
ترجمة : الحسن علاج
كيف أصبح بلزاك Balzac) ( أعظم مهندس لفرنسا موازية ؟ نابضا بالحياة ، فاشلا ، مفلحا ، مفلسا ، ثم عائدا على الدوام ، بإصرار ، إلى مكتب عمله .
واحدة من خصاله العديدة التي جعلته محبوبا : لم يكن بلزاك يعير اهتماما لنجاحه الشخصي فقط ، لطموحه الأدبي الباذخ وإلى الموضوعات المتعددة التي يقوده الأدب إلى التصدي لها ، يعمل الاثنان مجتمعين على تشييد وفك رموز مجتمع مركب . كان بلزاك يهتم بقرائه ، بالملاحظات التي يكتبها له هؤلاء ، وإلى كل ما كان يدور في أذهانهم حيثما كانوا يتناولون كتابا بيدهم . ففي تقديمه للطبعة الأولى من رواية الجلد المسحور La Peau de Chagrin) ((1831) ،وهكذا نجده يتسلى برغبتنا في تخيل المؤلف استنادا إلى عمله : ” على الرغم من غموض القوانين التي تنظم فن فراسة السحنة [كذا] الأدبية ، فإن القراء لا يمكنهم البقاء على الحياد أبدا بين كتاب وشاعر . إنهم يرسمون في أذهانهم بشكل لا إرادي ، صورة ، يشيدون إنسانا ، متصورين إياه يافعا أو طاعنا في السن ، كبيرا أو صغيرا ، محبوبا أو شريرا . […] ومن ثم فأنت أحدب بمقاطعة أورليان ، أشقر ببوردو ، نحيف ببريست ، متكرش وسمين بكامبراي . ” منذ ذلك الحين ، غيرت الفتوغرافيا قواعد اللعبة ، لكن ليس أدمغتنا ، التي استمرت في وضع مطابقات اعتباطية بين العمل ومظهر من يكتبه . ألا تلتقي الوقاحة المتوهجة لأبيات رامبو في التكشيرة التي يعرض لها في بورتريهاته ؟ ألا تبدو نحافة فرلين Verlaine) ( المهملة انعكاسا لشعره السوداوي ؟ ألم تكن بنية فلوبير Flaubert) ( القوية تحتم عليه مصارعة اللغة الفرنسية كما لم يفعل ذلك أحد قبله ؟ وينطبق نفس الشيء على بلزاك : ذلك الذي يدعي ” مزاحمة الحالة المدنية ” أو يحمل القبة السماوية على كاهله ، مثل أطلس ، عليه أن يمثل جسما مكيفا .
” أنف يشبه شريطا مطاطيا “
العديد من معاصري بالزاك استسلموا لإغراء القيام ” بفراسة السحنة ” الأدبية من دون علم منهم . لذلك قال الكاتب الشاب أنطوان فونتانيAntoine Fontaney) ( الذي صادف بلزاك في 32 من عمره ، في بداية مساره : ” أخيرا أراه ، هذا النجم الجديد . مجد أدبي يتولد من كتاب فيزيولوجيا الزواج . صبي أبجر . عين براقة ، سترة بيضاء ، هيئة طبيب أعشاب ، لباس جزار ، مظهر مذهب ، مجموعة مرموقة . إنه رجل التجارة الأدبية بامتياز . ” ليس بلزاك حتى الآن مهندسا ل” الكوميديا البشرية ” ، لكن ميوله في المال معروفة ، ويعتقد فونتاني الكشف عنها في بنيته الجسدية . ست سنوات فيما بعد ، تقوم صوفيا كوسلوفسكا Sophie Koslowska) ( برسم بورتريه أكثر سخاء : ” لا يمكن اعتبار السيد بلزاك رجلا وسيما ، لأنه قصير القامة ، ممتلئ ، ذو شكل دائري ، بدين ؛ عريض ما بين المنكبين ، مربعين إلى حد كبير ، رأس ضخمة ، أنف يشبه علكة مرنة ، مربع في نهايته ، ثغر جميل جدا ، لكن بدون أسنان تقريبا ، شعر أسود قاتم ، أملس مشوب ببياض . لكن ثمة في عينيه البنيتين وميض ، تعبير قوي للغاية ، لدرجة أنك تكون مجبرا على الموافقة على أنه ثمة رؤوس قلة جميلة . ” عشر سنوات فيما بعد ، تتوصل جولييت كرودينر Juliette Krudener) ( ( وهي ابنة سفير روسيا بسويسرا ، التي التقته بمدينة بيرن سنة 1846 ) إلى استنتاج قريب : ” قامته متوسطة الطول وسمنته ( لاسيما بروزها في جزءين مختلفين : شكله وبطنه ) تضفي عليه مظهرا سخيفا إذا كانت ملامح الوجه الداكنة والمتأملة لا تغير مجرى الأفكار . […] حاجبان كثيفان جدا يظللان عينين غائرتين لكنهما معبرتان للغاية . “
هكذا تجلى بلزاك لمعاصريه : نظرة مميزة مثيرة للاهتمام ، فإذا ما أوليناها اهتماما فقد تغير إدراكنا للبقية . ومن الممتع العثور ، في خصائصه الجسدية ، على خلاصة لسماته الجمالية التي نقدم عبرها تعريفا لبلزاك . بلزاك ضخم ، في مظهره الخارجي كما هو الحال في المكتبة . يعبر منكباه العريضان ورقبته القصيرة على قوته في العمل . محصورا في هذه الإنتاجية الوحيدة ، سوف يصبح أوجين سو Eugène Sue) ( آخر ، إلا أن عينيه تميزان ذلك ” يراقب بلزاك كل ما يصنع مجتمعا . يقرأ الإشارات التي تربطك بوسط بكل تأكيد مثل نبرة ، يلاحظ صعود البورجوازية والرأسمالية ، يكشف عن أنماط اجتماعية ـ ال” مرأة ذات الثلاثين سنة ” ، ليست سعيدة في زواجها ، محبطةولا ملاذ لها . فهذا هو السبب الذي يجعلنا نقول أنه ” واقعي ” ، وهو ما يتفق مع طموحه في وصف فرنسا بكاملها .
