ترجمةفلسفة

حوار مع أندريه كونت ـ سبونفيل

أجرى الحوار : سيفن أورتوليه

ترجمة: الحسن علاج

” باسكالي ملحد ” ، يحيي المفكر أندريه كونت سبونفيل(André Comte – Sponville)  في مؤلف خواطر  كونه مفكرا تراجيديا . فلدى هذا الفيلسوف بضمير المتكلم في كتابات يخترقها الوميض ، يستحسن الوضوح السياسي ، الاستبصار السيكولوجي ، والوضوح الجذري والمحرر ” في كل الميادين ـ ماعدا الإله .

ــ

واضح ، متشائم ، كافر ، سوداوي ، قلق ، مأساوي ، جزع : أي عبارة تميز باسكال أحسن ؟

أندريه كونت سبونفيل : كل تلك العبارات تقول شيئا ما عنه ، وذلك يجعل منه بالفعل مؤلفا فريدا ! لكن التعبير الأكثر إنصافا و تعبير شاتوريان ، الذي استحضر ” النبوغ المرعب “ لباسكال . مرعب أولا بواسطة غزارة وتنوع مواهبه ، وهي حقيقة مواهب استثنائية ( في الرياضيات ، الفيزياء ، الفلسفة ، علم النفس ، الدب ، الروحية … ) . فبالكاد أرى أن ليبنتز ، من وجهة النظر هذه ، الذي يمكن مقارنته به ،  أقل عبقرية أدبية .  على أن باسكال يعتبر مفزعا أيضا ، وخصوصا ، لأنه قال لنا ! بخصوص وجهة النظر هذه ، من بين الكيفيات التي تقترحون ، ” مأساوي ” هو بدون شك ما يميزه أكثر ، أو من يتجه مباشرة إلى ما هو جوهري . ةلقد لاحظ الفيلسوف الإسباني ميغيل دي أونامونو Miguel de Unamuno) ( ذلك جيدا : باسكال هو أكبر مأساوي “ [ في [كتاب] الشعور الماساوي للحياة ] .

بأي معنى ؟

أندريه كونت سبونفيل : المأساوي ، يقول أرسطو ، هو ما يثير الشفقة أو الرعب 1 . حسنا ، هذا كل شيء : إن باسكال هو أكبر مفكر ماساوي ( نعم ، أكبر بكثير من نيتشه أيضا ) لأنه يبرز ، أكثر من أي شخص آخر ، ما هو مفزع ومثير للشفقة في الشرط الإنساني ! أنتم تعرفون أنني قمت بإجراء تمييز بين نوعين من الخوف : الخشية والرعب . تركز الخشية على الممكن ، مثل الأمل ، وهو السبب في كون أن  الاثنين لا ينفصلان : ” لا وجود لخشية بدون أمل ولا أمل بدون خشية ” ،  كما قال لاروشفوكو في [كتابه] حِكم Maximes ، أو كما قال تقريبا سبينوزا في [كتاب] إيثيقا 2 . يخشون من السقوط مريضا ؟ لذلك تأملون أن تظلوا بصحة جيدة . هل تأملون البقاء بصحة جيدة ؟ لذلك فأنتم تخشون أن تسقطوا مرضى . لا شيء مأساوي : مجرد مخاوف بسيطة ، آمال بسيطة ، ليست ذات شأن يذكر . إن ما أعنيه بالرعب ، هو شيء آخر : خوف لا يركز على الممكن ، كالخشية ، لكن يركز على الواقع ، الضروري أو مما لا مناص منه . كما أن الرعب لا يكون مصحوبا بالأمل ( بما أن ما نخشاه قد ثبت بالفعل ) . ومما لا ريب فيه فإن ما يميزه أكثر : هو خوف مثبط للهمة . لم نعد في ما هو ثانوي ! نحن بعد أمام ما هو جوهري ، الذي هو الشرط الإنساني . فعلى سبيل المثال ، إذا قلت لكم : ” أخشى أن أموت بداء السرطان ” ؛ وستجيبونني : ” تتمنون إذن أن يكون سبب موتكم شيئا آخر ” ، وستكونون على صواب . لا أمل بدون خوف ، و لا خوف بدون أمل . لكن لو قلت لكم : ” أهاب الموت ” ، سوف لن تقولوا لي : ” تتمنون إذن في ألاّ تموتوا … ” بالتأكيد لا ! أنا أعرف جيدا أنني سأموت ! لا يكون الخوف من الموت مصحوبا بأي أمل ، على الأقل في الملازمة : إنه ليس بخوف ، في لغتي ، إنه ذعر . باسكال ، وبدون اللجوء غلى هذه الكلمة الأخيرة ، فقد عبر عنه بعنف :

