الرئيسية / منشورات / جرائد / مستقبل ربيع الفلسفة بالمغرب – جزء أول

مستقبل ربيع الفلسفة بالمغرب – جزء أول

موقع كوة: العلوي رشيد

قبل سنة كتبت مقالاً حول ربيع الفلسفة بالمغرب (أنظر الملحق: عن ربيع الفلسفة بالمغرب: ربيع 2016) حددت من خلاله بوادر ديناميَّة فلسفيَّة غير مسبوقة في بلدنا لاعتبارات عدة، وفسَّرتُ ذلك بأهميَّة مشاركة وانخراط الشباب في الحركيَّة الثقافيَّة التي عرفها المغرب بعد حراك الرَّبيع الديمقراطي، وافترضت أن عمليَّة التغيِّير السيَّاسي غير مُمكنة بدون تغيِّير ثقافي.

تأكد لي بعد مرور سنة أن كلامي السابق حول الدِّيناميَّة كان في محله، ففي ظرف أقل من سنة ونصف قمت بجرد مختلف الأنشطة التي عرفتها الساحة الثقافيَّة والفكريَّة والفلسفيَّة بالمغرب، وتبيَّن بالملموس أن هذا التراكم الكمِّي قد يعكس في المستقبل أو سيفرز تراكماً نوعيّاً وتجنبا لسوء التقدير طرحت في تقرير سينشر قريباً مجموعة من الرهانات التي يمكن أن تشكل أفقاً لديناميَّة فلسفيَّة نوعيَّة وواعيَّة للإعلاء من شأن وحضور الفلسفة والحاجة إليها في تقدم الحياة الاجتماعيَّة.

ليست الحاجة إلى الفلسفة مجرد حاجة لإرضاء تطلعات أفراد أو مؤسسات وإنما هناك مجموعة من العوامل التي تُفسر هذه الحاجة منها ما هو كوني مرتبط بوضع الإنسان في عالم اليوم (إكراهات خارجيَّة) ومنها ما يخص الفرد المحدد في زمان ومكان معينين (اكراهات ذاتيَّة أو داخليَّة) سأحاول الكشف عنها، وعلى سبيل المثال: المدرس المُوظف وفشل النَّزعة التقنويَّة، نهاية النماذج الكبرى، الحاجة إلى فهم عميق لما يجري رغم أن السرعة التي يتحول بها العالم لا تتيح وضع مسافة بين الجاري والقادم، التخوف من حجم التحولات الكبرى التي تطال الفرد على جميع المستويات…

تنبع الحاجة اليوم إلى الفلسفة من أزمة الوضع البشري، فجراء التذرير الذي تعرضت له كفاءات وقدرات الأفراد وتشتتها بفضل بيداغوجيا المجزوءات ثمة الحاجة إلى عودة المنطق والتفكير النقدي، لأن طغيان الفكر الأحادي والايديولوجيَّات المنغلقة والعقليَّات المتزمتة وانتشار التمرُّد الأعمى للحشود بقيادة قوى يمينة متطرفة تلعب على وثر روحي شعبي… كلها تدعو إلى إعادة الاعتبار للفلسفة كفكر نقدي وإلى المنطق (ليس المنطق الصوري، وإنما المنطق كما تطور عبر التاريخ) كفكر يتيح إمكانات العقلنة وتنظيم التفكير والحياة عامة.

جاء الربيع الديمقراطي حاملاً لهم شعوب وقعت تحت نير الاستبداد وتبيَّن بعد أشهر من انتصار الشعوب والانتفاضات أن التيار الديني هو بحق تيارٌ جارِف سنحت له الفرصة لتولي زمام الحُكم المدني بخلفيات ثيولوجية استبدادية، وأبانت بعض تيَّاراتِه المتشدِّدة بدعم امبريالي خارجي عن أنيابِها ونواياها الحقيقيَّة، وفي المقابل، فإن البديل التقدمي والديمقراطي الذي حملته قوى يساريَّة وليبراليَّة ضعيفة للغاية صار في حكم تحصيل الحاصل، رغم أنه لا يستطيع لحدود اليوم أن يبلور رؤى استراتيجية بسبب أزمة انهيار النموذج.