لنحترس من التصنيفات : فبإمكانها أن تتحول إلى عقائد . لم تستعمل الواقعية لتعريف بلزاك فقط : فقد تم استعمالها إلى اختزاله في دور وحيد هو دور الملاحظ لعصره . إلا أن بلزاك ، كما كشف بودلير عن ذلك فهو أكثر من ذلك بكثير . وبالتأكيد ، فهو كان يضع هبة الملاحظة في مرتبة عليا جدا . لكن ، كما كتب ذلك ، دائما في مقدمته للطبعة الأولى لرواية الجلد المسحور ، فينبغي على هذه الهبة أن تتعزز بهبة أخرى ، تقتصر على الرجم بالغيب : ” هل يرى [النابغة] العالم حقا ، أم أن روحه هي من تكشفه له حدسيا . لذلك فإن المصور الأكثر حرارة ، الأدق لفلورنسا ، لم يكن إطلاقا بفلورنسا . […] هل بمستطاع البشر استقدام الكون إلى أدمغتهم ، أم أن أدمغتهم هي طلسم يقومون عبره بإبطال قوانين الزمان والمكان ؟ … ” يلامس بلزاك هنا عن كثب دور اللاشعور في الإبداع .
قوانين عامة وحقائق أدبية
لقد شكل بلزاك ملاحظا لا يمكن الاستغناء عنه ، ثم إن عمله ” الكوميديا البشرية ” يمثل قيمة توثيقية استثنائية . لكنه لم يكن ناسخا أمينا ، مؤلفا انطلاقا من نتف صغيرة من الواقع تتم إعادة إنتاجها بإخلاص . نادرة هي الشخصيات ، لديه ، التي تمتلك أصلا واحدا ، يتم نقل الأمكنة مثلما هي ، تستنسخ أحداث الواقع استنساخا . وإذا ما كان يبدو لنا عالمه الذي يعاد تأليفه واقعيا ، فلأنه يبرع للغاية في فن الكذب الحقيقي الشهير الذي يسوق الحديث عنه غالبية الكتاب في الوقت الراهن عندما يتوجب عليهم تبرير توظيف المتخيل . لنتناول رواية الجلد المسحور ـ أول نجاح كبير لها ـ التي تحكي الحوادث المؤسفة لرفائيل دو فالانتان (raphael de valentin) ، غلام من أسرة ثرية ، لكنه مفلس وانتحاري . وعلى إثر نوع من الميثاق الفرسي ، يتصور رفائيل نفسه مزودا بجلد مُعالج قادم من الشرق ، يستحيل إتلافه ، وحتى بالاستعانة بالآلات الأكثر قوة من الصناعة الناشئة . إذ إن هذا الجلد سحري : إنه يحقق أمنيات مالكه ، إلا أنه ينكمش عند كل أمنية . يطمح رفائيل إلى ليلة صاخبة ؟ وقد تحقق له ذلك . إنه يبتغي الثروة ؟ وقد أتته في أمسية . كل هذا يبدو أقل واقعية للغاية ، أليس كذلك ؟ لكن بلزاك يدرك مزايا الالتباسات : فأثناء كل أمنية تتحقق ، يمكن للقارئ أن يتمسك بتفسير عقلاني . أحرز رفائيل على أمسيته الماجنة لأن رفقاءه يسعون إلى اصطحابه معهم إليها . حصل على ثروته من خلال إرث . إلخ . يشتغل هذا ” الجلد المسحور ” مثل استعارة الطموح إلى الوصول ، الذي يعذب بلزاك حينئذ مثل شخصيته . استعارة أخلاقية : كل واحد يرغب في النجاح بكل الوسائل يفقد القليل من ذاته أثناء كل تسوية .
دعونا نلاحظ الديكور : شأنه في ذلك شأن بلزاك ، حاول رفائيل ، قبل العثور على الجلد ، الوصول عبر الأدب ؛ مثله ، بذل قصارى جهده طيلة سنوات ثلاث في قبر هوائي ” ـ علية رهيبة . إلا أن بلزاك ، حسب علمنا ، لم يكن يقظا بواسطة صاحبة البيت الملائكية وبواسطة ابنته الفاتنة ، التي كانت تضع النقود في جيوبه عندما كانت تعوزه . حتى ولو أن بلزاك أفرغ الكثير مما لديه في شخصية رفائيل ، فلاشيء تغير ، وكل شيء أعيدت صياغته . لذلك فقد تودد رفائيل ما قبل الجلد إلى الكونتيسة فيودورا ، وهي أرملة ثرية نصف روسية ، أولا لمالها ، ثم عن حب كما يبدو ذلك . في ذلك العهد ، اعتقد العديد من القراء أنها أميرة باغراثيون Bagration) ( ، واحدة من علاقات بلزاك . هذه هي الطريقة التي عبر من خلالها عن ذلك ، فيما بعد ، إلى جانب زوجته المستقبلية ، إيفا هانسكا(Eve Hanska) : ” تريدين معرفة ما إذا قابلت فويدورا ، إذا ما كانت حقيقية ؟ امرأة من روسيا الباردة ، أميرة باغراثيون ، انتقلت إلى باريس كي تكون نموذجا لذلك . لقد انتهى بي المطاف إلى الزوجة السابعة التي كانت تمتلك من الوقاحة ما يجعلها تعترف بذلك ، فكلهن كن في منتصف العمر . […] لقد صنعت فيودورا Foedora) ( من امرأتين عرفتهما دون التسلل إلى خصوصيتهما . تكفيني الملاحظة ، إلى جانب بعض الأسرار . ” بالتأكيد أن هذا البلزاك الواقعي يمتلك خيالا واسعا ، وربما حتى في توضيحاته : فقد رسم الخطوط العريضة لقصيدة ، قبل ذلك بكثير ، عام 1823 ، وكان عنوانها ” فويدورا ” ، التي ستستخدم في ابتكار الشخصية اللاحقة .
