الرئيسية / كتاب كوة / سعيد ناشيد / التّفكير بالجسد

التّفكير بالجسد

سعيد ناشيد

ثمة انطباع واسع الأثر وبالغ الضرر، مفاده أن قُدرة المرء على التفكير لا تستقيم إلاّ بإهمال الجسد شكلاً ومضموناً. هذا الانطباع كرّسه بالفعل نموذج للمثقف شائع بيننا؛ لا يهتمّ مثلاً بالنظام الغذائي ( قد يأكل بنهم أو بأسلوب سيء )، لا يهتمّ بالهواء الذي يستنشقه ( قد يدخن بشراهة أو يطيل الجلوس في الأماكن المغلقة )، لا يعتني بإيقاع النوم ( قد يعاني من الأرق أو من قلة النوم )، لا يكترث بالرياضة أو المشي ( قد يقعد على الكرسي يوميا لساعات طويلة )، شعوره بالحياة يتضاءل على الدوام، وتذبل حواسّه قبل الأوان، غارق في سائر أيّامه وسط الأوراق في طقوس تُسمى تجاوزاً بـ”البحث العلمي”. لكن، قالها هيدجر يوماً، “العلم لا يفكر”. نضيف، قد ينتج “البحث العلمي” باحثين لكنه لا ينتج مفكرين. الفكر قدَر آخر. بوسعنا أن نختصر المسافات ونقول ما لا يقال عادة للدارسين: من يندفع إلى العُمق لا يسبح، من يندفع إلى العُمق يَغرق. سأشرح، عندما نبحث عن الإنسان فإننا نبحث في العمق، لكنه العمق حيث لا يوجد أيّ شيء، الحكمة إذن أن ننسى الإنسان ونعود إلى السطح لكي نلتقي بالناس. كذلك هو الجسد، فإنه عمقنا الوحيد. لذلك، يحتاج المرء إلى نزاهة نيتشه لكي يقول، “إنني بأسري جسد لا غير (…) هذا الجسد لا يتبجّح بكلمة أنا لأنه هو أنا بالفعل” (هكذا تكلم زارادشت). نسيان الجسد، وتوهّم وجود عمق “سحري” تحت سطح الجسد، لا يقود سوى إلى ظهور مثقفين عميقين إلى درجة الإفلاس في العيش والفشل في الحياة، لا زاد لهم غير أسلوب يعسر هضمه، ولغة خشب تثير الملل، ورتابة في تركيب الجمل. في كل الأحوال أن نحاول إقناع أنفسنا بأننا نفكر لا يعني أننا نفكر بالفعل، حتى وإن كنّا نمارس طقوس “البحث العلمي”. كان أتباع المدرسة المشائية يمارسون التفكير أثناء المشي، لربّما اقتداء بأرسطو الذي كان يلقي بعض دروسه ماشياً. غير أن نيتشه يملك أقوالا دقيقة في هذا المقام، مثلا، “وحدها الأفكار التي تأتينا ونحن ماشون لها قيمة ما” (أفول الأصنام)؛ كذلك، “لا تثقوا في فكرة لم تولد في الفضاء المفتوح وفي التحرّك الحر حيث عضلات الجسم تشترك أيضاً في الاحتفال” (هذا هو الإنسان).
إنّنا نفكر بواسطة أجسادنا؛ ليس فقط لأنّ العقل يقيم حصراً داخل حدود الجسد -وهذا صحيح- وإنّما لأنّ العقل والجسد شيء واحد. كما ليست هناك من منطقة محدّدة داخل الجسد هي التي تنفرد بمهمّة التفكير بنحو مستقل عن سائر الجسد -كأن تكون الدماغ حصراً- وإنما الجسد برمته وبكل تفاصيله يشارك في عملية التفكير، ولو بنسب متفاوتة. ثمّة عبارات كثير نتداولها دون أن ننتبه إلى أبعادها التي تتخطى المجاز. مثلاً، “البطنة تُذهب الفطنة” (حديث نبوي). بصرف النظر عن سند الرواية فالدّلالة دقيقة وتؤكدها خبرتنا اليوميّة. الجهاز الهضميّ غير مستقل عن النشاط العقلي، بل يظل عنصراً متواطئاً سلباً أو إيجاباً. هكذا، ليس من المبالغة أن ينتقد نيتشه النظام الغذائي الألماني الذي يتسبّب في تفكير مثالي ومترهل كما يعتقد، لا سيما وأن “خمولا صغيرا للأمعاء يكفي إذا ما تحوّل إلى عادة سيئة لأن يجعل من عبقري شيئاً رديئاً” (هذا هو الإنسان). لا يتوقف الأمر عند حدود النظام الغذائي، بل يشمل سائر التفاصيل التي تهم الجسد: الغذاء، المناخ، الجو، المشي، النوم، والنظام الحركي برمته، بل حيوية الجسد بأكملها. “إن هذه الأشياء الصغيرة من غذاء وأمكنة ومناخ واستجمام؛ أي مجمل دقائق الولع بالذات، لهي في كل الأحوال أهم من كل ما ظل إلى حد الآن يُؤخذ على أنه مهم. من هنا بالذات ينبغي أن يبدأ المرء بإعادة التعلم” (هذا هو الإنسان)، يقصد بذلك، إعادة تعلم الحياة.