    ” حينما يتم تخيل عدد من الأشخاص وهم يرزحون تحت قيود ، وكلهم محكوم عليهم بالموت ، فكان بعضهم البعض ، كل يوم يذبحون في نظرة الآخرين ، والبقية ينظرون إلى شرطهم الخاص في نظرة نظرائهم ، ثم ، يواجهون بعضهم البعض في ألم وبدون أمل ، ينتظرون دورهم . إنها صورة الشرط البشري للناس ” [خواطر ، 405 ] .

    فولتير وهو يقرأ هذا النص ، اعترض بان ” إن المصير الطبيعي لرجل ليس في كونه مقيدا ولا مذبوحا “ . ليكن. فلهذا السبب فإن نص باسكال يعتبر نصا استعاريا . لكن ماذا عن الجوهر ؟ يقول لنا باسكال باختصار : ” جميعنا سنموت ! ” ويجيبه فولتير على وجه التقريب : ” ومع ذلك ، السيد باسكال ، إنكم تبالغون … ” حسنا لا ، إنه لا يبالغ ! فقط إنه يضغط هنا حيث إن ذلك مؤلم . بالإمكان التخلص من الاستعارة ، التي يجدها فولتير ” غير منصفة “ . ماذا يغير هذا في ما هو جوهري ؟ لا شيء ، وهو ما تشير إليه شذرة أخرى ، هذه المرة بدون أي استعارة ، فعلى الأقل يتعلق الأمر بالموت : ” المشهد الأخير دموي ، مهما كانت الكوميديا جميلة في كل شيء آخر . أخيرا نهيل التراب على الرأس وهذا كل شيء إلى الأبد ” [154] .

    لا وجود سوى للموت الذيي يككون مساويا أو مصدرا للرعب ، بالمعنى الذي أفهم به الكلمة . فعلى سبيل المثال ، عندما كتب باسكال بروعة : ” الصمت البدي لتلك الفضاءات اللامنتهية يخيفني ” [187] . هل كان يأمل من أن تلك الفضاءات تشرع في الكلام ؟ لا بطبيعة الحال ! ليس ذلك قلقا ، إنه رعب . وكذلك حينما كتب ، بخصوص رغبتنا في السعادة : ” نحن لا نعيش أبدا ، إنما نأمل أن نعيش “ ، بحيث أننا نتصرف دائما على أن نكون سعداء ، ومن المحتم أننا لن نكون ذلك أبدا ” [43] . إن هذا “المحتم ” وبحكم تعريفه ، فو لا يترك أي شيء لانتظاره ، على الأقل من أجل هذه الحياة ! يسير المرء من الأمل إلى خيبة الأمل إلى أمل جديد ، ” وهكذا فإن الحاضر لن يكون مرضيا أبدا ، التجربة تخدعنا ، ومن تعاسة إلى تعاسة تقودنا حتى الموت الذي هو قمة أبدية لذلك ” [138] . إن ذلك الهروب السرمدي نحو الممكن ( أمل ، قلق ) ، هو  حقيقة حياتنا ( رعب ، شفقة ) . هل هكذا يعيش الناس ؟ نعم ، هكذا . لابد إذن من تمني ” حياة أخرى ”  [398] ، كما فعل باسكال هو نفسه ، أو أن نتوقع أن باسكال كان على خطإ ، كما يعمل غالبية الناس . هل هذا كل شيء ؟ لا . ثمة موقف ثالث ممكن : بإمكان المرء كذلك القبول بمواجهة ما صرح به لنا باسكال حول الوضع البشري ، ومن دون السير على خطى إيمانه ، دون السعي وراء تعزية أو طمأنة . إننا إذن في مواجهة مأساة خالصة . فمن منا انطلقت ، لما بدأت في التفلسف … 

