
حميد الكرجاوي[1]
سوف نكون من الجاحدين إن نحن ادعيناالقول الفصل في فكرة التضامن، فكل ما سوف نحاوله، هو تسليط الضوء على هذه الفكرة التي لطالما غابت في كتابات المفكرين عن قصد أو سهوا، اللهم بعض الإشارات هنا أو هناك في مؤلفات البعض منهم، و التي جاءت في سياق نقد النزعة الفردية المشبعة بقين العلم “الصارم”، و لهذا السبب فكرنا في جمع و تحليل و تبسيطالقول الفلسفي في مفهوم التضامن (ما استطعناإلى ذلك سبيلا) باعتباره أحد الموضوعات التي تشدنا إليها شدّا و تدعونا إلى مساءلة منطلقاتها وأسسها، تم محاولة أجرأتها وعيشها في ظل مجتمع ما بعد الحداثة بما هو مجتمع “الفرجة” و ال”سيلفي” و نقل “الخبر العاجل” على حساب قيمة الإنسان و كرامته المفقودة. فما هو التضامن؟ ولماذا صار مطلبا يؤزّنا إليه أزّا؟ وما الرهانات المتوخاة من العودة التضامن؟
إن إنسان المجتمعات النيوليبرالية إنسان استهلاكي بما تحمله الكلمة من معنى، فهو وفيّإلى كلمة الاستهلاك بطريقة فجة؛ بحيث تجده استهلاكيا في الاقتصاد، وفي السياسة، وفي الثقافة، وفي كافة مناحيالحياة الاجتماعية، إلى درجة تجده استهلاكيا حتى على المستوى العقدي (تدين على المقاس)، ولهذا يمكن وسمه ب”الحيوان الاستهلاكي” على غرار باقي التحديدات المركبة التي عرف بها مند المرحلة اليونانية، فإنسان اليوم تم سلبه من كل مقومات أنسنتهوشروطها الموضوعية بداعي ال”الموضة” و الانخراط في “المتاح” للبشرية جمعاء،و لهذافموازين القياس قد تغيرت بين الأمس واليوم؛ فبعدما كان الإنسان إمكانا من الممكنات المحتمل وقوعها استنادا إلى ما يملكه من حرية وتحرر و سعي وإرادة نحو تقرير وبناء المشروع الذاتي بتعبير سارتر؛ فإن إنسان اليومتم تحديد سقف ممكناته سلفا من طرف شركات ومقاولات عابرة للقارات والتي تجد شرعيتها في بعض الرؤى السياسية والاقتصادية المهيمنة (نموذج البراغماتية اللاأخلاقية)، التي تعمل على تعليب الثقافة والفكر والحلم في أنساق جامدة وجاهزة للتبني والاستهلاك.
إن الوضع الاستهلاكي الذي صار يحياه الإنسان المعاصر أدى إلى استنساخ أنطولوجي وفنومينولوجي للكائن واختزاله في فكرة “النموذج المثالي”، على نمط الإنسان ذو البعد الواحد بتعبير ماركوز؛ ولعل هذا هو السبب وراء تفشي النزعة الفردية والإغراق في ذاتية الكائن إلى حد الأنانية المفرطة والجاحدة، هذه الأنانية تجسدت واقعيا في غياب شبه تام لنقيضها الشرعي “التضامن” من حيث هو فكرة فلسفية وقيمية تجعل الوجود المشترك في الفضاء العام والخاص ممكنا ورحبا.
لم يعد بإمكان الإنسان الاستهلاكي اليوم أن يتخلص من النموذج المثالي الذي رسم له سلفا إلا بمقاومة وممانعة مسلحة بفكر فلسفي وأخلاقي يؤمن بالمصير والقدر المشترك (لجميع من في الوجود، إنسان وغيره) وانطلاقا من نقد جذري لفكرة الأنا المتضخمة والمنغلقة على ذاتها باعتبارها مركزا تؤول إليه حقيقة العالم ويتخذ معناه وقيمته من خلالها. هذه الأنا التي لطالما كانت مطلبا يرجى تحققه و أفقا للخروج من ربقة الاختزال و ال”نحن” السالب لكل تفرد و تميز و إبداع، و التي جاءت نتيجة لإعادة الاعتبار إلى الإنسان المنسلب في الفترة القروسطية (الغربية)، بعدما فقد حظوته الرفيعة التي كانت تؤمنها له الكنيسة في فكرة “خليفة الله في الأرض” و فكرة “المخلص” النابعة من تصور كوسمولوجي ينبني على مركزية الأرض في الكون التي تترجَم إلى مركزية الإنسان و تربعه على عرش الموجودات، والتي تجد جذورها في الفكر اليوناني؛ لكن محاولة فك الارتباط مع الفكر اليوناني/المثنالأرسطى ستقلب فكرة النظام الكوني من مركزية الأرض إلى مركزية الشمس، و حينها ما كان يعتبر مركزا (الإنسان) صار علىالهامش، و فقد مكانته الاعتبارية و أصبح يعيش نوعا من “الشرخ” بلغة دولوز.
