكون شيئا.
لابد من تفريق سريع هنا بين مفهوم الزمن في الاغتراب ومفهوم الزمن سايكولوجيا (نفسانيا) فالزمن لدى الاغترابي الثقافي المبدع هو الزمن الوجودي الانساني الخلاق الذي اشار له (بريجسون) انه ما يعيشه الانسان بحيث لا يفترق عن الوجود الانساني كالدم الذي لا ينفصل عن القلب والجسم. وهو مفهوم او تعريف مغاير تماما لمفهوم الزمن سايكولوجيا اذ يصبح الزمن فيه موضوعا منفصلا عن الانسان يتأمله ولا يعيشه يحصي الساعات والايام فينطوي على نفسه يتأمل بقدرة عزلاء وارادة مقعدة([5]) ، وهنا يترتب عليه حتى بدون ارادة مسبقة شكلا من اشكال الاغتراب السلبي في التعامل مع الوجود الانساني فاغتراب العزلة النفسية الذي يعتبر الزمن موضوعا للتأمل لن يكون شخصا ابداعيا لسبب بسيط كونه لا يعي اغترابه الوجودي في الزمن ولا يعاين وجوده في الزمن الذي تحكمه ثلاثة ابعاد هي الحرية والفكر والارادة . لذا نجد ان العزلة النفسية لدى عموم او معظم الناس لا هي اغترابا ايجابيا منتجا يضيف جديدا للحياة ولا هي حالة طبيعية سوية بمعنى التكيف والانسجام والتسليم والتوافق مع المجتمع بما يديم حياته وحياة مجتمعه بحياة افضل أي انها تعيش الزمن خارج الزمن الوجودي الحقيقي . وهنا اود التذكير انني في مدخل دراستي للاغتراب كنت قد اشرت الى عبارات غير دقيقة المعنى ولا حقيقة المحتوى من مثل (طبيعي مع المجتمع) و(تكيّف في المحيط) و(منسجم مع الكلية) و(متناسق مع البنية الاجتماعية) فهذه كلها عبارات لفظية لا صحة واقعية لها في التطبيق والممارسة وهي زائفة وتشير الى معان خاوية فالشخص الطبيعي المتكيف المنسجم المتوافق كلها توصيفات لانماط من التشريعات التي تنص عليها خطابات علم الاجتماع وتمثّل قوانين بيروقراطية فوقية تسمح بتبرير سوق القطيع العام المنسجم المتكيف بالوجهة التي تريدها المؤسسة او الدولة المشرّعة كي تبقي على مصالح وامتيازات الطبقة الحاكمة ولفئة او شريحة معينة من المجتمع . واعتقد انني اوضحت ان سبب ذلك هو عدم وجود مجتمع طبيعي نموذجي سوي يطمئن للفرد مستقبله ومستقبل اجياله ويسعد حاضره من خلال ما اطلق عليه رواد العقد الاجتماعي ومن بعدهم هيجل (التسليم) و(الاذعان للمؤسسة والدولة) كي يقوم النظام ويحصل الفرد على حقوقه اذ بقيام النظام تكفل الدولة حقوق الفرد والمجتمع ولا اعني اكون بالاستنتاج والضرورة ادعو الى فوضوية غوغائية لا تقبل تنسيق علاقة الفرد بالدولة وتكون ارادة الفرد وحريته فوق الجميع لا ارادة المجتمع وحريته فوق الافراد انما ادعو الى خلق موازنة بين تسليم الفرد للدولة وتمثيل الدولة وفهمها لمعنى هذا التنازل من جانب الفرد وان الدولة وجود معنوي تقوم مؤسساته المادية بارادة مجموع الافراد . وللافراد منفردين او مجتمعين الحق في مناهضة الدولة باساليب (النظام) وبحصانتهم للحرية التي يملكونها المسؤولة التي ينظمها القانون التي هي في كل الاحوال فوق وصاية الدولة عليها او انتزاعها كحق من حقوق المجتمع والدولة ومثال مقدس لا بديل عنه في العصر الراهن لكنها تبقى مثاليتها ناقصة وكمالها نسبي وهذا وحده كفيل بحق الفرد في تعديل انحرافات الدولة.