سأحاول في هذا التقرير الذي يشمل مختلف الأنشطة التي نظمتها جهات عدة متصلة بالفكر الفلسفي أو مهتمة بشؤونه، أخضعتها لتمييز صُنافي / معياري بين:

  • الأنشطة الأكاديمية التي نظمتها الجامعات والكليات ومخابر البحث.
  • الأنشطة الجمعوية التي نظمتها مختلف الجمعيات المهتمة بالفلسفة، وأساساً الجمعية المغربية لمدرسي الفلسفة، وجمعيات فلسفية مختلفة مهنية كانت أو غير مهنية.
  • الأنشطة البحثية التي نظمتها مراكز البحث والمؤسسات الفكرية وحلقات التفكير الفلسفي والأنشطة الفلسفية.
  • الأنشطة غير المؤسسية والتي ترتكز على مبادرات فردية أو جماعية غير مؤطرة من طرف مؤسسات أو جمعيات أو مراكز البحث أو مؤسسات بعينها.

ارتكز التقرير على منهج واضح:

  1. لا يدعي التقرير الشمولية والدقة المفترضة في التقارير التي تنجزها مؤسسات ومراكز البحث التي تتمتع بالدعم الكافي وبالولوج إلى المعلومة، لأنه عمل فردي ومضنٍ ساعد في بعض مواده بعض الأصدقاء لهم كامل التقدير والشكر، ولكنه في نهاية المطاف بادرة أولى، أتمنى أن تسعفني الظروف لإتمامها في المستقبل.
  2. حاولت حصر الفترة الزمنيَّة والتي حددتها بين فاتح يناير 2016 و30 يونيو 2017 رغم أن الاشتغال عليه بدأ منذ مارس 2017 ولذلك فهو يخص فترة دقيقة (سنة ونصف)، على أمل أن يشمل التقرير الثاني المنتصف الثاني من سنة 2017.
  3. حددت أهم الفاعلين والمساهمين في هذه الدينامية الفلسفية التي شهدها المغرب في الفترة المحددة أعلاه، وكما ستلاحظون أن مختلف المتدخلين في الأنشطة يتوزعون إلى: أساتذة الجامعة، مدرسو الفلسفة في التعليم الثانوي التأهيلي، أساتذة المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين، أساتذة مبرزون، مفتشو مادة الفلسفة في التعليم الثانوي التأهيلي، طلبة الجامعات (الماستر والدكتوراه)، مفكرون وشعراء وأدباء وفنانين، وكتاب مغاربة يشهد لهم بتقديرهم للفلسفة وبحضورهم المستمر في مختلف الأنشطة الفلسفية، حقوقيون وفاعلون في المجتمع المدني…
  4. استفاد من مختلف الأنشطة فئات أساسية: طلبة الجامعات، التلاميذ، مدرسي الفلسفة في التعليم الثانوي التأهيلي وفي المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين، أصدقاء الفلسفة من المتعلمين، منخرطي الجمعيات الحقوقية والثقافية، مرتادي النوادي الثقافية ودور الثقافة والمكتبات ومختلف أماكن احتضان الأنشطة… وهذا مؤشر واقعي أن الفكر الفلسفي بمختلف أنشطته لا يزال مقتصرا على النخبة والشبيبة المتعلمة ولم يستطع أن يبلور خطة تستهدف باقي الفئات الاجتماعية ومختلف الطبقات الاجتماعية.
  5. رغم كونه تقريراً عن الأنشطة الفلسفية فإنه يأخذ بعين الاعتبار مختلف الديناميات الفكرية والثقافية والسياسية التي عرفها المغرب والتي حصرنا أنشطتها في هذه الفترة فيما يقارب 500 نشاط متنوع ولكن توجهاته الأيديولوجية والسياسية والتنظيمية جلية للعيان وقد استعنت ببعض صفحات الفايسبوك ودلائل أنشطة بعض المؤسسات والجمعيات والمراكز.
  6. تخترق الأنشطة المحصورة في هذا التقرير تيارات أيديولوجية وسياسية عديدة حظي بعضها بدعم الأحزاب والجمعيات والمؤسسات المرتبطة بالحياة المدرسية والدينامية المدنية وبعضها بالمؤسسات الرسمية.
  7. سينصب الجزء الثالث من هذا التقرير على واحدة من المؤسسات التي لها باع طويل في الدينامية الفلسفية وسينشر بعد ضبط مادته وبنفس المعايير الواردة والمعتمدة في هذا التقرير.
  8. التصنيف الذي اعتمدته في هذا التقرير يخصني شخصيا ولا أحد يتحمل مسؤولية ما جاء فيه، فقد تعتريه بعض النواقص والهفوات ولكم واسع النظر لتداركها في المستقبل وفي تقارير أخرى.
  9. كانت غايتي من هذا التقرير والدراسة هو تشخيص واقع حال الدينامية الفلسفيَّة لاستشراف المستقبل والرهانات والآفاق المطروحة على الفاعلين في الحقل الفلسفي.
  10. قد يكون هذا التقرير الأول من نوعه في بلدنا بغاية تحقيق تراكم نوعي أنجزناه للتاريخ كي يكون شاهداً على أصالة وجدَّة النشاط الفلسفي.
  11. تعوزنا بعض المعطيات حول أنشطة لم يتم حصرها أو ذكرها في التقرير ولا نتحمل مسؤولية اغفالها لأن بعضها لم يعمم ولم تنشر إعلاناتها وبرامجها أو أنني لم نتمكن من الوصول اليها وليس في غياب أي نشاط اقصاءً له أو ما شابه، وسأكون مسرورا لتعاونكم في استدراك ما فات.
  12. اعترض هذا التقرير مشكلات وصعوبات عدة تفوق قدراتي الخاصة، وأتمنى أن أجد لها حلولاً في التقارير القادمة.
  13. وجدت صعوبة في فصل الفلسفي عن الفكري والثقافي لذلك لم أدرج العديد من الأنشطة الفكرية والثقافية ذات الصلة بالفلسفة، ولكنني أحتفظ بها علَّ الفرصة تتاح لتنقيحه مستقبلاً.
  14. لا يمكن فصل هذه الديناميَّة عن مجموع الدِّيناميَّات التي عرفها الحقل الثقافي في المغرب بعد حراك 20 فبراير.