إن محاولة الإنسان لربأ الصدع ولملمة الشرخ جعله يتخذ من الشك والبحث التجريبي مناهج له لفهم حقيقة العالم بما في ذلك حقيقة روحه. وانتصارا لذاته التي صارت مهمشة، عمل على محاولة استرجاع مكانته الرمزية التي فقدها عقب قلب النظام الكوسمولوجي مع (كوبيرنيكوس؛ غاليلي؛ نيوتن…)، و تلك هي قصة الحداثة و التحديث التي هيمنت على ثلاثة قرون من تاريخ الفكر الإنساني، وإن شئنا اختصارا قلنا إن الحداثة (بمعناها العام) لم تكن إلا رد فعل لرد الاعتبار للذات البشرية المشروخة و التائهة التي اعتادت الاتكاء والارتكاز على أسس صلبة (أرخميدس)، والتي سوف تجدها في فكرة “الذات” المسكونة بروح الهيمنة والمركزية “الأوروبية”، ولهذا فالتحالفات التي وقعت بين دول الاتحاد الأوروبي تجد مرجعيتها في هذه الفكرة المسكونة بروح الهيمنة والسيطرة وفرض الذات على العالم على جميع المستويات (الاقتصادية، السياسية، الاجتماعية…)، وبالتالي فرض نمط عيش معين تتم محاكاته بوعي شقي من طرف مجتمعات وُسمَت ب”النامية”؛ وهو ما يعنى أن الحداثة – على الرغم- من شعارها المغري من حيث محاولة فك الارتباط مع الماضي الأرسطى/القروسطي الذي يجثم بتصوراته الدوغمائية على الفكر الإنساني عموما، قد سقطت في نفس ما كانت تدعو إلى التخلص منه. فلم تعمل إلا على استبدال أساس صلب في الماضي (الفكر الكنسي – الإجماع) بأساس صلب أخر في الفترة الحديثة (الأنا المتضخمة).
لعل من بين القناعات التي جعلتنا نعتقد بأن الفكر الحديث فكر “دوغمائي” على غرار الفكر القروسطي، هو ما يتجسد اليوم على أرض الحياة المعاصرة، على اعتبار أن الحداثة مشروع لم ينتهي بعد (هابرماس).وأن ما يؤكد هذه القناعة هو ما نعيشه اليوم في القرن الواحد والعشرين على مستوى الحياة الاجتماعية والسياسية المعاصرة المهووسة بفكرة الأنانية والمصلحة الخاصة على حساب كل ما هو عمومي ومشترك، الأمر الذي خلق تشوهات أنطولوجية وسيكولوجية في صميم إنسانية الإنسان، الذي صار يسعى بكل الأمور المتاحة (مشروعة وغير مشروعة) من أجل فرض الذاتوبسط السيطرة استجابة لفكرة رد الاعتبار المفقود أنفا، وهذا ما تجلى في بعض الكيانات الشمولية كالنازية والفاشية وغيرها.