لا يكتفي بلزاك بإعادة تأليف عالم : إنه يتفكره وقام بروست في وقت مبكر بالبحث عن قوانين عامة ، حقائق أدبية يتم التلفظ بها أثناء السرد . لذلك فإن الجلد المسحور تلقنك تفوق الأنظمة على العمل لمن يطمح إلى النجاح . ” أنت تعمل : أوه ! حسنا ، لن تفعل شيئا أبدا . أنا مناسب لكل شيء ، كسلان مثل سرطان البحر : أوه ! حسنا ، سأحقق كل شيء . أنتشر ، أندفع ، يُفسح المجال لي : أتبجح ، يتم تصديقي . ” أو صيغ فصل العالم الجميل : ” يطرد العالم الجميل من حضنه التعساء ، مثل إنسان ذي صحة جيدة يطرد مبدأ مرضيا من جسده . ” لا يكتفي بلزاك بالكشف عن الميولات العامة فقط ، لكن يبدو أنه يتوقعها . فضلا عن ذلك الاستقبال الجاف والمتعجرف الذي خصت به فيودورا رفائيل : ” آه ! قالت ضاحكة ، إني بدون شك أكثر إجراما من أن أتعلق بك ؟ هل هو خطئي ؟ لا ، إني لا أحبك ، فأنت رجل ، وهذا كاف . إني سعيدة كوني وحيدة ، لماذا أغير حياتي ، أنانية إذا شئت ، ضد نزوات سيد ما ؟ ” يبدو لنا بالزاك ، هنا يلامس النزعة النسوية قبل الأوان .
باختصار ، فإذا كان بلزاك واقعيا ، فهو يعتبر واقعيا غاية في الأهمية : لا ينحصر عمله في ” الأمور التي تتم رؤيتها ” ، بل يضيف إليها مزيدا من ” الأمور التي يتم الإحساس بها أو استشعارها ” . لا يتنازل مع بعضها البعض : فقد قاده انشغاله بنسخ أعراف عصره إلى كتابة روايات اعتبرت لا أخلاقية من خلال معسكره السياسي الخاص ـ معسكر الملكيين . إن عباقرة الأدب هم دائما أكبر من الخانات التي نسعى إلى وضعهم فيها ، وأكبر أيضا من الأعلام التي ينتسبون إليها . سوف يسمح هذا ، علاوة على ذلك ، لهوغو Hugo) ( بإعادة تعريف بلزاك بوصفه كاتبا ثوريا كان يتجاهل ذلك .
رحلتان في كل سنة
ولد أونوريه دو بالزاك في منعطف القرن ، في 20 ماي 1799 ، بمدينة تور Tours) ( . ابن برنار فرانسوا بالسا Bernard-François balssa) ( ـ وهو جندي سيغير اسمه إلى بلزاك ، قبل أن يعززه بجزيئة ـ وآن شارلوت لور سلامبييه (Anne-Charlotte-Laure Sallambier) ، في الثانية والثلاثين أخته الصغرى . ويعتبر الأب حسب عبارات كاتب السيرة روجيه بيرو (Roger Pierrot) 1 ، فلاحا وصوليا ، تعلم القراءة والكتابة على يد قسيس ، مر من الإدارة الملكية ، ثم عبر المديرية دون الكثير من الخسائر : هو يشغل حاليا مديرا للإعاشات العسكرية . يكتب أيضا نشرات حول قضايا اجتماعية (” اضطرابات فاضحة تسببت فيها فتيات خاطئات ومتخلى عنهن في حرمان مطلق ” ) . لدى ولادة أونوريه فقد أعلن عن مقاومة الإكليروس تتفق مع الذوق السليم ـ وهو ما يفسر ربما أنه لم يتم العثور أبدا على شهادة معمودية ابنه . وبطبيعة الحال فإن رابطة الأبوين تعتبر زواجا منظما بواسطة الراعي برنار فرانسوا . لن يكون الزواج سعيدا لا بالنسبة للزوجين ولا بالنسبة لأونوريه .
منذ ولادته ، عهد به إلى مربية ـ تذرعت أمه بكونها فقدت ابنا أثناء إرضاعها إياه . أصبح بلزاك ، سيتذكر الكاتب ذلك . في ذلك العهد ، كان موضوع محبته هو أخته الصغرى لوراLaure) ( . عاد إلى البيت العائلي في الثالثة من عمره ، حيث يهمل والده أبناءه لصالح حياته المهنية . أما بالنسبة لوالدته ، فهي تعيش في بحبوحة من العيش ، تحصل على الكثير ، في رابطة مع نبيل منفي ، هرديا Heredia) ( قبل أن تجد نفسها حبلى سنة 1807 من جان مارغون ـ حيث سيتردد بلزاك غالبا على مسكن شاتو دو ساشي . تابع دراسته حينئذ بمدرسة داخلية لو غواي Le Guay) ( ، حيث تعلم القراءة والكتابة والصلاة . وفي الثامنة من عمره انتقل إلى كوليج فاندوم ، يديره عضوان متزوجان في جماعة الكهنة . يقوم أحدهما ، وهو ديسان ،بتدريس تفوق ملاحظة الحقائق وتحليلها على الإيديولوجيا . ويبدو أن تلك الدروس تم حفظها عن ظهر قلب .