يتبع…

ملحق:

عن ربيع الفلسفة بالمغرب 

الرابط من هنا

يعود الفضل في هذا النص إلى الصديق العزيز مفكر التنوير مغربيا وعربيا سعيد ناشيد. (كتب في ربيع 2016 قبل مؤتمر الجمعية المغربية لمدرسي الفلسفة).

في الآونة الأخيرة، تناسلت مبادرات فلسفيَّة متنوعة داخل مختلف مناطق المغرب، وجاءت كثمرات لجُهود مختلف المهتمِين والمشتغِلين بالفكر الفلسفي من مدرسين ومؤطرين وطلبة جامعيين وأصدقاء الحكمة. وكان لافتا للأنظار تزامن هذا الزخم مع ظهور الأزهار الأولى لفصل الربيع، والذي شهد أيضا انعقاد ندوات فلسفيّة عديدة طرحَت فيها قضايا التنوير والحداثة والإصلاح الديني، ناهيك عن سؤال الحاجة إلى الفلسفة. وقد توج كل ذلك بحدث فلسفي هام يتعلق بانعقاد المؤتمر الاستثنائي للجمعيّة المغربيّة لمدرسي الفلسفة، وهذا بعد مرور أزيد من عقد ونصف عن حالة الركود والجمود، لأسباب قد لا يسع المجال لذكرها الآن.

لقد شكل الشباب في المغرب القوة المحرّكة للمجتمع في مختلف المحطات الكبرى من تاريخه المعاصر، وها هو اليوم يعود بقوة إلى جبهة الصراع الثقافي –الفكري، لغاية خوض معركة تنويرالعقول وتطوير الأذهان. بحيث احتضنت العديد من الجامعات المغربيّة أنشطةً متنوعة شملت فلاسفة الانسانيّة جمعاء، وعالجت موضوعاتها مختلف مجالات البحث الفلسفي: تاريخ الفلسفة، المنطق، الابستمولوجيا، فلسفة الذهن، التأويليات، الفلسفة السيّاسيّة، أخلاقيّات علوم الطب والبيولوجيا… ينضاف إليها مجهودات مراكز البحث والدراسات والحلقات الدراسيّة في الجامعات من مخابر وجمعيّات الباحثين في الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس والأنثروبولوجيا، ناهيك عن مؤسسات مروّجة ومدعمة للفكر الفلسفي عن طريق النشر… يعبر حجم الأنشطة الفلسفيّة ومختلف فروع العلوم الانسانيّة عن ديناميّة غير مسبوقة عمادها الوعي المتنامي بخطر الفكر الأصولي وبعمق الأزمة التي يعيشها المجتمع بفضل انتشار قيم الانغلاق والتزمت والتعصب للرأي وتوسع قاعدة الدوكسا ليشمل الأوساط المتعلِّمة.