وبعيدا عن نظرية المؤامرة، وعن أي مركب نقص اتجاه ثقافة الآخر، فإننا نعتقد بأن جائحة “كوفيد 19” أحيت (بقدر ما أماتت) فينا هذا الهم المشترك في الوجود النابع من قيمة التضامن، فصرنا ملزمين بالتفكير الجدي والعملي في مصير الفقراء والأرامل واليتامى والمعدومين والمعذبين في الأرض باعتبارهم جزء من الوجه العام للمجتمع، يؤثثون فضاءاته، ويصرخون في صمت تشي به نظراتهم الذابلة وحركاتهم المتثاقلة التي أعيتها مكابدة الزمن. فإلى متى هاته الأنانية الجذرية؟ ومتى يستفيق الضمير الإنساني من سباته العميق؟
من أجل الخروج والفكاك من الأنانية التي حولت الإنسان المعاصر الى آلة استهلاكية ودمية تحركها إرادات تجارية رأسمالية لتحقيق الربح المادي السريع والتي اختزلت الإنسان في معادلة رياضية قابلة للحساب والضبط، لابد من إحياء فكرة التضامن والعدالة الاجتماعية الكونية من حيث هي فكرة تعترف بالمصير المشترك لجميع الموجودات وبالحق الكوني في الحياة الخيّرة والسعيدة لكل إنسان مهما كانت خلفيته، والنأي عن كل محاولة تسعى إلى استنزاف مقومات الشرط الوجودي للإنسان،وذلكبإعادة الاعتبار إلى كينونة الكائن المنسلب. وهذا ما تنبه إليه مجموعة من المفكرين و”الفلاسفة” الذين انتقدوا فكرة التمركز حول الذات، بجعلها منقذفة في الفضاء العمومي، ومشاركة في فهمه وبنائه؛ فالفلسفة في نظرهم قد انزاحت وانحرفت عن مهمتها الأساسية التي تمثلت في النقد وفي كيفية تدبير الاختلاف والاعتراف بالمصير المشترك للجميع، ولذلك عملوا على الحفر في جذور هذا الانزياح بغاية تقويم الاعوجاج الذي طال مهمة الفكر الإنساني. ومن أمثلة هؤلاء الفلاسفة والمفكرين نذكر:(إدموند هوسرل؛ مارتن هيدغر؛هاربرتماركوز؛ يورغنهابرماس؛ أكسيلهونيت).
أولا: إدموند هوسرل (1859-1938)
حاول هوسرل في كتابه “أزمة العلوم الأوربية والفنومينولوجياالترنسندنتالية” أن ينتقد ويبين حدود ما تسعى إليه العلوم الوضعية باعتبارها تتويجا لمسار المنهج العلمي الصارم الذي حقق إنجازات مبهرة على مستوى الموضوع الطبيعي (المادة)، غير أن هذا المنهج قد اختزل فكرة العلم في العلم بالوقائع فقط، مما خلف أزمة له على مستوى الموضوع الحيوي (الحياة)، يقول هوسرل :”إن علوما لا تهتم إلا بالوقائع تصنع بشرا لا يعرفون إلا بالوقائع“[2]، وبالتالي تصير “الحقيقة العلمية الموضوعية هي مجرد تسجيل لما هو العالم، سواء العالم الطبيعي أو الروحي، في الواقع. لكن هل يمكن في الحقيقة أن يكون للعالم وللوجود البشري فيه معنى إذا كانت العلوم لا تعتبر حقيقيا إلا ما يقبل الملاحظة الموضوعية بهذه الكيفية؟ […] إن الأمر كان دائما وسيكون دائما هكذا؛ أن العقل سيصبح من جديد عبثا، وأن النعمة ستصبح نقمة“[3]؛ وليس في هذا انتقاد لكل ما هو عقلي أو منظم وخاضع للمنهج الصارم، ولكن انتقاد لكل محاولة تبتغي إضفاء النظام على اليومي والتلقائي/المعيش، ولهذا فالعلوم الوضعية اعتبرت علوما اختزالية تروم التعميم وضبط الواقع، وهو هوس جعل النزعة العلمية المغرقة في الصرامة تقصي التجربة اليومية للمعيش، وتتخلى عن تلك الأسئلة الأنطولوجية والأخلاقية المؤسسة لكينونة الكائن من قبيل: ما الإنسان؟ ما مصيره؟ ما الخير؟ ما الحرية؟ ما السعادة؟ وكيف يمكن تدبير الوجود المشترك؟ … فنسيان هذه الأسئلة من طرف العلم الموضوعي أدى إلى نسيان الوجود والاهتمام فقط بالموجود.