وعلى الرغم من ذلك فإن كوليج فاندوم ليس مؤسسة متحررة ، ذات نظام صارم ينبغي على من تطالهم العقوبة المكوث في ” كوة ” ، وهي ركن تحت الدرج . لم يكن مشتت الذهن ، بل كان تلميذا مجدا ، ومع ذلك فقد قضى أونوريه فيها مدة زمنية كبيرة كي يلتهم كتبا عديدة . لم يغادر داخليته من 1807 إلى 1813 ، أي من 8 إلى 14 سنة . سيبالغ بلزاك كثيرا فيما بعد ، حينما سيكتب إلى السيدة هانسكا ،زوجته المستقبلية ، أنه بقي فيها ” من 6 إلى 14 من عمره ” ولم يتلقى إلا زيارتين من طرف أمه : وفي الواقع ، فقد كان له الحق في زيارتين سنويا . كما كتبت أخته لورا : ” سوف نراه بانتظام كل سنة في عيد الفصح وأثناء توزيع الجوائز ؛ لكن قلما يتم تتويجه في المسابقات ، فقد تلقى من التوبيخات أكثر من الثناء طيلة تلك الأيام التي كان ينتظرها بفارغ الصبر . “
من السذاجة القول أن والدة بلزاك قد تكون أقل أمومة معه . سوف يلقي اللوم عليها طيلة حياته . تم فصله من الكوليج ربما لأنه قدم مسيحا منافيا للحشمة ، تم وضعه في داخلية غانسير ، بباريس . يتوجب على تلاميذ تلك المؤسسات إكمال تعليمهم بواسطة دروس بالثانوية : ستكون ثانوية شارلمان . يحب بالزاك هذه الإقامة الباريسية .
شن نابليون حملة عسكرية بفرنسا عام 1814 . متوجسة من الخيبة ، ستسعى السيدة بلزاك في البحث عن ابنها لإعادته إلى تور ـ مغتنمة إقامتها هناك لرؤية واحد من عشاقها . ” لن أحدثك عن الرحلة التي قمت بها من باريس إلى تور مع والدتي . إن فتور تصرفاتها يكبح نمو مشاعر الحنان لدي ” ، يقول فليكس دو فاندنسFélix de Vandenesse) ( في رواية زنبق في الوادي (Lys dans La Vallée) … يأتي التجديد . أثناء تحول والد أونوريه إلى ملكي ـ فقد استعاد نشراته عاملا على تنقيحها من كل إشارة إلى الإمبراطور ، يدافع عن إقامة نصب لهنري الرابع ( الذي اقترحت عليه الإدارة الملكية أداء مصاريف ذلك بنفسه ) ـ استأنف الابن تمدرسه بكوليج تور ، حيث فاز بجائزة في النسخة اللاتينية . أرجعت مهنة الأب الأسرة إلى باريس . يجد أونوريه نفسه مقيما عند ملكي معروف ، لوبيتر ، ثم يلتحق بكوليج شارلمان . يُجهل ما إذا كان قد ساهم في موجة الحماس النابوليوني التي دفعت بالكثير من المقيمين بالداخلية إلى هجر دروسهم من أجل الذهاب لدعم باريس ، في نهاية يوليوز 1815 ، لكنه تم إرجاعه أو انسحب ، ثم يعود إلى داخلية غانسر ، حيث سيبدو ميالا إلى الهزل . ” قال لي الطيب والجدير بالاحترام ، السيد غانسر إنك كنت ضمن النسخة 32 !!! … قال لي إنه في اليوم الآخر لقد قمت بالفعل بأشياء أكثر استهجانا ، كنت حينئذ محروما من كل متعة اقترحتها في الغد […] . كان ينبغي علي أن أبعثك للبحث على الساعة الثامنة صباحا ، وكان من المفترض أن نفطر ونتعشى معا […] . إن قلة مثابرتك ، طيشك ، أخطاؤك تجبرني على تركك بالداخلية ” ، هذا ما كتبته له والدته في 27 يناير 1816 . يتم دائما إيجاد أسباب معقولة لتجاهل الأطفال الذين لا نحبهم .
وبثانوية شارلمان ، وطيلة دروسه في البلاغة ، شغف أونوريه بجماليات اللغة وقدم انطباعا عن قدراته في التحصيل الدراسي . انتهت الدراسة بالثانوية ، سجل نفسه بالحقوق ودخل كرجل دين صغير لدى محام ، هو جان بابتيست غيونيه دو مرفيل (Jean-Baptiste Guillonnet de Merville) ، وتتعلق الدراسة بمعالجة قضايا عائلات كبيرة وقضايا فقراء : تعلم جيدا ، هنا ، إجراءات قانونية واطلع على أسرار أسرية سوف تغذي عمله ، كما سيعرف بذلك في تقديم أقصوصة مشهد تحت الرعب. سيفي بالزاك على علاقة جيدة مع رئيسه القديم ، مع من سيتعشى كل الأعوام ، والذي سيساهم في إلهام القاضي النزيه بروبينو Propinot) ( .