ماذا مثل في مسارك الفكري ؟ عائقا لتجاوزه ؟ معنى للمأساوي من أجل تملكه ؟

أندريه كونت سبونفيل : الاثنان معا ! لقد قرأت الخواطر في وقت مبكر جدا ، في 16 أو 17 من عمري ، مع شعور بتقارب شديد : لم يسبق لأي مؤلف برز للتعبير عما هو جوهري وبقوة . في ذلك العهد ، كنت مؤمنا . على أنه لما أعدت قراءة خواطر باسكال ، بعد بضع سنوات ، بالمدرسة العليا للأساتذة ، أصبحت ملحدا ، وبقي الشعور بالقرب هو نفسه ! فقط ، أصبح المأساوي أكثر جذرية ، أكثر صلابة ، قطعيا أكثر . ومع ذلك ، فقد كان ينبغي بذل مجهود للعيش … لقد سعيت بالبحث إذن لدى الفلاسفة ، وفي بادئ الأمر لدى أبيقور وسبينوزا ، عما الذي يمكن فعله لتحويل هذا اليأس إلى سعادة بقدر الإمكان . ولقد توصلت إلى حد ما غلى ذلك ، فكريا ، من قبل أن تقودني الحياة ومنتاني Montaigne) ( إلى المأساوي وإلى باسكال . وقد يحدث لي بأن أصف نفسي مثل ” باسكالي ملحد ” ، وربما فإن هذه المفارقة هي التي تميزني إن لم يكن الأفضل (لأني ظللت أكثر قربا ، فلسفيا ، من أبيقور أو سبينوزا ) ، على الأقل من الطريقة الأكثر حميمية . لازلت أعشق مونتاني بشكل أفضل ، لكن ، لسوء الحظ ، فأنا أكثر قربا ، على المستوى النفسي ، من باسكال !

ما هو الشيء الأكثر تميزا بالنسبة لكم ، لدى باسكال : تأمل الإيمان ؟الكلبية الواضحة بخصوص حب الذات ؟ دقة تحاليله النفسية ؟ بؤس الإنسان ؟

أندريه كونت سبونفيل : حينما كنت مؤمنا ، الإيمان أولا ، بطبيعة الحال ، أعني ” يدرك الله بالقلب ، وليس بالعقل ” [a397 ] ( فحتى في مراهقتي الورعة لم أؤمن أبدا بالبراهين المزعومة لوجود الله ، ولا كنت أعطي كبير اهتمام للبعد التبريري للخواطر ) . ثم النقد ، نقد صارم للغاية ، لحب الذات ، لل؟أنا ؟ ، كم قال باسكال ، بمعنى [نقد] للنرجسية ، للأنانية ، لمركزية الذات . من تم بؤس الإنسان : أقل ما نحن عليه وما نستطيعه . أيضا الوضوح المخيف لفكره السياسي ، الذي يقول إلى حد ما عكس ما يرغب الجميع الإيمان به . أخيرا ، وربما بشكل خاص ، التعمق النفسي العجيب لباسكال ، لاسيما حول ثيمة ال” تسلية ” : كل ما نفعله ، عمل أو وقت الفراغ ، لنسيان ” الشقاء الطبيعي لشرطنا الهش والمميت ، والأكثر بؤسا أن لا شيء يستطيع تعزيتنا لما نفكر فيه عن كثب “ ( على سيبل المثال لا الحصر شذرات رائعة 136 ـ 139 [في طبعة لافوما Lafuma ] بخصوص التسلية ) .  يوجد لدى باسكال نوع من نزعة إنسانية نظرية مضادة ، كما لاحظ ذلك جيدا هنري غوهييه Henri Gouhier)  ( [ النزعة الإنسانوية المضادة في القرن السابع عشر ، [ 1987 Vrin, . وقد نعته فولتير ذلك ب” كره سام للبشر “ . إنه أمر مبالغ فيه ، غير أن الحقيقة هي أن باسكال ، بإدراكه لعظمتنا ، فإنه لم يتوقف عن تذكيرنا بضآلتنا ، بخيلائنا ، بجورنا . الإيمان بالإنسان ؟ قليل جدا بالنسبة إليه ! لا يؤمن باسكال سوى بالله . وبخصوص الأشياء الأخرى ـ ، الإنسانية ، السياسة ، الفلسفة ، العلوم ـ ، فهو يتمتع بجحود جذري ومتحرر !