ثم باي مقياس معياري يمكن ان نحتكم فيه بان الانسان (س) انسان طبيعي وسوي لأنه متكيّف!! والاهم متكيّف وطبيعي بالنسبة لمن!؟ طبيعي وسوي كيف!؟ في التكيف القدري بان من بديهيات الحياة التفاوت الطبقي والتمايز المالي والاجتماعي وفي الغاء الاهلية الحقيقية والكفاءة التي ترجّح الفروق بين مستويات الافراد!! هل نقول (ص) انسان سوي طبيعي لانه منغمس في تفاهة الحياة اليومية والاستمتاع بالسعادة المادية في حرمان الاخرين منها!؟.
في علم النفس (طبيعي) و(سوي) تعابير غير دقيقة والفاظ لا معنى معياري حقيقي لها وخير مثال على ذلك ان معظم علماء النفس واختصاصيي الطب العقلي والنفسي هم غير اسوياء بالقياس الى نفس المعايير التي يحكمون فيها على الآخرين انهم غير اسوياء . الخطأ في اعتبار التكّيف الانموذجي الطبيعي مع الحياة هو في السير المتوازي – الافقي المهادن لظواهر الفساد والاستبداد والانحراف والاستلاب والظلم … الخ فهو اذن ليس حالة سوية وهذه تمّثلها الكثرة الطاغية في اغلب المجتمعات . وهو على حد تعبير (هيدجر) نماذج نسيان الوجود الأصيل, الوجود الحقيقي وهم لدى بارسونز (الناس العاديون هم نماذج للادوار فقط) وغياب او استلاب المجتمع او المؤسسة او الدولة حريتهم منهم وارادتهم واختيارهم وتدجينهم تنطبق عليهم مقولة (هيدجر) ايضا الانحطاطية في الوجود . لذا فالاغترابي انسان لا متكيف سوي وطبيعي في معيارية تطابقه مع الجوهر المثالي لذاته ولقيم مجتمعه كما هي وليس وفق أي معيار آخر يضعه له غيره لا يرضي نوازعه الانسانية الحقة.
لابد من الاشارة للعزلة النفسية التي يمارسها متعاطي المخدرات حسب دعوة (الدوس هكسلي) اذ تمنح متعاطيها حسب رأيه رؤيا نافذة وتطلق من كيانه طاقة وقدرة غير عادية في تخصيب خياله واسعاده في شعور غير اعتيادي في تعامله مع العالم بما يزيد تجربة الابداع الفني والثقافي لديه عمقا لا مألوفا واثراءا لحساسيته الجمالية والفنية في رؤيته للعالم . وهذه تذكرنا بتعاطي (كولن ولسون) للمخدرات جاعلا من نفسه جسدا وعقلا وشعورا حقل اختبار نقل لنا فشلها في احد كتبه ونظريته في الرابوت (Rabout) الذي اعتمدها في كتابه (الشعر والصوفية) والتي تعوّض الانسان عن استخدام المخدرات للوصول الى نفس النتيجة وهي على حد فهمي تمثل اخصاب المخيلة البشرية عند الانسان بالقدرة الارادية المتحكمة في اللاشعور او الشعور الباطني اللاواعي للانسان وتحفيز اتساع (رادار) الرؤيا والنفاذ الى جوهر الاشياء وفق الحاجة المطلوبة في الوصول بالرؤيا الصوفية الروحانية المتسامية التي تعوض صاحبها اللجوء الى استخدام العقار المخدر. متعاطي المخدرات المبدع الكاتب او الفنان او الانسان العادي على السواء, انما يظل تحت سطوة المخدر وسلطته في جعل ذاته هو العالم باكمله والحياة بواقعيتها وخيالها انما بؤرتها المركزية هو (ذات) متعاطي المخدر فيبقى يعيش لفترة مؤقتة فترة مفعول العقار في عزلة نفسية سلبية منكفئة مكتفية بذاتها هروبية من تفاهة الحياة اليومية ورتابتها او تعاستها وشقائها. فاغتراب من هذا النوع اغتراب مرضي و زائف موهوم بطاقة غير عادية يستلهمها من مصدرها (المخدر) فهو اذن اغتراب مصنوع كاذب يغذيه وهم النفاذ والاستبطان والكشف والرؤيا التي تحقق لصاحبها قدرة حقيقية على تأمل الذات بعمق.