لم تستثنى حركة النشر والتأليف من “ربيع الفلسفة” بالمغرب وجرأته في طرح قضايا جديدة وبنفس جديد كما هو الشأن بالنسبة للفلسفة في الزنقة والمسرح المحكور، والاهتمام المتزايد – رغم ضعفه – بالممارسات الفلسفيّة الجديدة والفلسفة للأطفال، ناهيك عن ديناميّة الأنشطة التربوية الفلسفيّة من قبيل الأولمبياد الفلسفي والشاشة الفلسفيّة.

كما ساهمت الوسائل التكنولوجيّة الحديثة ومواقع التواصل الاجتماعي في هذه الديناميّة رغم انعكاساتها السلبيّة على تعليم الفلسفة في التعليم الثانوي التأهيلي، من جهة أن الخطاب الفلسفي لم يعد خطاباً حجاجيّاً عقلانيًّا يرتكز على قواعد المنطق والمساجلة وتبادل الرأي، بقدر ما يرتكز على الاستظهار وعرض المواقف بشكل جاهز دون ادراك الدلالات الفلسفيّة والمعاني العميقة التي تحملها ودورها التاريخي في تغيير العقليّات والأجيال.

لكن إلى ما يعزى هذا التحرك غير المسبوق في تاريخ تدريس الفلسفة بالمغرب؟

ما من شك أن عوامل مختلفة تظافرت لولادة “ربيع الفلسفة” بالمغرب منها ما هو مرتبط بالسيّاق الدولي والجهوي حيث عممت العولمة قيم ثقافة السوق كالتبضيع والاستهلاك اللامحدود… وما رافقها من سؤال حول الهويّة واثبات الذات في عصر العقل الأداتي الذي جعل الفرد ينعزل في عالم خاص يعتقد أنه هو من صنعه دون أن يدري أن شروطا ًتظافرت لجعله أكثر انغلاقاً على نفسه، ففي الوقت الذي نتوهم أننا أكثر انفتاحاً على العالم فإننا نتقوقع في عوالم افتراضيّة منحتنا حرية محدودة ومراقبة… فلم يعد من المستصاغ ترك سؤال الوجود والبحث عن معنى للحياة أمام تغوّل “الجهل المقدس”، وزحف الأصوليّات المتواصل وهجومها الجارف على كل مساحات العقل والحياة.

ينسجم مصطلح “ربيع الفلسفة” مع حجم وتحديات الثورة الثقافيّة والصراع الفكري الذي أدرك جيلُ شاب دخل الفعل في مختلف مستوياته السيّاسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة من بابه الواسع، ربما بعد أن فطن هذا الجيل الثائر إلى فشل المطالبة بالتغيّير السيّاسي الذي انطلق في أحد أيام فبراير 2011، بل ومحدوديّة المطالبة بالتغيّير السيّاسي دون خوض المعركة الثقافيّة. ولهذا يتوجب العمل على تحصين هذه الديناميّة وضمان استمراريتها لتضطلع الفلسفة – كما كانت من ذي قبل – بأدوارها الطليعيّة والتقدميّة، كفكرٍ حر يطرح السؤال وينتقد ولا يركن للسّائد، بل يعمل على خلخلة البداهات ويدفع بالشك إلى حدوده القصوى في سبيل معرفة وعقل متحرّرٍ من القيود التي كبلته طوال عقودٍ خلت.

تمثل ديناميّة “ربيع الفلسفة” بحق سجّلاَ تاريخيّاَ ينضاف إلى سجلات المقاومة الفكريّة والممانعة الثقافيّة للمد الأصولي المتزمِّت الذي اجتاح هذه الرقعة قادما إليها من كل حدبِ وصوب، مما يستوجب معه مواصلة الطريق على نفس النهج لمواجهة كل الأشكال التي تُدِيم التخلف والجهل وتعمِّم الدوكسا مكان الرأي المبني والمؤمن بحق الغير في التفكير والتعبير الحر. وهو ما لن يتأتي دون خوض معركة الحداثة والتنوير: فأي حداثة نريد لمغرب المستقبل؟ هذا هو السؤال.. وليس مهما في الفلسفة غير السؤال؛ فوحده السؤال يجعل التفكير ممكنا.

شاهد أيضاً

حركة الأجسام بين التفسير العلمي و اللاهوتي من منظور إسحاق نيوتن

يوسف الطاسي يوسف الطاسي* تقديم ترمي هذه المساهمة إلى إبراز الأسس والخلفيات المعرفية التي استند …