يقدم كتاب الخواطر نفسه مثل شذرات منفصلة . هل هو فكر لا نظام له ؟ أو هو فكر الفوضى ؟  

أندريه كونت سبونفيل : من المحتمل أن هذا الانفصال يدين بشيء ما إلى موت باسكال المبكر . فلو كان قد تمكن من إكمال [كتاب] دفاع عن الديانة المسيحية فسوف يتم تقديمه في شكل منظم أكثر ومستمر ، فيما يتعلق على سبيل المثال بكتاب الرسائل الريفية . على أنه ثمة شيء آخر ، يلامس صلب الموضوع . فقد كان باسكال عالم رياضيات لامع كي يؤمن ب” ترتيب الأسباب ” في الفلسفة . تتذكرون حكمه المقتضب حول ديكارت ، ” عديم الجدوى وغير مؤكد ” [702] !  وهو ما أعلنه في الشذرة 532 [دار نشر لافوما] ، التي يمكن أن تكون بمثابة مقدمة أو عبارة توجيهية للخواطر :

    ” لقد دونت هاهنا خواطري لا تخضع لأي ترتيب ، وليس ضمن غموض بغير قصد . إنه النظام الحقيقي والذي سوف يسجل على الدوام موضوعي بواسطة الفوضى ذاتها . سافرد اهتماما بالغا لموضوعي لو عالجته بنظام ، بما أنني أرغب في إبراز أنه كان يفقد القدرة على ذلك . “

دعونا نقول أن المرض والموت ، اللذان يوقفانه في منتصف الطريق ، قد شددا على هذه الفوضى المبدئية . أحيانا يخالجني التفكير إلى حد أن هذا الانفصال يعمل مثل جمالية تكميلية . لم يخطئ نيتشه في ذلك !الكتب الأكثر عمقا والتي لا ينضب معينها ، كتب في عام 1885 ، لا ريب أنها تتمتع على الدوام بخاصية حكمية وبشكل مفاجئ خواطر باسكال . “3 على  أن قلة هي من ستتوفر على نفس الكثافة ، نفس الحيوية ، نفس التوهج ! يذهب باسكال مباشرة إلى ما هو ضروري ، بدون مقدمات ، بدون انتقالات ولا احتياطات . فهو يتصرف بواسطة براهين منها من اللمعان . مسألة مزاج ؟ ليس فقط . إن باسكال واضح للغاية حول حدود العقل لاتخاذ البراهين على محمل الجد ، لاسيما في الفلسفة . ” قد تكون ثمة براهين حقيقية ، لاحظ ذلك ، لكن ذلك ليس مؤكدا ”  [468]. وفي الواقع ، فإن ذلك لا يبرهن عليه ـ بما أن أي برهنة تفترض ذلك . ” كذلك ، يضيف باسكال ، إن هذا لا يبرز شيئا آخر ، إن لم يكن من الأكيد أن كل شيء يكون غير مؤكد “ ـ ثم يضيف بنبوغ : ” لمجد البيرونية “ ، أعني [مجدي] النزعة الشكية ! هذا هو كل شيء : إن العقل عاجز عن بلوغ المطلق ؛ الإنسان غير قادر على النظام ؛ فهو ” لا يمتلك القدرة لا على أن يعرف ولا الطموح إلى أن يعرف قط . […] و حتى أنه قادر على الشك ”  [71] مطلقا ! إن شكل [كتاب] الخواطر  ، من خلال وجهة النظر هذه ، حتى ولو كان عارضا جزئيا ، فهو مطابق لمحتواه !

