العرب: حميد زناز
ما أصعب أن تكون هنا أو هناك
توبي ناتان، هو أهم ممثل لطب النفس السلالي في فرنسا، وفي كتابه “الأرواح الهائمة “يحكي تجربته العلاجية والنظرية مع متطرفين إسلاميين. يربط في هذا العمل بين تجربته كلاجئ يهودي -من أسرة إيطالية طردت من مصر بعد أزمة قناة السويس، وصل إلى فرنسا في بداية الخمسينات من القرن الماضي- والشبان المتطرفين المنحدرين من الهجرة.
منذ ثلاث سنوات وعالم النفس والطبيب والكاتب توبي ناتان يستقبل في مكتبه الطبي أكثر من ستين شابا وشابة مسّهم فيروس التطرف الإسلامي أو كانوا في طريق التأسلم العنيف، محاولا أن يفهم انطلاقا من الحوار معهم والإنصات إلى ما يقولون، كيف خدعوا بخطاب الإسلام الراديكالي الذي استغل وضعهم الخاص. وقد سرد تجربته معهم في كتاب اختار له “الأرواح الهائمة” عنوانا.
أسلاف غائبون
يقول الكاتب إنه أطلق عليهم وصف “الأرواح الهائمة ” لأن أغلبيتهم شبان قُطعت العلاقة بينهم وبين أسلافهم لسبب أو لآخر وفي المقابل لم يقبلوا ولم يعترفوا بالأسلاف “الجدد” المقترحين عليهم في المدرسة كبديل مثل نابليون وفيكتور هوغو وبودلير وغيرهم، ومن ثمة يشرح الطبيب قائلا “وجدوا أنفسهم عديمي الأجداد”.
ومن جهة أخرى يواجه الكثير من الشبان الذين تعامل معهم إشكالية صعبة متعلقة بنسبهم إذ يقول إن 30 بالمئة منهم يعانون من عدم اعتراف آبائهم بهم وكذلك منهم من هم متبنون. كما يشير الكاتب إلى ظاهرة أخرى متكررة هي ظاهرة الأفارقة الذين يأتون لفرنسا ويتركون أبناءهم هناك لدى خالاتهم أو أعمامهم أو جداتهم ثم يحضرونهم إلى فرنسا في سن العاشرة أو الخامسة عشرة. وحينما يلتقون بآبائهم الذين لم يروهم أبدا يبدأون بمناداتهم “سيدي وسيدتي” وفي غضون 3 أو 4 أسابيع يحدث الانفجار، وهذه المرة لعدم اعتراف الأطفال التام بآبائهم. ورغم أنه ليس كل من يعيش الحالة سيمر حتما إلى مرحلة استعمال العنف، فإن ذلك يبقى أرضية مواتية لتحول الشخص إلى انتهاج العنف.
ويقر الكاتب بأنه قد توصل إلى أن 80 بالمئة من هؤلاء الشباب الذين تعامل معهم في المركز مهاجرون من الجيل الثاني ويمثلون هدفا للدعاية الجهادية.
ويكتب توبي ناتان “ما حيرني، هو أنني ألاحظ أشياء على المستوى الاكلينيكي وفي نفس الوقت يوجد أناس هناك، أناس لا أعرفهم وفي مكان لا أعرفه لاحظوا نفس الأشياء التي لاحظتها وقالوا: هذا أمر جيد لنا، نستطيع أن نجعل هؤلاء الشباب يميلون إلى صفنا، وجعلوا من ذلك نظرية!”. ويذكر أبومصعب السوري، المنظر الجهادي الذي دون ما يقارب الــ 1000 صفحة شرح فيها كيف يمكن زعزعة الغرب وأوروبا على وجه الخصوص.
ويتساءل توبي ناتان بدوره “هل يمكنني أن أفعل أحسن من هؤلاء الجهاديين؟ هل يمكنني أن أستعيد هؤلاء الشبان وأنتشلهم من بين أنيابهم؟”، ويجيب بأن ذلك مشكلة حقيقية مطروحة على السياسة الدولية. إنه ميزان قوى رهانه امتلاك القدرة على التأثير. والتأثير هو مهنة توبي ناتان، بمعنى النجاح في تغيير الأفراد.