ثانيا: مارتن هيدغر (1889-1976)
سار هيدغرإلى جانب أستاذه هوسرلفي نفس المنحى الذي يقوض مبادئ ونتائج المنهج العلمي الصارم، ولكن تفرد فيلسوف “الكينونة والزمان” نابع من تصور أصيل بأن مسار الفلسفة والفكر غير محدد سلفا، وإنما يتم رسمه بالتزامن مع عملية التفكير في الوجود المنسي والمتواري خلف سيطرة النزعة النظامية للكون، أي خلف سيطرة التفكير التقني والأداتي الذي حول الكائن البشري إلى رصيد للطاقة قابل للاستنزاف والاستهلاك، يقول هيدغر:” في عصر سيطرة التقنية الحديثة لا توجد موضوعات، أي كائنات قائمة قبالة الذات التي تتمثلها، بل فقط أرصدة، أي كائنات جاهزة من أجل الاستهلاك، أي من أجل استعمالها عن آخرها في استحضار آخر، إن الكائن ينظر إليه أساسا بصفته ما يقوم رهن الإشارة من أجل استهلاكه في تخطيط الكل. لم يبق هناك في حياتنا اليومية موضوعات، بل فقط مواد للاستهلاك توجد رهن إشارة المستهلك الذي يندرج هو أيضا في عملية الإنتاج والاستهلاك”[4].
معنى ذلك أن سيادة التفكير التقني جعلتنا أمام الكائن لا ككشف وتجلي وإمكان وأفق للتحقق، وإنما كاستثارة وتواري، بل الأكثر من ذلك أمام رصيد قابل للاستهلاك؛ حيثتم اختزال الكائن البشري في صيغة فيزيائية (ADN)، وكرقم تسلسلي (رقم تأجير) في النظام المقاولاتي،لأن غرض النزعة العلمية والتقنية هو الاختزال والقياس والضبط الرياضي. وانطلاقا من هذه الزاوية صارت علاقاتنا اليومية مجبولة على الأنانية والذاتية والنفعية المنتشية باستهلاك حضور الآخرين، فصرنا نشاهد واقعا نمطيا يربط الحضور والقيمة بالمردودية والفعالية المادية، وبالتالي اختفاء كل ما هو إنساني من رحبة الوجود.لكن وكما يقول هيدغر نفسه على لسان هولدرلين: (حيثما يكون الخطر،ينمو المنقذ أيضا). وبالتالي فإن مهمة المفكرين اليوم تحددت كنقد وكمقاومة للرداءة والابتدال وتعميق السؤال في القضايا التي من شأنها طمس إنسانية الإنسان.
ثالثا: هاربرت ماركوز (1898-1979)
وفاء منه لمشروع “النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت” -باعتباره من رواد جيلها الأول-حاولماركوز نقد العقل الأداتي/التقني على غرار معاصره هيدغر، غير أن الاختلاف بين نقد كل منهما يكمن في أن الأول حاول نقد التقنية في صورتها الميتافيزيقة والفلسفية، في حين أن نقد الثاني تم على مستوى التحليل الاجتماعي، ولهذا يعتقد ماركوز “أن مسألة التقنية لا تطرح قضية الوجود، من المنظور الفلسفي الأنطولوجي، وإنما تطرح قضية الموجود (أي الإنسان) الذي يعيش في سياق شروط ملموسة وواقعية“[5].
ومعنى ذلك أن المشروع التقني للحداثة صار ينحو منحىالشمولية وتنميط المعيش وإفراغه في قالب جاهر للتبنيبغرض السيطرة والهيمنة ونبذ كل ما عداه، لذلك وُسم هذا العصر بعصر نسيان الوجودوفقدان الشرط الوجودي للكائن المتمثل في الحرية والانعتاق من كل تصور كلي ملزم؛ على أن شعار الحرية عدّ من أهم المطالب التي حملها عصر الحداثة، غير أنه لم يبقى وفيا لهذا الشعار فانزاح عن مهمته التنويرية، ليسقط في نفس ما كان يدعو إلى تجاوزه (السلب).
