جمال أيت بلعيد – المغرب
“الوعي العلماني الأصيل لا يبحث عن أب بديل”. سعيد ناشيد الاختيار العلماني [ص8]
“لكل نائم عالمه الخاص، وللمستيقظين عالم واحد”. هراقليطس. [ص157]
صدر كتاب “الاختيار العلماني وأسطورة النموذج” للأستاذ سعيد ناشيد في طبعته الأولى سنة 2010، عن دار الطليعة للطباعة والنشر ورابطة العقلانيين العرب ببيروت، في 176 صفحة. وبملاحظتنا لسنة الإصدار، مارس 2010، أي حتى قبل ما سمي “بالربيع العربي”، يمكن أن نستخلص جرأة الطرح في الكتاب، حيث كان الفكر العلماني محصوراً على النخبة، ومتمثلاً في أفهام غالبية الشعوب الإسلامية، ولا يزال، على أنه يعني الفكر المادي والإلحادي. وواقعة التهجم والتكفير للأستاذ أحمد عصيد في دعوته إلى ضرورة مراجعة مناهج ومحتويات المادة الدينية المدرَّسة لخير دليل.
رجال سياسة أم رجال دين؟
بعيداً عن جلد الذات قريباً من نقد المثال، نعاين المتحقق ونطرح السؤال: لماذا تغيب نصوص الفلسفة السياسة عن السياسة لتحضر قصص الأنبياء؟ كيف طرد عيسى مثلاً أفلاطون من واقع الناس المشترك؟ حتى غدا من تولى الرئاسة فاقداً للسياسة، تأتيه الرؤى والأصوات المنفلتة من السماء في آخر الليل، يؤمن بالهمسات البعيدة على حساب أصوات الناس القريبة جداً. يقال قبل التمكين أننا بعون من الله سندحر الفساد، وبعد الوصول، يقال عفا الله عما سلف! أما خطورة هذا الفعل، فيكمن في جعل الله طرفاً في الصراع، غطاء تحت مسميات الاصطفاء الإلهي وخرافة الفرقة الناجية، والذي بموجبه يكون الإنسان محكوماً لا بالحجة والإقناع، وإنما بالطائفة والعشيرة، ما دام المرء “في حروب الله إما أن يكون مع الله أو يكون الله مع الآخرين” [ص29].
لا يستثني النقد حتى ذاته من معاوله، فكيف يطالبه البعض ألا يسائل المثال؟ أن يبقى حبيس النسخ الرديئة لعلها تنتفض ضد أغلالها، لعلها يوماً تعانق الحلم وتبلغ النموذج. لكن ماذا لو انحرف المثال عن مساره؟ ماذا لو تقهقر فأعاد لأحضانه ما ثار ضده يوماً؟ والأهم، ما تفسير كل هذا الهوس بالنموذج؟ وما المانع من بناء مثال خاص؟ فالعبرة تقول: أن لا شيء في التاريخ يتكرر بكل التفاصيل، وأن “العوالم الجديدة لا تولد في العادة إلا حيثما يتم خرق مبدأ العادة”. [ص7]
على طول صفحات الكتاب، يقدم الأستاذ سعيد ناشيد نماذج عديدة من وقائع حضور الخطاب الديني في سياسة علمانيات تطرح نفسها كنموذج للإقتداء، مبررة ذلك كضرورة في مواجهة براثن العدمية كما يدعي الرئيس الفرنسي ساركوزي، ونظيره الأمريكي بوش الابن، والفيلسوف الأمريكي ليو شتراوس… وعديدة هي الأصوات التي فسرت الوضع بفصل الدين عن السياسة، لتتصور الحل، قريباً جداً وبسيط، في إعادة إحياء الاتصال والربط.