واغتراب من هذا النوع تنتفي عنه الصفات الايجابية والابداع الفني والثقافي, لان الحواجز السلبية تحيط به وتحده وتنضح منه من كل الجوانب المميزات التالية:
- فهو اغتراب زائف اولا لانه ناشئ عن حافز مصطنع مبعثه (المخدر). وليس الواقع او الشعور الحّسي في وعي الذات والمحيط, اللذان هما وحدهما يبعثان في الانسان شعورا اغترابيا صائبا في علاقة الذات بالموضوع والطبيعة وبقية الظواهر الاخرى . والاغتراب غائية ينفّذها المخدر ويعدمها معا كون الذاهب في رحلته المخدّرة لن يعود بحصيلة تضيف للحياة شيئا او للمفاهيم والتصورات بعدا, فأين مبدأ التحدي والاستجابة الذي يمثل الف باء أي شكل اغترابي سليم.؟ وفي رحلة متعاطي المخدر في الذهاب فقط لا وجود للموضوع ولا وجود لرد فعل الاستجابة فتصبح العزلة النفسية تحت تأثير المخدر عزلة سلبية صرفة ان لم تكن مرضية.
- اغتراب المخدر بالعقار زائف لانه مغيّب عن الواقع الحقيقي ولا يسمح لصاحبه الاسهام في مصنع الحيوية البشرية, ولا يعي ذاته ولا مسؤوليته الاجتماعية.
- اغتراب المخدر زائف مغيّب عن الواقع الحقيقي يفقد صاحبه القدرة او الرغبة في نقل تجربته مهما حاول استجماع ارادته وركزّها وكرسّها لتلك المهمة ومن يطلع على تجربة كولن ولسون مع المخدر يتأكد له ذلك فالشخص المخدر حتى وان كان مبدعاً مرموقا فهو اثناء ممارسته التخدير يقع نتيجة مفعول المخدر فريسة تجربة تشظية خيالية وتشتت فكري سيتداخل فيه اللاشعور بالشعور والمحسوس. ولا يتفق ولا يتوائم مع استجماع صاحب تجربة المخدر في امكانية نقله كتجربة كشف ابداعي ووصف لعوالم لا مرئية. واذا افترضنا ان نقل تجربة الفرد المبدع المتعاطي للمخدر يستطيع نقل هذاءاته وتصوراته السريالية الغامضة المتداخلة المعقدة على آلة طابعة او ورق طباعة فستكون التجربة فاشلة حتما وغير كافية لان تكون ابداعا فنيا ولا ثقافيا . لان (تراخي) اللغة تستمد مقوماتها من تراخي المخيلة الوهمية العصّية اغلب الاحيان الى التجربة اللسانية- اللغوية الموحية ناهيك عن غياب الاتساق الجمالي وخلوها تماما من الابداع ، فاتقّاد اللغة ينبع من اتقّاد وحدّة المخيلة . وكلما استجمع متعاطي المخدر قدرته بغية الافادة من تخصيب مخيلته من تجربة تحت المخدر ابداعيا وفي تركيز سيطرته الارادية وتفعيل صمام ناظم الحرية التي يستشعرها وجموح الخيال الى مديات اوسع وتعيين روح الهدف ، فان التشظية والفوضى والعشوائية والدوار والضياع وعدم وضوح الرؤيا هي التي تبدي له جميع الاشياء والظواهر تحكمها وتتحكم بها، فتضيع على المبدع متعاطي المخدر هدفه الوحيد الذي يشير له (فرانك بارون): من ان هم المبدع عادة ما تسيطر عليه حاجة غلابة لاكتشاف النظام الكامل وتحقيقه سواء فيما يحكم منها الاشياء او ما يحكم منها اسلوب وجمالية ولمسات انسانيته على عمله الابداعي المتخلق عن تجربته وهو ما ليس باليد.
ولتأكيد اهمية النظام الكامن في كل الظواهر والاشياء حتى التي يقوم الانسان بصنعها وخلقها ابداعيا وجماليا يشير (جبسون) ايضاً الى اهمية عملية استقبال المبدع من معلومات وتخزينها ومعالجتها وتنظيمها بطريقة جديدة تتسم بالمرونة في العمل الابداعي والابداع هي محاولة تنظيم العالم الداخلي بعلاقته بالعالم الخارجي فاين هذا من الفوضى والعشوائية والتهويمات السائبة التي تسيطر وتحكم عالم المريض المخدّر والذهانية والسلس الفكري نتيجة تعاطي المخدر التي تتحكم جميعها في اعدام شعوره الوجداني النفسي وتغييب وعيه الادراكي للوجود.