وإن من مفارقات المجتمع الصناعي الحديث أنه بقدر ما يحررنا من الخوف والفقر والوحدة … فإنه يجعلنا عبيدا للتكنولوجيا والأنظمة التوليتارية، وكائنات استهلاكية تعيش على الكماليات التي صارتفي مرتبة الضروريات، كائنات تتم مراقبتها تكنولوجيا ويتم إلهاؤها إعلاميا وتدجينها حتى صارت نسخة لنموذج معد سلفا، يقول ماركوز:” لقد أشرت إلى أن مفهوم الاستلاب يصبح إشكاليا عندما يتوحد الأفراد مع الوجود المفروض عليهم ويجدون فيه تحقيقا وتلبية، وهذا التوحد ليس وهما، إنما هو واقع. بيد أن هذا الواقع لا يعدو هو نفسه أن يكون سوى مرحلة أكثر تقدما من الاستلاب. فهو قد أصبح موضوعيا تماما، وباتت الذات المستلبة مبتلعة من قبل وجودها المستلب. ولم يعد هناك غير بعد واحد ماثل في كل مكان وتحث شتى الأشكال، ومنجزات التقدم بالذات تحول دون طرحها على بساط البحث إيديولوجيا كما تحول دون تبريرها. والوعي الزائف لعقلانيتنا قد أصبح أمام محكمته الذاتية هو الوعي الصحيح”[6].
بهذه البساطة فقد الكائن كرامته وقيمته وصار يلهث وراء تقليد النموذج بنوع من الاستلاب. هذا الاستلاب والنظرة الأحاديةللواقع هو ما رسم ملامح المجتمع المعاصر (المجتمع المغلق) الذي يؤول إلى منطق السوق وإلى إرادة النظام المسيطر اقتصاديا وصناعيا، والذي على ضوئه تحددت قيمة الإنسان (كشخص وكنظام سياسي منغلق على ذاته) وفقا لقانون البقاء للأقوى.
رابعا: يورغن هابرماس (1929-…)
تابع هابرماس[7]مهمةتنفيذ المشروع النقدي لمدرسة فرانكفورت من خلال نظريته في “الفعل التواصلي”،وهي نظرية تسعى إلى تحرير الفكر المعاصر من النزعة الوضعية ونقد جذرية الأنا أو (نقد العقل الأداتي)، ولهذا فإن “هابرماس في إلحاحه الحاسم على النقد وفي طعنه في الأسس الأيديولوجية للنزعة الوضعية العلموية، وفي محاكمته للعقلانية التقنية و تبرمه من الكليانية النسقية، و في تأكيده على مسألة المصلحة في الممارسة العلمية وقوله بالتحرر.. بل وفي صياغته لنظريته في المجتمع. كل هذه الاعتبارات تجعل مشروعه الفلسفي يمتلك أبعادا سياسية واضحة. كيف لا وهو يريد استئناف التفكير في العقل الأنواري والابتعاد عن تشاؤمية مؤسسي النظرية النقدية وتأسيس نظرية للحداثة والقول بعالم تواصلي بدون ضغط، بل الحديث عن الإجماع (والأخلاق التواصلية) و(الأخلاق الكونية السياسية) و(المجال العمومي) و(السيادة الشعبية)…إلخ“[8]، بمعنى أن الرهان من راء تأسيس العقل التواصلي هو خلق فضاء عمومي تكون فيه الذات متحررة من كل ضغط و منفتحة على الآخر وحاملة للهم المشترك في بناء مجتمع متماسك قائم على التفاهم والتعاون والتضامن (وهو ما يسمى بالتذاوت)، مجتمع متعقل تنصهر فيه الإرادات الفردية لتشكل إرادة عامة أساسها السيادة الشعبية.
وبناء عليه، فإن الغرض من تأسيس أخلاقيات المناقشة لدى هابرماسهو سيادة التضامن باعتباره الوجه الآخر للعدل، والذي لن يتحقق إلا بتقليص النزعة الأنانية من الفضاء العمومي وتحقيق الاندماج الاجتماعي، هذا الأخير لا ينتج إلا عن تنازل الفاعلين الاجتماعيين عن إراداتهم ومصالحهم الخاصة لصالح الوجود العمومي المشترك، وأن هذا التنازل يتم بحرية واستقلالية ووعي بفكرة العدالة الاجتماعية التي من شأنها أن تحافظ على اللحمة المجتمعية، “فبدون هذه الحرية الذاتية التي تشير إلى العدالة في معناها الحديث، وبدون تضامن، الذي يقتضي تقاسم القواعد المشتركة بين أفراد المجتمع، لا يمكننا أن نلتزم بحل يستحق اتفاقا كونيا. فإجراء تشكيل الإرادة على أساس المناقشة يأخذ بعين الاعتبار العلاقة الداخلية بين الحرية الفردية اللامحدودة والتضامن”[9].