استدلال بعض الزعماء السياسيين بنصوص مقدسة وقصص المرسلين، تأكيد بعض الدساتير الغربية على الانتماء الديني للرئيس، تبخيس واختزال التنمية إلى مجرد مبادرات إحسانية، تسمية الحضارات بأسماء دينية، تقديم حلول سحرية لمشاكل العالم تحت مسمى الإعجاز، … كل هذا جعل من “العقل نفسه يكاد يغدو موضة قديمة” [ص24]، مبتعداً عن قيم التنوير والديمقراطية وتهديد مستقبل الحداثة، هاته الأخيرة التي لا تعني في أبلغ معانيها سوى “تعليم الناس العيش بمعزل عن الأوهام” [ص71].
جدلية العبد والسيد: من إنتاج الحضارة إلى إنتاج الخراب.
لطالما كان الصراع بين السيد والعبد من أجل الإعتراف، والذي يعني في أبسط تجلياته الحق في الحياة، عبر سيرورة تاريخية من الجدل، تدخل فيه الفكرة صراعاً مع نقيضتها، والذي، ينتهي بفكرة مركبة متقدمة بالضرورة على سابقتها كما اعتقد هيغل، وكما اعتقد ذاك الذي أحرق السفن، إيماناً منه، بأن حتمية التقدم تقتضي أولا الإجهاز الكلي على سبل التراجع والعودة.
لقد استقل العبد من دوره في الجدل حينما تخلى عن الرغبة في الحياة، ليبقى بلا قضية، فاقداً للمعنى، منتحراً ولا يعرف لأجل ماذا، غير راغب سوى في الموت، بعد قيامه “بتحويل مصدر الخوف إلى موضوع للرغبة، وجعل الموت غاية قصوى وفورية للإرادة” [23]. لكن ماذا عن السيد؟ وماذا عن العبد الذي لم يختر الموت؟
السيد لم يعد يزاحمه العبد على اتخاذ القرار، حتى أمسى الأمر بيده لا ينتج إلا حروباً متعددة الأشكال، يصوغ لها كل المبررات، ولا ضير لديه في أن يستحضر فيها كلام الله وحديث كل الرسل، ما دام العبد الشقي يصدقه، ويردد معه الحلول السحرية لكل مشاكل العالم، يذكر إعجازاً دون تبيان كيف يحصل ذلك؟ وحاله يصدق عليه قول “الأشاعرة عن الذات الإلهية: الوجود معلوم والكيف مجهول والسؤال بدعة…” [ص61].
أمام نموذج علماني منزاح عن مبادئه، تتقلص فيه سلطة العقل في معترك السياسة مقابل صحوة لغة الله والإيمان وقصص الصالحين ورؤى المنام، “لم يبق أمامنا سوى طريق واحد: مجاوزة النموذج الغربي” [ص53]. أما السؤال والرهان: كيف ذلك؟
ومــــاذا بعد؟
سبع سنوات مرت على الكتاب، ولا يزال رجل السياسة يحكي لنا إرادة الله وحكمته، لا يزال العبد يفجر ويدهس ويطعن، لا يزال السيد شعبوياً يلوح بحروب الوداع الأخير، والأشد وقعاً على النفس، لا شيء يوحي بقيام فجر يرفع ظلام هذا الليل الطويل، حتى تكاد مهمتنا تكمن في أن نستعيد من ديوجين الكلبي مصباحه، نحمله لمجالس السياسة نهاراً جهاراً، ثم نصيح بعبارة المفكر القصيمي: أيها العقل من رآك؟
ليست مشكلة العالم في غياب العقل، ما دام العقل دوماً حاضراً، وإنما القضية تكمن في اندحاره من مكاتب اتخاذ القرار وتحديد المصير. لم يعد الناس يخاطبون بالعقل ويُستفتون في آرائهم، ما دام الله هو من يريد، وكفى به وكيلا.
الرهان ليس كله في إيجاد وإنتاج خطاب عقلي، الرهان المهم هو تعزيز هذا الوجود من خلال اقتحام قنوات لتصريفه واقعاً قائماً. حينها فقط، يمكن أن نخطو الخطوة الأولى نحو مجاوزة المثال. وحينها أيضا، يمكن أن نبدأ من جديد.