كتابات الشباب
في مارس 1819 ،أحيل والد بلزاك على التقاعد ، متكبدا خسائر فادحة في إفلاس كامل لبنك دومير . انتقلت الأسرة إلى مقاطعة فليباريزي ، وبقي أونوريه بباريس : لقد نجح في إقناع أبويه اللذين كانا يرغبان في أن يريانه يصبح موثقا عاما ، بدلا من تركه ينخرط في مهنة كاتب . منحه والده سنتين . ولكي يقي نفسه شر التأويلات المغرضة ، أخبرت الأسرة بأنه يوجد ببلدية ألبي Albi) ( . حاول أونوريه في عام 1818 كتابة ” خطاب حول خلود الروح ” . شرع في كتابة تراجيديا ـ كرومويل ـ كما حاول ترجمة كتاب سبينوزا الإيثيقا إلى الفرنسية . ليست مسرحية كرومويل مسرحية سيئة ، لكن أبياتها الشعرية 1906 من البحر الإسكندراني تستشعر الجهد ، كما كتب روجيه بيرو . وسوف يقر بالزاك بذلك في أبريل 1821 : ” أتوقع أن مسرحية كرومويل لا قيمة لها ولا تستحق حتى أن تعتبر جنينا . ” على الرغم من انكبابه على دراسة كرومويل ، فقد اكتشف رواية إيفانويIvanhoé) ( ، التي شكلت نجاحا منقطع النظير لوالتر سكوت .
اكتشاف خلاق : انخرط بلزاك في الرواية وسوف لن يتوقف أبدا . وبالتأكيد ، فإن الأمر يتعلق بادئ ذي بدء بروايات تجارية ، أو مستوحاة من نجاح : أغاتيزا Agathise) ( ، رواية حملة صليبية ومعارضة أدبية لسكوت ، [نص] كورزينو Corsino) ( ، تدور أحداثه حول فتاة فيلسوفة منفية ، هي ستينياSténie) ( ، رواية الرسائل تستلهم رواية هلويز الجديدة … ولج بلزاك الأدب سنة 1821 وباع أول كتاب له وريثة دو براغ L’Héritière de Birague) ( ، عند الكتبي هوبيرت Hubert) ( . تخيل نفسه حينئذ يعيش بإصداره ست روايات سنويا . كتبت رواية الوريثة بالتعاون مع الغجري الأديب أوغست لوبواتووفان (Auguste Le Poitevin) وإتيان أراغو ، ظهرت تحت اسم مستعار صريح للورد رون Lord R’Hoone) ( . ثم كتب رواية جان لويس أو الفتاة المعثور عليها (1200 فرنك فرنسي ) ، فرواية كلوتيلدا دو لوزنيان ، كتبت على وجه السرعة ( 4 أجزاء في ظرف شهرين ) ـ التي كرهتها والدته : ” إما أن أونوريه يعتقد أنه كل شيء ، أو يعتقد أنه لا شيء ، إذ ذاك تصاب قدرته الذهنية بالتلف . “
يتوزع أونوريه إذن بين مسكن مؤقت بباريس أو بإقليم توران . هناك التقى بالحسناء لور دو برني Laure de Berny) ( ، تبلغ من العمر 45 سنة تعيسة في زواجها ـ عمر بلزاك 22 سنة ـ ، التي سوف تغذي بغزارة شخصية مدام دو مورسوف في رواية زنبق في الوادي . ستصبح مربية لبلزاك ، الذي سيضفي عليها نوعا من المثالية . إنه ، يشير كاتب سيرته ، ” التمظهر الأول لجنسانية تقوده نحو نساء ناضجات ” . بعد رفض جاف أول ، حاول بلزاك إغواءها عبر الرسائل : ” إذا ما حلمت بالسؤدد والمجد ، فمن أجل القيام بخطوة تقودني إليك . “
واصل أونوريه الكتابة والبيع ، ليس دائما على أحسن وجه : وتعتبر رواية الشيخ ، التي تستلهم رواية الملموث Le Malmoth) ( لماتوران Mathurin) ( ، واحدة من مراجعه ؛ رواية الكاهن ، حول الصنائع الشاقة . وفي ظرف ثمانية عشر شهرا ، كتب بلزاك خمس روايات … إلا أن المجد المرغوب فيه يتم انتظاره بفارغ الصبر . في عامي 1824 ـ 1825 ، يصبح بلزاك ، الذي يبحث دائما عن طريقة للوصول ثم يعرف فترات من الإحباط ، صحافيا . وفي الأخير يشرع في كتابة رواية بطموحات أدبية للغاية منها من تجارية : رواية المنبوذ . إلا أن تسرعه كي يصبح ثريا قاده إلى تأسيس شركة من أجل أن يصبح ناشرا بمعية شريكين . ويتمثل مشروعهم في نشر أعمال لافونتين وموليير في مجلد واحد . أفضى المشروع إلى خسارة باهضة الثمن ـ لكن توقيع أونوريه دو بلزاك يظهر لأول مرة أسفل التمهيد حول لافونتين . كما أنه التقى ، عن طريق أخته لورا سيرفيل Laure Surville) ( المستقرة بمقاطعة فرساي ، دوقة أبرانتيس ، التي أقام معها علاقة صاخبة .
وفي مارس 1826 ، وبالرغم من الديون التي خلفتها المنشأة السابقة ، انخرط بلزاك في مشروع جديد : اشترى مطبعة ( بمبلغ مالي أقرضه إياه والده ) ، ثم اشترى مصهرا . قام بطباعة كتب ذات أهمية : مؤامرة في ظل حكم لويس الثالث عشر ، لألفرد دو فينيي (Alfred de Vigny) ، أو حوليات رومانسية لعامي 1827 ـ 1828 ، وهو ما سوغ له الدخول في علاقة مع هوغو ، باعتباره رائدا للموجة . أثبت المشروع فشله سنة 1828 : استرجع الشريك باربييه ، المطبعة المثقلة بالديون ، واستعادت مدام دو برني ، التي أقرضته مالا ، المصهر . وجد بلزاك نفسه مديونا بستين ألف فرنك فرنسي . ولحسن الحظ فإن أمه هي من كانت دائنته الأساس .