يقابل هابرماس، إذن، في أطروحته حول أخلاقيات المناقشة بين الحرية الفردية اللامحدودة التي جاءت كإفراز من إفرازات الليبرالية الجديدة وبين التضامن كفكرة أخلاقية وسياسية من شأنها أن تقوّم الاعوجاج الذي لحق مسار الحداثة والتحديث.وعليه فالتضامن الذي يؤثث له هابرماس يتخذ صبغة كونية ويتجاوز الحدود الجغرافية والإثنية والسياسية؛ تضامن يوسع دائرة المعيش ويعترف بحقوق الأقليات ويجعلها مشاركة في بناء الفضاء العام.
خامسا: أكسيل هونيت (1949-…)
يعتبر هونيث من رواد الجيل الثالثفي النظرية النقدية لمدرسة فرانفكورت، بالإضافة إلى أنه يشتغل حاليا مديرا لمعهد فرانكفورت الذي يهتم بمواصلة المشروع النقدي لهذه المدرسة، ولذلك فإنه يدافع عن أطروحة سماها ب”الصراع من أجل الاعتراف”، وهي أطروحة تقتبس من فكر هيجل (الشاب) حول مسألة “نزع الاعتراف” بين العبد و السيد، و تقتبس كذلك من فكرة عالم الاجتماع هربرت ميد حول الاعتراف والتي مفادها أنه لا يمكن أن نطور الوعي بالذات بدون الاعتراف بالآخر، ولذلك فهذهالأطروحة تسعى إلى نقد المظاهر المرضية التي يعرفها المجتمع المعاصر، ومنها الشعور بالظلم والازدراء والاحتقار والإهانة وعدم الاعتراف؛ وارتباطا بهذا “يرى هونيث أن الاعتراف المتبادل الكفيل بوضع حد للصراعات الاجتماعية القائمة على السيطرة و الهيمنة و الظلم الاجتماعي، و من ثمة يستطيع الأفراد تحقيق ذواتهم و هويتهم ضمن علاقات تذاوتية مرهون بتحقيق ثلاثة نماذج معيارية متميزة للاعتراف و هي الحب والحق والتضامن“[10]، ذلك أنّ من شأن هذه النماذج المعيارية أن تخفف من معاناة الطبقات المهمشة، وأن ترفع الظلم الاجتماعي الذي تعاني منه طبقات اجتماعية واسعة.
إن الحداثة العلمية والتقنية التي صار يشهدها العالم المعاصر قد عمقت من حدة التفاوتات الطبقية التي يعرفها المجتمع المعاصر، والتي جعلت إنسان هذه المرحلة وحيدا ومنعزلا ومأزوما أمام ثقافة معلوماتية واستهلاكية لا تعترف إلا بالمردودية المادية والإنتاجية على حساب كل ما هو نبيل وخير وإنساني، وعليه صار الكائن البشري في ظل هذه الوضعية ذليلا ومحتقرا وطغت عليه مشاعر الغضب والعنف وفقدان الكرامة والإحباط، مما جعله عرضة للاستغلال من طرف بعض المقاولات الإنتاجية أو بعض الجماعات المتطرفة إرهابيا، والتي يظن بأنها ستعوضه النقص الذي يعيشه على المستوى الوجودي و الأخلاقي.
على هذا الأساس تلخصت نظرية هونيث في القول بأنه “لا يمكن بأي حال من الأحوال تحقيق كرامة الإنسان وضمان حقوقه الأساسية والمشروعة أخلاقيا وقانونيا وسياسيا إلا بواسطة مبدإ الاعتراف، وفي هذا السياق فإن صياغة نظرية الاعتراف تكتسي أهمية بالغة عنده، وتلعب دورا مركزيا في إعادة بناء شبكة العلاقات الاجتماعية قصد التخفيف من المعاناة والظلم الاجتماعي والسياسي واللامساواة بين الناس، وكل أشكال الاحتقار و الازدراء و”الأمراض الاجتماعية” و بالتالي تحقيق قيم العدالة و حقوق الإنسان و الحرية في إطار الاعتراف المتبادل“[11]،إن فكرة التضامن الاجتماعي كما نبه إليها أكسيلهونيثتسعى إلىإعادة النظر في النظام القيمي والسياسي والاقتصادي المعاصر، وإلى إعادة ترتيب العلاقات الاجتماعية بين الأفراد على أساس علاقات تذاوت واعتراف متبادل بين فاعلين واقعيين في فضاء متنازع (فيه، حوله، بسببه). وبهذا يمكن ضمان حقوق الإنسان وحفظ هويته وكرامته، ومنه التخفيف من حدة التفاوتات الطبقية والاجتماعية التي بموجبها تنخفض مظاهر العنف والكراهية والاحتقار.