إنسان في بحث عن الحقيقة ، إنها فضيلة ، كمثل فضيلة مونتاني ، ديكارت أو نيتشه ؟

أندريه كونت سبونفيل : إنها فضيلة كل فيلسوف ، وفضيلة كل مثقف جدير بهذا الاسم ! ” أولئك الذين لا يحبون الحقيقة ” [165] ، كما قال باسكال ، أي ثقة تُمنح لهم ؟ ” ما لم تحب الحقيقة ، لا يمكنك معرفتها ” [627]  . لكن الحب غير كاف ! وهذا ما يجعلنا في حاجة إلى معان ، مبادئ ، إلى التجربة ، العقل ، العلوم ، الكل ضروري ، الكل ليس كافيا ، لكنه موثوق جدا من أجل تقدم المعرفة . انحاز باسكال ، من وجهة النظر هذه ، بجرأة إلى المحدثين ضد القدماء ، وقد أصاب ! ” ينبغي على الحقيقة أن تتمتع دوما بالأفضلية ” ، لاحظ ذلك في [مقدمة لدراسة الفراغ ] ، كما أننا نعرفها تدريجيا ، بفضل تقدم العلوم . فقط ، الحقيقة ليست هي الله . وهذا ما يجعل باسكال ، عالما عظيما ، معارضا لعلموي . ” الحقيقة خارج الشفقة ليست الله ” [721] ، يتذكر . وبما أن الله محبة ، وبما أن الحقيقة ، في ذاتها ، سوف تكون كذلك .

لكن تعريفه للحقيقة أكثر حداثة ؟

أندريه كونت سبونفيل : [تعريف] الحقيقة ، لا ، بل [تعريف] المعرفة ! إن قول الحقيقة ، بالنسبة لباسكال كما هو الحال بالنسبة لأي كان ، هو قول ما هو موجود مثل هذا الموجود . لقد كان صائبا . ماعدا أنه يلاحظ أنه يتعذر على المرء التوصل إليها مطلقا ، ولا حتى مع اليقين ! ” لا تتوفر لا على الحقيقي ، ولا بشكل جيد ، جزئيا ، وممزوج بالشر والخطإ “ [707]  ، كتب . على خلاف ذلك ، نستطيع الوصول إلى الخطإ ، وهو ما يسوغ لنا التقدم ! فهاهنا جذور لإبستيمولوجيا شبه بوبرية (نسبة إلى كارل بوبر ) : فلا شيء بالنسبة إلينا ، ” ليس صحيحا بشكل خالص ، وبالتالي فلا شيء حقيقي عن طريق سماعه من الحقيقي البحت ” ؛ لكننا ” نعرف الخير والشر والخطأ ” [نفس المرجع] . وهو ما سمح بتقدم العلوم ، ليس من الحقيقة إلى الحقيقة ، كما كان يطمح ديكارت إلى ذلك ، بل بالتركيز على ما تمت برهنته أو تم اعتباره خاطئا : يتم اعتبار كل ما هو حقيقي على الأقل مؤقتا وعلى وجه التقريب ، كل جملة يعتبر سلبها محالا او مناقضا للتجربة . في شأن ذلك لاحظوا الرسالة إلى الأب نويل Le Père Noel) ( لعام 1647 (هذه ليست مزحة ، بل رسالة كتبها باسكال إلى قس كاثوليكي ، يدعى إتيان نويل Etienne Noel) ( . أعلى فيها [الرسالة] باسكال بنبوغ عن مبدإ أساسي للمنهج التجريبي ، مشيد على ما سوف يدعوه كارل بوبر ” اللاتماثل بين قابلية الاختيار Vérifiabilité)  ( والقابلية للتكذيب falsifiabilité) (. سوف لن تكفي عشرة مليارات من لوقائع أبدا على أن نثبت أن فرضية ما صحيحة ؛ على أن واقعة واحدة كافية لإثبات خطإها . وهو ما لاحظه باسكال : ” من اجل العمل على أن فرضية تكون بدهية ، فلا يكفي أن كل الظواهر تنتج عنها ، بدلا من ، فإذا صدر شيء ما مناقض لظاهرة من الظواهر ، ذلك يكون كافيا للتأكد من خطإه ” 4 . لابد أيضا من استحضار نظريات التعقيد ، الراهنة جدا ، التي لطالما قام إدغار موران Edgar Morin) ( باختزالها في جملة لباسكال ، يحلو له تكرارها ظهرا عن قلب : ” وهكذا ، فإن كل الأشياء تكون متكلِّمة ومتكلَّمة ، متعاوِنة ومتعاوَنة ، مباشرة وغير مباشرة ، وكلها تتواصل عبر رابط طبيعي وفاقد للحس يصل الأكثر بعدا والأكثر اختلافا ، أعتقد أنه من المستحيل معرفة الأجزاء دون معرفة الكل ، لا أكثر من معرفة الكل دون معرفة الأجزاء بشكل خاص ” ب173] . لن نعارض على التو هذا التعقيد بقواعد التحليل والتركيب ، لدى ديكارت ، على أننا نحيي حداثة الجملة !