وقد تكون دعوة هكسلي ضرورة تنظيم توزيع المخدرات للناس كمثل تنظيم حصولهم على المشروبات الروحية والسكائر يبدوا قد لاقت قبولا مثلما لاقت رفضاً ربما يكشف عنهما المستقبل. وهناك تحقيق ظريف لكولن ولسون اشار فيه ان هكسلي استخدم المخدرات تحت رغبة شحن خصوبة خياله الابداعي وهو في سن الستين بعد ان قطع شوطا طويلا في العطاء الادبي والفكري لم يكن تعاطيه المخدرات احدى حوافز ابداعاته التي تركها او الهامه الثقافي . ويقول (جاستون باشلر) : لاحظ (ادموند جالو) ملاحظة نقدية بخصوص (ادغار الان بو) واصفا افيونه افيون متخيّل. وهو متخيّل قبل الكتابة ومتخيّل بعدها ومتخيّل خلالها ولكنه ليس مكتوبا ابدا خلال التخيّل, ومن سيبين لنا الفرق بين الافيون المعاش وبين الافيون الذي يقتحمه الخيال!؟. ان خيال الانسان اقوى من كل السموم وان (ادغار الان بو) يعطي للخشخاش احدى خصائص تجربته الاكثر جاذبية([6]) .
يصف كولن ولسون الخيال بانه كلمة سيئة الحظ لاننا نربطها على الدوام بالاوهام الخيالية والكذب فيما اساس الخيال انه وسيلة لنفاذ البصيرة ويضيف بان ملكة الخيال ليست غايتها ان تسمح للناس ان يعيشوا في عالم الخيال بل ان تمكنهم من توجيه العقل نحو اوسع معنى ممكنا للحياة ([7]).
واخيرا يقارن الاستاذ الدكتور شاكر عبد الحميد بين الخيال الخصب وعناصر الابداع الفني من جهة وبين الخيال المريض العضوي الدائمي الذي سببه المرض العقلي والنفساني والخيال المستجلب نتيجة تعاطي المخدرات الذي يعطي ايضا الوظيفة الفسلجية السوية للدماغ في علاقته باللاشعور من جهة اخرى قائلا : (الخيال الذي هو عنصر الارتباط بين الابداع الفني والمرض النفسي وعنصر الاشتراك بينهما ان خيال المريض ومتعاطي المخدرات هو عادة ما يكون خيالهما سلبيا غير منظم وغير متحكم فيه غير منتج بينما خيال المبدع بعكس ذلك فهو ايجابي منظم قابل للتحكم فيه وتحويله الى اعمال ابداعية ، والخيال المريض لدى كليهما دون شك نقيض الخيال الابداعي وان اشتركا أي الخيال الابداعي والخيال المريض في بعض المظاهر مثل تلقائية الصور والتداعيات البعيدة والتهويمات الحرة ولكن هناك بالطبع الفروق الخاصة بالتنظيم والارادة والتحكم والانتاجية والقابلية على التطوير)([8]).
علي محمد اليوسف/الموصل
إحالات:
([1]) الجنون في الادب ،، د.رشا الصباح ،ص7.
([2]) نفس المصدر السابق ، ص7 ايضاً.
([3]) نفس المصدر السابق ، ص7 ايضاً
([4]) نفس المصدر السابق ، ص13.
([5]) لتفاصيل اكثر يراجع مفهوم الزمن – بريجسون- الصراع في الوجود – بولص سلامة ص 299.
([6]) الثقافة الاجنبية العراقية / انشائية حلم اليقظة تاليف جاستون باشلر/ ترجبة ابو يعرب المرزوقي ع2 1982 ص109.
([7]) الشعر والصوفية ، كولن ولسون ص98-124.
([8]) المرض العقلي والابداع الادبي مصدر سابق ص211 بتصرف.