على سبيل الختم:
يتبين من خلال هذا النبش التأريخي في فكرة نقد النزعة الوضعية، أن سؤال التضامن بما هو أساس تقدير الذات ووضعها في مكانها الطبيعي، حاضر في المشاريع الفلسفية المعاصرة، لأن غرض فعل التفلسف مند البداية (المفترضة) هو النقد المستوجبلتدبير الاختلاف بين الفاعلين وخلق فضاء أرحب وسليم تتفاعل فيه الذوات وتتشابك من أجل تذويب الحدود الطبقية والعرقية في أفق كل ما هو إنساني (المواطن الكوني).
وعليه، فإن كل دعوة إلى نقد العقل الأداتي ليست إلا محاولة لإرجاع وظيفة التفكير والعقلنة الى مسارها الصحيح، بعدما فقد العقل بوصلته في ظل المجتمع الصناعي الحديث و المعاصر، ولهذا لا يفهمن من كلامنا عن نقد النزعة الجوهرية للعقل(الأنا) كل ما من شأنه أن يهدم إنجازات البشرية أو العودة إلى حياة الكوخ و الكهف، أو تبخيس قيمة الثورة التي أحدثتها الحداثة واستكملها عصر التنوير، بل إن غرض نقد هذه النزعة في الخطابات الفلسفية المعاصرة هو تصحيح مسار العقل باستمرار والنأي عن كل محاولة لتقديسه أو تحنيطه، وإننا مدينون في هذه الفكرة إلى الفيلسوف امانويلكانط باعتباره أول من دشن مشروع نقد العقل في الفلسفة. فهل استجبنا حقا لاستكمال هذا المشروع؟ وهل نحن مستعدون فعلا للانسلاخ من أنانيتنا المفرطة والانخراط في هموم الفئات الهشة (ماديا ومعنويا)؟ وإلا فأي معنى للإنسانية خارج تقاسم حمل الهم المشترك الوجودي؟
[1]باحث في الفلسفة من المغرب.
[2]إدموند هوسرل، أزمة العلوم الأوربية والفنومينولوجياالترنسندنتالية، ترجمة إسماعيل المصدق ومراجعة جورج كتورة، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، الطبعة الأولى 2008،ص44.
[3] نفس المرجع، ص45.
[4] مارتن هايدغر، كتابات أساسية، الجزء الثاني، ترجمة إسماعيل المصدق، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، الطبعة الأولى 2003،ص159.
[5] كمال بومنير، النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت – من ماكس هوركهايمر إلى أكسيلهونيث– منشورات الإختلاف، الجزائر، الطبعة الأولى 2010، ص60، نقلا عن:
Raulet (Gérard): Herbert Marcuse. Philosophie de l’émancipation (paris : Edition Presses Universitaires de France, 1992), P.126 (بتصرف)
[6]هربارتماركوز، الإنسان ذو البعد الواحد، ترجمة جورج طرابيشي، منشورات دار الآداب، بيروت، الطبعة الثالثة 1988،ص47.
[7] ممثل الجيل الثاني للنظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت إلى جانب زميله كارل أوطو آبل.
[8]محمد نور الدين أفاية، الحداثة والتواصل في الفلسفة النقدية المعاصرة نموذج هابرماس، أفريقيا الشرق، المغرب، الطبعة الثانية1998، ص92.
[9] محمد عبد السلام الأشهب، أخلاقيات المناقشة في فلسفة التواصل لهابرماس، دار ورد للتوزيع والنشر، الأردن، الطبعة الأولى 2013، ص122.
[10]كمال بومنير، النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت – من ماكس هوركهايمر إلى أكسيلهونيث– منشورات الإختلاف، الجزائر، الطبعة الأولى 2010، ص108.
[11] نفس المرجع، ص114.