كيف العيش في القلق ؟ في هذه الحركة الدائمة ، ما هو الجواب عن قلق مثل باسكال ؟ 

أندريه كونت سبونفيل : أولا الإيمان ، بما انه يتمتع به ، ولكن أيضا الوضوح . لماذا نتحرك أكثر ؟ لنسيان النقص الذي نحن عليه ، والموت الذي ينتظرنا  ” معظم شقاء الناس يصدر عن شيء واحد ، ألا وهو ألا يعرف المرء كيف يمكث إطلاقا في غرفة ما ” [126] . لماذا لا نستطيع ذلك ؟ لأن ” لا شيء أكثر إيلاما للإنسان أن يوجد في راحة تامة ، بدون انفعال ، بدون عمل ، بلا تسلية ، بلا اهتمام . فهو يشعر حينئذ بعدمه ، تخليه ، نقصه ، تبعيته ، عجزه ، خوائه .. سوف يخرج الضجر فورا من عمق روحه ، الحلكة ، الحزن ، الكربة ، الغم ، اليأس ” [529] . وهذا هو السبب في ابتكار التسلية ! ” من هناك يتأتى أن الناس يحبون كثيرا الصخب والحركة . […] وهكذا تمر الحياة كلها ؛ يتم البحث عن الراحة بمقاومة بعض المصاعب و ، فإذا ما تم التغلب عليها ، فإن الراحة لا يمكن تحملها ، بواسطة السأم الذي أحدثها ؛ لابد من الخروج من ذلك واستجداء الضوضاء ” [126] . هذا جميل ، أليس كذلك ؟ بطبيعة الحال ، بإمكان المرء التفكير ، مثل فولتير ، أن باسكال يبالغ ، أنه مكتئب ، سوداوي ، مضطرب ، وكل هذا ليس خاطئا . على أن تلك السطور ، بالنسبة لي ، التي أعدت قراءتها عشرات المرات ، تقول شيئا جوهريا ، يؤثر في أكثر من تفاؤل ليبنتز ، أو حتى مثل ثقة ديكارت . تعرفون ماذا قال نيرفال ( إنها فكرة علاوة على ذلك ، يتم العثور عليها أيضا لدى فرويد ) : ” يعاني السوداوي من مرض غريب : فهو يرى الشياء كما هي . “

لا تنقص باسكال الدعابة ، القريحة والسخرية ؟  

أندريه كونت سبونفيل : هذا صحيح ، ويلاحظ ذلك في الرسائل الريفية . يالها من موهبة مجادل ! أو في [كتاب] ثلاثة خطابات حول شرط العظماء ، وفيه يشرح إلى أمير شاب كيف ينبغي على هذا الأخير أن يتصرف كي يكون جديرا بمقامه ، بمعنى المكانة التي يمنحها لحظ إياه ( وليس الأحقية ! ) . ثم يستنتج : إذا ما اتبعت نصائحي ، ” فإنك لن تتوقف عن فقدان نفسك ، ولكن على الأقل فإنك تخسر كرجل شريف “ . بعبارة أخرى : فإن أعظم أمير في العالم لا يكون أقل هلاكا ، إذا كان منخدعا بعظمته ! ياله من درس رائع في الحرية والوقاحة ! ففي الخواطر ، تكون النبرة منخفضة جدا ، أكثر ارتفاعا ، لكن السخرية تظل خفية ، على سبيل المثال لما يستحضر على شاكلة مونتاني الفلاسفة و ” مئتين وثمانين نوعا من العاهل الخير ” [387] ، ما يكفي للسخرية منهم . من ثم ثمة شذرات شهيرة 467 [ دار نشر ميشال لوغيرن ] : ” تسخر الأخلاق الحقيقة من الأخلاق . […] : إن السخرية من الفلسفة لهي التفلسف حقا … “  من جهة أخرى فإن باسكال ينضوي عن طيب خاطر ضمن ما يفضحه ، الذي من خلاله ينتقل من السخرية إلى الدعابة . على سبيل المثال الشذرة التالية ، أن كل فيلسوف ـ وكل قارئ للفلاسفة ! ـ ينبغي عليه أن يتأمل : ” إن الخيلاء متجذر جدا في قلب الإنسان بحيث أن جنديا ، مساعد بناء ، طباخا ، حمالا يتباهى ثم يرغب في أن يكون له معجبون ، والفلاسفة أنفسهم يرغبون في ذلك ، وأولئك الذين يكتبون ضدهم يطمحون إلى الحصول على شرف إجادة الكتابة ، وأولئك الذين يقرؤونهم لهم شرف قراءتهم ، وأنا الذي اقوم بكتابة هذا لدي ربما هذا الطموح ، وربما أولئك الذين سيقرؤونه … ” [534]  