يبدو أن التفكير بالجسد اكتشاف مسجل باسم نيتشه، الذي مسَح خطيئة ديكارت القائمة على الفصل بين الفكر والجسد. لكن الخطيئة لها جذور أفلاطونية باعتبار أنّ الانفعالات هي التي تقيم داخل الجسد إقامة ضرورية حسب أفلاطون، في حين لا يقيم الفكر داخل الجسد إلاّ إقامة عرضية (محاورة فيدون). وإذا كنا لا نفكر إلاّ بقدر ما نتحكم في معظم انفعالاتنا –وهذا صحيح- وإذا كان العقل هو أداة التحكم في الانفعالات والحد من تأثيرها أثناء اتخاذ القرارات وإصدار الأحكام –وهذا صحيح كذلك- فإنّ النتيجة الأفلاطونية أن التفكير سيكون عملية ضدّ الجسد. سيكون التفكير تغييباً للجسد، نوعاً من الموت إذاً. هكذا جعل الكثيرون عملية التأمّل بمثابة إماتة للجسد. لكن علينا أن نستدرك في المقابل بأننا أمام تأويل قروسطي مهيمن لفلسفة أفلاطون، وهو التأويل الذي خضع للمؤثرات المسيحية. زيادة في الدقة نقول: المسيحية نفسها مجرّد تأويل لمسيحية “أصلية” لم تعد موجودة، أو ببساطة ليست موجودة. قالها الكثيرون، “إننا لا نعرف إلا تأويل التأويل”. من حسن الحظ أن ثمة دائما وفي أشدّ القراءات انغلاقاً فرصة لتأويلات مضادة. مثلاً، بصرف النظر عن موقف التأويل الأفلاطوني السائد من الجسد، فليس من باب المصادفة أن يركز أفلاطون على أهمية التربية البدنية خلال سنوات التعليم الأساسي، فضلا عن الموسيقى والرقص. وهذا باب آخر يُمكن فتحه. لكن، لكي ننزع السحر عن نيتشه –وهو إجراء نيتشوي في آخر التحليل- لا بأس من التذكير بأن سبينوزا قد سبق نيتشه إلى ربط الفكر بالجسد. يقول في الفرضية 13 من الجزء 2 من كتاب (علم الأخلاق): “موضع الفكرة التي تؤسس العقل الإنساني هو الجسد”. عموما، ثمة اليوم اتفاق على اننا نفكر بأجسادنا. لذلك نفهم كيف كان نيتشه يلحّ على مسائل النظام الغذائي، والرياضة، والمشي، والرشاقة، والهواء المناسب، إلخ.
أسلوب تفكيرنا ثمرة كل الخبرات التي تتعرض لها أجسادنا في الحياة اليومية، من خبرات حسية وحركية وغذائية ونفسية وعصبية وتواصلية إلخ. لا يوجد عقل مقابل الجسد، لا يوجد جسد مقابل العقل، بل “جسدك هو عقلك” كما يقول نيتشه على لسان (زارادشت).
التفكير حاسة الجسد. بل لا يكون الجسد جسداً إلاّ بفعل إحساسه بذاته أوّلاً، وهو ما يمنحه هامش الانفلات من الحتمية البيولوجية العمياء. هنا يكمن مغزى الوعي بالذات. مثال، عندما يشعر الجسد بالخوف فإنّه يفرز كمية من هرمون أدرينالين، فترتفع ضربات القلب، وتنقبض العضلات، ويفرز العرق رائحة مميّزة تدركها الوحوش والحيوانات، إلخ. في هذه الأثناء قد لا يكون رد فعل الجسد عقلانيا، فقد يرتعش، وقد يتجمد، وقد يعجل بهلاكه من حيث لا يدري ولا يريد، لكن بواسطة التفكير ( وما جدوى التفكير إن لم ينفعنا في أسوأ الظروف !؟) قد يعيد الجسد ترتيب نفسه لأجل تعديل النتيجة. صحيح أنّ العقل هو أداة التحكم في الانفعالات التي يفرزها الجسد وتعيق التفكير، غير أن العقل بالتعريف هو الجهد الحسي الذي يبدله الجسد لكي يحمي نفسه من الانفعالات الداخلية السلبية ( الخوف، الحقد، الحزن، الكراهية، الغضب، إلخ )، وهي انفعالات حزينة حسب سبينوزا، تستنزف الطاقة الحيوية حسب نيتشه، وتحرم الإنسان من فرصة حياة جديرة بالحياة.

الإمارات الثقافية.

شاهد أيضاً

حركة الأجسام بين التفسير العلمي و اللاهوتي من منظور إسحاق نيوتن

يوسف الطاسي يوسف الطاسي* تقديم ترمي هذه المساهمة إلى إبراز الأسس والخلفيات المعرفية التي استند …