“(…) إذ أردنا أن نحلل السلطة، يجب أن لا نفكر في المقاصد، وإن كانت هذه المقاصد موجودة ومستمرة في الممارسات الواقعية والفعلية، بل يجب تحليل الجانب الخارجي للسلطة حيث تكون في علاقة مباشرة مع ما يمكن تسميته مؤقتاً وبشكل ظرفي، موضوعها وهدفها وفصله التطبيقي، بتعبير آخر، هنالك حيث تزرع وتنتج آثارها الواقعية. إذن لا يجب طرح السؤال: لماذا هنالك من يرغبون في الهيمنة؟ وعمّ يبحثون؟ وما هي استراتيجيتهم الجماعية؟ ولكن كيف تحدث الأمور، وما هي إجراءات الإخضاع المستمرة التي تـُخضع الأجساد وتقود الأفعال وتحكم السلوك؟ بكلمات أخرى، بدلاً من البحث في كيفية ظهور الحاكم في القمة أو في أعلى الهرم، يجب معرفة كيف تشكلت الذات فعلياً وباستمرار، وانطلاقاً من تعدد الأجساد والقوى والطاقات والمواد والرغبات والأفكار.. الخ، أي تعيين اللحظة المادية للإخضاع باعتبارها اللحظة المشكـّلة للذوات، وسيكون هذا عكس ما ذهب إليه هوبز في اللويثيان(3). أعتقد أن جميع المشرعين كانت مشكلتهم هي: كيف يمكن معرفة تشكل الإرادة، انطلاقاً من تعدد الأفراد والإرادات، أو أكثر من ذلك: كيف تشكل جسد وحيد تحركه روح واحدة، هي السيادة؟ يجب أن تتذكروا مخطط اللويثيان(4)، ففي هذا المخطط، نجد اللويثيان باعتباره إنساناً اصطناعياً؛ ليس أكثر من تجمع عدد كبير من الذوات المتفرقة، التي تجتمع بواسطة نوع من العناصر المكوّنة للدولة. يوجد على رأس الدولة شيء يكونها كما هي، وهذا الشيء هو السيادة، التي يقول عنها هوبز إنها بالتحديد روح اللويثيان. إذن بدلاً من طرح مشكلة الروح المركزية هذه، أعتقد أنه يجب أن نحاول ـ هو ما حاولت القيام به ـ دراسة الأجساد الطرفية المتعددة، هذه الأجساد المكونة بواسطة آثار السلطة، بوصفها ذواتاً.
(…) لا يجب اعتبار السلطة وكأنها ظاهرة هيمنة واحدة موحدة ومنسجمة ـ كهيمنة فرد على مجموعة أو مجموعة على مجموعة، أو طبقة على طبقة ـ بل يجب أن نعرف أن السلطة ـ إلا في حالة تقديرها من أعلى ومن بعيد ـ ليست شيئاً يمكن تقاسمه أو توزيعه أو انقسامه بين الذين يملكونها والذين لا يملكونها، بين الذين يمارسونها والذين يخضعون لها. أعتقد أن تحليل السلطة يجب أن يكون كشيء حركي ومنتشر ومتداول أو باعتبارها تعمل كالسلسلة. لا تتموضع السلطة هنا أو هناك. ليس بين يديّ أي أحد، وهي لا تـُمتلك كما تـُمتلك الثروة والأملاك.. السلطة تعمل وتشتغل؛ السلطة تمارس في شبكة يكون الأفراد في وضع الخاضعين وأيضاً الممارسين للسلطة. ليس الهدف الثابت والمستمر للسلطة أن ينوء بها الأفراد بل أن يشكلوا صلة الوصل لها. بتعبير آخر، السلطة تنتقل بواسطة الأفراد ولا تنطبق عليهم. لا يجب إذن اعتبار الفرد كنوع من النواة الأولية أو الذرة البدائية والمادة الصماء المتعددة التي يطبق عليها، أو على جانبها، ويتم إخضاع الأفراد أو قهرهم. في الواقع إن ما يجعل جسداً أو إشارات أو خطابات أو رغبات متشابهة أو متجانسة أو متماثلة ومشكلة بوصفها فرداً، هو ما يشكل أحد آثار السلطة، بمعنى أن الفرد ليس مقابل السلطة، إنه في اعتقادي أحد آثار السلطة. الفرد أثر من آثار السلطة، أو نتيجة من نتائج السلطة، وهو في الوقت نفسه، ورغم كونه أثراً من آثار السلطة، إلا أنه يوصلها، فالسلطة تنقل بواسطة الأفراد الذين شكـّلتهم.
ميشيل فوكو: “يجب الدفاع عن المجتمع، ترجمة الزواوي بغوره، دار الطليعة، بيروت 2003.