ما رأيكم في ” رهان باسكال الشهير ” ؟

أندريه كونت سبونفيل : رياضيا فالحجة ملائمة ، إن لم تكن هائلة ، على أنها على المستوى اللاهوتي هشة وعديمة الجدوى فلسفيا . من كان يرغب في إخضاع فكرة إلى حساب منفعة ؟ يمكنكم أن تتخيلوا أن ذلك ليس بسبب الرهان أن باسكال يؤمن بالله ؟ تتوجه الحجة إلى الملاحدة ، الذين يطمحون ألا يعيشوا إلا طبقا لمنافعهم الخاصة ؛ وقد برهن لهم باسكال أنهم ، في هذه الحالة ، يمتلكون في حوزتهم كل منفعة للمراهنة بها على أن الله موجود ! ” فإذا فزتم ، فقد فزتم بكل شيء ، وإذا ما خسرتم لن تفقدوا شيئا ؛ راهنوا إذن على أنه موجود دون تردد ” [397] . ألاحظ في ذلك نوعا من الخدعة أو المكر ، إن لم يكن ، مرة أخرى استهزاء . فهو في العمق ، يسخر منهم ! لأن باسكال ، بوصفه جانسينيا ، لا يجهل أن الله ليس ملزما بأي حال من الأحوال بهذا الرهان ! فهو يستطيع جيدا إهلاككم ، بما أنكم راهنتم على وجوده ( مثلا لأنكم لم تفعلوا ذلك إلا بأنانية ) ، وينجيني ، بما أنني راهنت على العكس ( مثلا لأنه قد رفض إخضاع فكري إلى مكسب متوقع ) . باختصار ، فإن الرهان على شهرته لكبيرة ، فهو لا يتمتع بذات الهمية . افيمان نعمة ، بالنسبة لباسكال وليس استثمارا !

باسكال ، فيلسوف على الطريقة الفرنسية ؟

اندريه كونت سبونفيل : نعم ، بطبيعة الحال ، مثل مونتاني أو ديكارت ! قارنوا هؤلاء الثلاثة بليبنتز ، كانط أو هيغل ، بالمانيا ، أو هوبز ، لوك وهيوم ، في ابريطانيا العظمى . الاختلافات واضحة ! فبالنسبة لمونتاني ، ديكارت أو باسكال ، تُمارس الفلسفة بضمير المتكلم : من ثم خاصية أخرى ، التي هي نوع من علاقة جوهرية للأدب . ” السلوب هو الرجل “ ، يقول بوفون Buffon) ( . يعتبر فلاسفتنا العظام كلهم تقريبا كتابا مرموقي ( صحيح الثلاثة الذين أتيت على ذكر أسمائهم ، لكن أيضا فولتير ، روسو ، ديدرو ، وكذلك ، في القرن العشرين ، آلان Alain) ( ، سارتر أو كامو ) . في الأخير ، فهم لا يتوجهون إلى زملائهم ، ولا إلى طلبتهم ، بل إلى الإنسانية . ليس المرء في حاجة إلى أن يكون فيلسوفا بهدف قراءتهم وفهمهم ! ومن ثم هذا ” الوضوح الفرنسي “ ، الذي أعجب به نيتشه أكثر والذي أرغى وأزبد لعدم العثور عليه بألمانيا !