من أرشف الكاتب:
اغتراب المثقف الذاتي والجنون الجزء 1
علي محمد اليوسف نعتقد ثمة تفريق تجاوزنا فهمه في تناولنا دراسة ظاهرة الاغتراب . فالاغتراب Alienation هو غير العزلة النفسية self-estrangement كما يحلو الخلط للبعض بين المضمونين والمصطلحين . وسواء اكانت العزلة سوية (صحية) غير مرضية او كانت عزلة نفسية بعوارض مرضية –مثل انفصام الشخصية، او الذهان العقلي ، او …
الاغتراب التصوفي والثقافي ج3
علي محمد اليوسف نعود مرة اخرى الى موضوعة الاغتراب الثقافي الابداعي وعلاقته بالاغتراب التصوفي . فالاغتراب الابداعي يمثله احيانا فرد او مجموعة افراد من الصفوة او النخبة المبدعة في المجتمع التي لا يكون اغترابها وعزلتها كمجموعة (طبقيا) لاختلاف عوامل وبواعث اغترابها كافراد ، وليس كما هو حاصل في اغتراب الطبقة …
الاغتراب التصوفي والثقافي الجزء 2
علي محمد اليوسف يصف كولن ولسون بأن الصوفية البوذية تصّوف تدميري للذات و الجسد ، فهي تضطهد الجسد وتشهر عليه حربا فتبغي الوجود خارج الوجود الانساني الاصيل, متحققا في الارادة و الحرية وهما اختياران فاعلان وليسا ساكنيين سلبيين وان البوذية –والكلام لولسون –تقود للشقاء والحمق والجبن ، وتعتبرها الحقائق الاساسية …
الاغتراب التصوفي والثقافي الجزء 1
علي محمد اليوسف يختلف اغتراب المبدع منتج عملية الخلق الابداعي كثيرا – ما عدا استثناءات قليلة – عن انواع تجارب الاغتراب التصوفي اللاديني والديني السلبي المتصف بالجوانية والانغلاق والاستغراق في الذاتية والامعان في تدمير الذات بغية الوصول الى حالة خاصة من التسامي الميتافيزيقي. والاغتراب في مثل حالة المتصوف (تستخدم لإيضاح …
غياب العقل في نقد الحقيقة / التفكيكية نموذجا
علي محمد اليوسف/الموصل انا افكر اذن انا موجود…………….ديكارت انا افكر حيث لا اوجد, واوجد حيث لا افكر………….جاك لاكان انا افكر في شيء ما اذن انا موجود………………هوسرل سبق لي ان كتبت مقالة ناقشت بها مفهوم هوسرل لكيجيتو ديكارت(انا افكر اذن انا موجود) نشرتها لي صحيفة المثقف الغراء بعنوان ( هوسرل / …
تسليع الانسان والحياة….نحو كونية راديكالية
علي محمد اليوسف/الموصل كلما تقدمت البشرية في عمرها الزمني, كلما بدا عرّي الانسانية اكثر ايلاما في تصّحر الضمير الجمعي وجدب الحياة وخواء الوجود. فائض الوجود الانساني ,يدور في حلقة مفرغة من أجترارعصورصراع الايديولوجيات والسرديات الكبرى العقيم غير المجدي الذي سار بخطى محتومة نحوانحلال البنى المعرفية والفلسفية والفنية التي رافقتها, و …
” الخيال واللغة والتصوف “
علي محمد اليوسف الوعي ذات ادراكية انفعالية ناقدة في فهم الواقع وتحليل ظواهره ومعطياته وعلاقة الانسان بالطبيعة كمعطى اولي متداخل بالوجود الانساني (الذكي )على الارض. أن خاصية الانسان البدائية البدئية في صناعته التاريخ وسيرورة تقدمه الحضاري بدءا من عصر الصيد والالتقاط تم بالمفارقة عن حياة الحيوان بحيازة الانسان الذكاء وفي …
التثاقف والعولمة و ما بعد الحداثة
علي محمد اليوسف بدءا نسوق شهادات فلسفية متنوعة على مسألة الميتايزيقيا او ما وراء الطبيعة وما تحمله من محمولات خلافية إشكالية في زوايا الرصد والمعاينة فهيجل يصفها: إن نحن أمعنا النظر في الميتافيزيقيا وجدناها شكلت جزءا من التاريخ الوجودي للإنسان . كما أعتبر كانط ان ما يدّعيه لا يبنتز من …
شذرات من الحياة والوجود
علي اليوسف /الموصل* ملاحظة: هذه الشذرات الفسفية والفكرية المنوّعة كتبتها على فترات متباعدة ومثلها العديد فقد مني وبعضها الآخر نشرته على حسابي فيسبوك بما يتعذّر عليّ استرجاعه, ربمّا كان هناك تناصّا في القليل جدا منها , لكن جلهّا ليست مقتبسة عن مصدر, ولا التمس من نشرها غير توثيقها كنوع من …
التوسير وكتاب رأس المال
علي محمد اليوسف/الموصل بعدما جعلت الماركسية من الميراث المادي الهيجلي، فلسفة مثالية ابتذالية في تفسير المادة والتاريخ، وبعد ان اعتمدها ماركس بمنهج مادي جدلي مغاير محسّن، اطلق مقولته الشهيرة بانه – ماركس – اوقف التفسير المثالي الهيجلي للتاريخ على قدميه بعد ان كان اوقفه (هيجل) مقلوبا على راسه. مختتما …