في شتنبر 1828 عاد بلزاك إلى الأدب ـ حدث تاريخي بارز قُدم له عن حروب أهلية بفرنسا ألهمته . قام بزيارة إقليم بروتان Bretagne) ( بهدف ابتكار رواية الشوان Les Chouans) ( ، التي ستظهر في باريس 1829 ، مع اسمه على ظهر الغلاف . قام فيما مضى بمضاعفة تصحيح المسودات ـ سيتحول ذلك إلى عادة . لم يحقق الكتاب النجاح المنشود : بيعت منه 450 نسخة . وبالرغم من ذلك فقد شرع بلزاك في أن يصبح مؤلفا معروفا وذلك بتردده على الصالونات . ظهر كتابه فيزيولوجيا الزواج في نفس السنة ، وقد شكل نجاحا فاضحا وخسارة مالية . ولكي يستعيد عافيته المالية ، سوف يساهم بلزاك في كتابة مذكرات سانسون (Mémoires de Sanson) ، جلاد الثورة الشهير ، فشل جديد .
حدث هذا التحول طبقا لروجي بييرو Roger Pierrot) ( ، في عام 1830 . من ثم ، فحتى ولو أن الجزأين الأولين ظهرا في أبريل ، فإن بلزاك سيكرس نفسه أساسا للصحافة . أسس ” صديقه الطموح ” إميل دو جيراردان (Emile de Girardin) ، مؤسس جريدة اللص ( يلجأ إلى مساعدته في الجرائد الأخرى ) ، في شهر فبراير جريدة بعنوان سلسلة الجرائد السياسية ، الذي ساهم بلزاك في تحريره آنئذ على غرار دوريات أخرى : الموضة ، الشبح ، ثم مجلة باريس ، وفيها عمل على طبع أعماله طباعة أولية . رسائل إلى زولما كارو (Zulma Carraud)، وهي من أعز أصدقائه ـ تعارفا منذ 1818 ـ ، تبرز أنه كان بصدد التخلي عن ليبرالية شبابه ليتجه نحو الملكية الدستورية .
رسائل الأجنبية
في مستهل عام 1831 ، وبصفته كاتبا يافعا باع الكتبيّ شارل غوسلان نسخة من روايته الجلد المسحور التي سيعيدها إليه بشكل متأخر . من هنا يبدأ تاريخ عادته في بيع أعمال محلوم بها ، وأيضا لكتابتها . سوف يشتغل لدى صديقتين : زولما ، مدام دو بيرني . ربط علاقة أيضا مع جيل ساندو والعشيقة الشهيرة لهذا الأخير ، جورج صاند . شرع في بيع رواية الجلد المسحور في شهر غشت 1831 ، وحققت نجاحا فوريا . دعونا نوضح أن بلزاك قد طبق فيها باعتدال الدروس الساخرة التي وضعها على لسان شخصية راستنياك Rastignac) ( : لقد قام بنشر إشاعة طبعة نفذت خلال أربعة أيام ، وكتب هو ذاته نقدا حول رواية في جريدة رسوم ساخرة ( بتوقيع ” الكونت ألكسندر دو ب. ) . اكتسبت حياته الاجتماعية مزيدا من الزخم . بدل بلزاك مقر سكناه وأصبح كبيرا في السن ( يقطن من الآن فصاعدا بيتا صغيرا من أربع غرف زنقة كاسيني ) ثم انتسب إلى الأبد إلى تيار الملوك الشرعيين .
وفي عام 1832 ، أصبح بلزاك منذ ذلك الحين فصاعدا ذائع الصيت ، ومطمئنا على موهبته ، مواصلا اندفاعه . ساهم بنصوص عدة في مجلة باريس ، وبها نشر أقصوصته ” الرسالة ” . ونشرت مجلة الفنان قصة ” الصفعة ” ـ التي ستتحول إلى رواية الكولونيل شابيرت . ظهر مجلدان من الحكايات : حكايات بنية ، مجموعة قصصية كتبها بلزاك بالتعاون مع شارل رابو Charles Rabou) ( وفيلاريت شارل (Philaréte Charles) ، ثم القصص العشر الأولى من المجموعة القصصية حكايات ظريفة التي تدهش عبر لغتها القروسطية وتصدم بواسطة اخضرارها . أعيد إصدار كتاب ” مشاهد من حياة خاصة ” بمعية أعمال جديدة : أقصوصة المتراس ، كاهن تور ، ، وقد لقيت نجاحا كبيرا . فرض بلزاك نفسه أيضا في المجتمع الراقي : أقام علاقة مع دوق فيتز جيمس ، زعيم الملكيين ، وقد التقاه عند أولامب بليسييه Olympe Pélissier) ( ، التي كان في علاقة معها دامت سنتين ؛ ثم البارون روتشيلد ، المصرفي ذائع الصيت الذي سوف لن يعمل فيما بعد ، بنصائح الاستثمار . شرع في تملق مدام دو كاستري التي اشتهرت بالخيانة التي سوف تعمل على إبعاده .