في [كتاب ] هل الرأسمالية أخلاقية ؟ استبدلتم أنظمة باسكال الثلاثة بنمذجتكم الخاصة : لماذا يبدو لكم مفهوم النظام هذا جوهريا ؟

أندريه كونت سبونفيل : لأنه يسوغ بالنظر فيه أكثر وضوحا ، عدم خلط ما يمت بصلة إلى منطق مختلف : مثلا الجسد ، العقل والمحبة ( كلها أنظمة ثلاثة لباسكال ) ، أو ، ضمن إشكاليتي الخاصة ، النظمة التقنو علمية ، القانون سياسية ، الخلاق والإيثيقا . الديموقراطية ، على سبيل المثال ، التي تستطيع ويجب عليها أن تسود في النظام القانون سياسي ، هي بدون ملاءمة في النظام التقنو علمي ( لا يتم التصويت على الحقيقي والخطإ ، ولا على الممكن والمستحيل ) كما هو الحال في نظام الأخلاق ( لا يتم التصويت ايضا على الخير والشر ) . لكن القضية العكسية صحيحة كذلك : أي علم ، أي تقنية لا تستطيع أن تقوم مقام الديموقراطية ، كذلك أي اخلاق أو إيثيقا . الشعب هو الذي يسود الخبراء ولا المشاعر الطيبة !

أمام البؤس البشري ، لن يجد باسكال مواساة إلا في ارتقاب حياة أخرى . أنتظارها ؟ ي تعزية يمكن لملحد مثلكم انتظارها ؟ 

أندريه كونت سبونفيل : لا يتم التفلسف من أجل المواساة ! لكن الوضوح يكون على الدوام مقويا . لا أعرف شيئا أكثر إثباطا للهمة من القطرات البطيئة للتفاؤل التي توجد هنا أو هناك ، في التلفزة أو في الكتب : إن ذلك يحبطني ! إذن فإن حقيقة ما عميقة إلى حد ما ، حتى وإن كانت مقززة ، فإنها تمنحني الرغبة في الحياة والتفكير ، لاسيما إذا أُعلن عنها بطريقة إلى حد ما حية وقوية . من ثم ثمة لذة الإعجاب ، ولا أعرف قط ما هو أكثر حيوية ، ولا كتابا أكثر إعجابا من باسكال . لأن متعة التفكير ، متعة الإعجاب : سببان جيدان للتفلسف ! أخيرا ثمة محبة الحياة ، التي لا تلغي المأساوي على أن المأساوي لن يتم إبطاله : حيث ينبغي العودة غلى مونتاني ( الذي لطالما قرأ باسكال ولم يتوقف عن انتقاده : لاحظوا المقابلة الرائعة مع م . دوساسي M. de Saci) ( . قد تكون لنا الفرصة في يوم ما للحديث عنه …

ــ

مصدر النص : مجلة فلسفة الفرنسية Philosophie magazine) ( عدد ممتاز رقم 42

1 . ”  تعتبر التراجيديا محاكاة لفعل جاد وتام […] تحدث بواسطة الشفقة والرعب تفضي إلى تطهير الانفعالات من نفس الطبيعة “ ، أرسطو ، فن الشعر . 2 . ” لا وجود لأمل بدون فزع ، ولا فزع بدون أمل “ . 3 . فريدريك نيتشه ، الأعمال الكاملة ، 11 ، غاليمار ، 1982 ، الصفحة : 252 . 4 . باسكال ، رسالة إلى القس إتيان نويل ، في أعمال كاملة ، سوي ، 1963 ، الصفحة : 202 .

أندريه كومت سبونفيل : فيلسوف ، نحن مدينون له وخصوصا المقالة القصيرة للفضائل الكبرى ( puf, 1998  (الذي توج بجائزة لابرييرLa Bruyère) ( من للأكاديمية الفرنسية ) ، هل الراسمالية أخلاقية ؟  ألبان ميشال ، 2004  ؛ أعيد طبعه في سلسلة كتاب الجيب سنة 2006 ) ، روح افلحاد . مدخل إلى روحانية بدون إله ( ألبان ميشال ، 2006 ؛ أعيد طبعه في سلسلة كتاب الجيب عام 2010 ) . من المأساوي إلى المادية  ، والعودة . (بوف 2015 ؛ أعيد طبعه في 2018 ) ، ضد الخوف ، ومائة أهداف أخرى ( ألبان ميشال ، 2019 ) .

Related posts
تربية وتعليمفلسفة

ألبير كــامو: من العبث إلى التمرد

تربية وتعليمفلسفة

عدسات متصدعة: التنويعات البنيوية المختلفة للأيديولوجيا

تربية وتعليمغير مصنففلسفة

شرعية السلطة في الأنساق الثقافية والتاريخية بين المقدس والمدنس

فلسفة

من أجل رؤية فلسفية لعالم القيم

Sign up for our Newsletter and
stay informed