وبالإضافة إلى كل ذلك وجد أن هناك رهانات ماورائية لها علاقة بإشكالية العلاج من مرض التطرف أيضا، فالمسائل الدينية ليست ثانوية إذن. وبدأ الفرنسيون يعودون شيئا فشيئا إلى أخذ الدين بعين الاعتبار ولو أنهم فقدوا تلك العادة ونسوا أن جامعة السربون كانت جامعة دينية.
ويصل الكاتب إلى نتيجة مفادها أن “هؤلاء الشبان يطرحون أسئلة ميتافيزيقية وإن قبلنا الحديث معهم في الموضوع فسوف يستجيبون ونصبح محاورين لهم وسيأتون للحديث وإفراغ كل ما في جعبتهم وقد نتمكن من استمالتهم وتغييرهم”.
ويعترف الطبيب بأن ذلك ليس بالأمر السهل فقد يتردد بعضهم في المجيء ويدوم ذلك شهورا وشهورا ويذكر لنا قصة شاب بقي مدة عام ونصف العام مترددا “قبل أن يقبل استشارتنا الطبية ويأتي إلى المركز ولم نقنعه إلا بوعده بطرح مسألة الله معه وتمكينه من الحديث في الموضوع مع أحد زملائنا إذ لم يكترث بأي موضوع آخر مع العلم أنه ينحدر من عائلة كاثوليكية آتية من شرق أوروبا”.
وقصته بدأت بتهشيمه لصورة البابا يوحنا الثاني وهو ما أثار غضب والديه وتأكدت شكوكهما: لقد تطرف ابنهما فعلا وانضم إلى الإسلاميين. و”يجد زميلنا صعوبات كبيرة مع هذا الشاب المسلح بأيديولوجيا وحجج كثيرة، يقول الكاتب، ولحسن الحظ نحن لا نيأس ونواصل النقاش وحشد الحجج وتسطير الخطط. إنها حرب أفكار حقيقية”.
وعلى عكس الخطاب الإدماجي الغالب في فرنسا يقترح الكاتب طريقا آخر هو وجوب اعتبار هؤلاء الشبان كمهاجرين، كأجانب وهذا لا يعني في رأيه وصمهم أو فصلهم بل بالعكس يجب النظر إليهم على أنهم يملكون شيئا إضافيا إذ لديهم لغة إضافية وتقاليد إضافية وينبغي استغلال تلك الغرابة وعلى الخصوص لا ينبغي إزالتها ومحاولة إدماجهم. ينبغي أن نقول لهم بأن اختلافهم إثراء وباستطاعتهم أن يكونوا وسطاء بين هذا العالم الذي لا يعرفونه ولكن يسكنهم وهذا العالم الذي يعرفونه ولا يسكنونه. ويرى الطبيب أنه إذا تم النجاح في ذلك فسيكون الأمر رائعا جدا وتلك هي الوقاية من السقوط في التطرف وكره المجتمع.
“العيادة الوقائية“
وعلاوة على كونه عملا علاجيا يعد عمل توبي ناتان عملا تجريبيا أيضا، يتوخى إنتاج معرفة نظرية، وفي الحقيقة حفر الكاتب في أعماق لم تصلها الدراسات المتكاثرة حول تطرف الشبان الفرنسيين. وعكس التيار، يعتقد أن مكافحة الايديولوجي الجهادية التي تُقدم للشبان الهائمين هوية جاهزة للاستعمال لا تكون فعالة إلا بضرورة إعادة ربط العلاقة مع هوية أسلافهم من جديد.
ولكن السؤال الغائب هو: هل يحمل كل المهاجرين روحا هائمة تبحث عن صياد؟ ولماذا لم تسقط أغلبيتهم في شباك الجهادية؟
ولكن إذا كان الأمر هكذا بالنسبة للشبان الذين يعيشون في الغرب والذين يعانون من قطيعة سلالية، فالسؤال الذي ينبغي أن يطرح على المحلل والطبيب النفسي هو: كيف يمكن أن نستغل هذه النظرية في فهم التطرف عندنا نحن في البلدان العربية حيث يعيش من يتطرفون في غير قطيعة مع ثقافتهم الأصلية؟