فمع النجاح ومع ثيماته المؤنثة القصص القصيرة التي ستتضمن فيما بعد رواية المرأة ذات الثلاثين سنة تم ضمها إلى كتاب ” مشاهد من الحياة الخاصة ” ـ ، تلقى بلزاك رسائل عدة من نساء ، تظل بينهن مجهولة في غالب الأحيان . إحدى هؤلاء النساء توقع باسم ” الأجنبية ” ، تتميز بصرامة ملاحظاتها وحرارة تشجيعاتها : ” تبدو لي عبقريتك مذهلة ، لكن ينبغي عليها أن تصبح عبقرية إلهية ؛ وحدها الحقيقة عليها أن تقودك إليها . ” يتعلق الأمر بإيفا هانسكا ، وهي أرستقراطية بولونية ، متزوجة تمتلك بقعا أرضية بأوكرانيا ، تتحدث الفرنسية بطلاقة ، مثل كل نبالة بلدها . وفي السنة الموالية ، كف بلزاك عن كتابة المقالات : فقط نشر رواياته في مجلات دورية . وهي عديدة : فراغوس ، دوقة لانغيس ( كانت تحمل وقتذاك عنوان لا تلمس الفأس ) ، وبداية رواية أوجيني غرانديه ، ومجموعة نصوص أخرى . تقيدت المكتبة بالسلوك السائد لرواية طبيب القرية والتوزيع الثاني لكتاب حكايات ظريفة . علاوة على ذلك ، فقد أدرك بلزاك جيدا وحدة العمل وتطلع إلى أن يضيف إلى ” مشاهد من الحياة الخاصة ” ” مشاهد من حياة الضاحية ” ، ثم ” مشاهد من الحياة الباريسية ” ، و ” مشاهد من حياة الريف ” ، أعمال كلها جاءت تحت عنوان عام ” دراسات الأعراف في القرن التاسع عشر ” . تضمن مجموع تلك الأعمال ستة مجلدات من كتب أعيد طبعها ، وثلاث مجلدات أعيد طبعها من المقالات وثلاثة غير منشورة . وتعتبر لويزا بيشيه Louise Béchet) ( ناشرة اشترت المجموع ب27000 ألف فرنك فرنسي . مبلغ لابأس به ، سيخصص قسط منه في إضعاف الناشرين الذين باعت لهم نصوصا بدون توزيعها .
وفي شتنبر 1833 سوف يلتقي بلزاك أخيرا مراسلته الغامضة إيفا هانسكا بمدينة نوشاتل ، هناك حيث سيتبادلان أول قبلة لهما ” تحت ظل سنديانة عظيمة ” . إننا ندرك تمام الإدراك حينما أصبحا عاشقين : خلال رحلة سابقة إلى جنيف في شهر دجنبر ، بينما كان مريضا عادته إيفا في الفندق فقدمت له شراب لوز مركز … في غضون ذلك عرف بلزاك فترة من العمل المركز : ” أعمل على التأليف من منتصف الليل إلى منتصف الظهيرة ، بمعنى إنني أجلس على الكرسي طيلة اثنا عشر ساعة للكتابة ، أرتجل بشكل مكثف للغاية . ” هذه المجهودات سوف تنجب رواية سيرافيتا Séraphita) ( وأوجيني غراندي التي أكملها بلزاك بواسطة رواية غوديسار ذائع الصيت ، وهي قصة قصيرة مطولة حول عبقرية مدهشة للتجارة ، تم تحريرها أثناء ليلة واحدة بهدف إكمال المجلد . على أنه فضلا عن إيفا هانسكا ، فقد أقام بلزاك علاقة أخرى لا نعرف عنها إلا النزر القليل ، مع ماري دو فريزنايMarie de Fresnay) ( ، التي يسميها ماريا في إهداء الطبعة الثانية من رواية أوجيني غراندي ، ست سنوات فيما بعد . في المقابل من المعروف أن له ابنة منها تحمل اسم والدتها . سوف لن ينساها بلزاك أثناء تحرير وصيته ، وسوف تحرص السيدة هانسكا عند حصولها على إرثه .
الكوميديا البشرية أشبه بألف ليلة وليلة الغرب
في شهر فبراير 1834 ، يعود بلزاك إلى باريس مشتغلا على الطبعة الثانية من كتاب ” دراسات الأعراف ” ( أقصوصة Les Marana ، فراغوس ، دوقة إقليم لانجي وبداية رواية البنت ذات العينين الذهبيتين ) . التقى أيضا أوجين فرانسوا فيدوسكVidocq) ( الذي سيغذي شخصية فونتان في رواية الأب غوريو . لم يعد تفرد عمله موضع شك بالنسبة إليه : ” لدي ماسة من عيار مائة وخمسين قيراطا لكن وبما أنه يتعذر دفع تكاليفها لي ، فقد لجأت إلى نشرها وبيع أجزائها . ” وفي 26 من شهر أكتوبر 1834 أرسل إلى إيفا هانسكا مشروعا ناضجا للغاية لما ستكون عليه ” الكوميديا البشرية ” ، فحتى وأنه أمضى خمس سنوات لإيجاد العنوان لذلك . ” وهكذا سوف يتم وصف الإنسان ، المجتمع ، البشرية والحكم عليها وتحليلها بدون تكرار ، وضمن عمل سيكون شبيها بألف ليلة وليلة الغرب . ” ويبدو أن البعض من أصدقائه أسدوا له مشورة ثمينة : ” مثلما قال لي هوغو ذلك ، فأنا مهندس معماري جسور ، ولن أهتم إلا ب” الكوميديا البشرية . ” وبالنسبة لروجيه بييرو فهو لم يعد حكواتيا ، بل ” روائيا ذا تصميم بعيد المدى ” .
في شهر فبراير 1835 ، أتت مجلة باريس ـ التي قامت سابقا بنشر رواية سيرافيتا وكتاب من أجل مذابحنا ومداخننا ـ على إكمال رواية الأب غوريو ، حيث ، ولأول مرة يستعمل إجراء عودة الشخصيات السابقة ، الشيء الذي يعضد وحدة عمله . في غضون هذه السنة بالذات من المحتمل أن يركب مغامرة مع سارة لوفيل (Sarah Lovel) ، وهي زوجة ابريطانية للكونت الإيطالي غيدوبوني فيسكونتي ، الذي لطالما أقرضه المال . وكي يتهرب من دائنه ، فقد غادر بلزاك شارع كاسيني إلى شارع المعارك ، بحي كايو، وهناك سيختفي عن الأنظار باسم مستعار فوف دوران . وفي شهر ماي ، ذهب لملاقاة إيفا هانسكا في فيينا ، حيث حالت مشاغل الحياة دون أن يكرس نفسه تماما لعشيقته . فقد كتب لها ” لا تتخلي عني أبدا لأن ذلك سيكون اغتيالا ” . ومع ذلك فإن بلزاك سوف لن يراها إلا في صيف 1843 .
أثناء عودته إلى باريس قام بلزاك بتصحيح مسودات رواية زنابق في الوادي ، التي ستنشر بمجلة باريس ( وليس مجلة عالمان ، مجلة شهيرة جدا قام الكاتب باستهدافها ) . علاوة على ذلك ، فإن هذا الإصدار سيتوقف ، عاتب بلزاك مدير تحرير المجلة فرانسوا بولوز François Buloz) ( لكونه أعاد مسودات زنابق في الوادي إلى مجلة أجنبية … قلقت لويزا بيشيه عن تأخيراته لكنها توصلت إلى نشر جزء من ” دراسات الأعراف ” ، في شهر نونبر ؛ ومن أجل الحصول على الجزء السادس ، سوف تضع بلزاك تحت الإكراه . ذهب هذا الأخير لآخر مرة أخرى إلى مكان إقامة لابلونيير ، وهو بيت الوفية مدام دو بيرنيه التي فقدت في نفس الشهر ابنها البكر . رفضت استقبال بلزاك الذي سوف لن يراها أبدا .
محبطا بنزاعه مع فرانسوا بيلوز François Buloz) ( مالك مجلة باريس ومجلة عالمان ، واشتغل عبر طموحات سياسية ، كان بلزاك يحلم بجريدة تخصه . وسوف تكون هي الجريدة العجفاء أخبار باريس ، ، التي اشترى منها حصة كبيرة في شهر دجنبر 1835 والتي سيلتزم بتمويل اشتغالها طيلة أشهر ثلاثة . كلفة العملية هي : 45000 ألف فرنك . وكان في ذمة بلزاك 105000 ألف فرنك من الديون . ولعدم توفره على موارد ، فقد لجأ إلى كتابة مقالات سياسية غير موقعة باسمه . وسيستمر الوضع إلى غاية يوليوز 1836 . فشل ذريع : 288 مشترك مقابل 2000 من المتوقعين … سوف يخرج بلزاك من ذلك بدين ثقيل يبلغ 46000 ألف فرنك . قام في أكتوبر بنشر بيان حول مسائل الملكية الأدبية ، التي سوف تفضي إلى تأسيس جمعية الأدباء . قضى أيضا أسبوعا في السجن لعدم استجابته لاستدعاء الحرس الوطني .
صحيح أن بلزاك كان منهكا ، لكن قدراته الإبداعية ظلت سليمة : ” في ظرف ثمانية أيام ، ابتكرت ، ألفت رواية الأوهام الضائعة ، فكتبت ثلثها . كل ملكاتي كانت متوترة ، كنت أكتب خمس عشرة ساعة يوميا . ” استدعي من قبل آل غيدوبوني فيسكونتيه من أجل تسوية مسألة نزاع المبيعات ، سافر إلى إيطاليا ، حيث يسترجع العلاقات التي عقدها إلى جانب مدام هانسكا . وعند عودته ، جاءه خبر وفاة مدام دو برنيه : ” الشخصية التي فقدتها كانت أكثر من أم ، أكثر من صديقة ، من أي مخلوق آخر . ” لقد كان لديها من الوقت لقراءة رواية زنبق في الوادي وأن تتعرف على نفسها في شخصية مدام مورسوف .
وفي نفس الشهر ( غشت 1836 ) ، ظهرت صحيفتان يوميتان : الصحافة والعصر ، أسستا على اقتصاد إشهاري ، وهو ما يسمح بتخفيض الثمن . جيراردان ، وهو مدير جريدة الصحافة ، تخاصم مع بلزاك توسل إليه مناديا إياه ” عزيزي المتجهم ” . سلمه بلزاك رواية العانس ، التي لم تظهر ضمن ” توزيع ” غير منتظم لكن عبر دفعات يومية : فليست حتى الآن الرواية الأولى في حلقات ( ليس هناك مكان مخصص لذلك ) ، لكن يتم الاقتراب من ذلك . منذ ذلك الحين ، كل روايات بلزاك سيتم إصدارها . تعمل تلك الإصدارات على عرضه على التحشم المبالغ فيه للقراء ـ الذي يرغمه على صرف النظر عن نشر ” الطوربيد ” ، وهي أقصوصة تدور أحداثها حول مومس ستمنح بداية لرواية روعة وبؤس البغايا . بيت نوسينغن وقد تم رفضها هي الأخرى . وفي شهر نونبر ، ومن أجل استعادة عافية وضعيته المالية ، أسس بلزاك مع كتبيين جمعية لاستثمار عمله . وسوف يسمح له هذا بكسب 50000 ألف فرنك ـ ليس ذلك كافيا لسداد ديونه . خصوصا وأن بلزاك سيكون عليه من الآن فصاعدا اقتسام حقوقه مع شركائه .
أول طبعة ل” الكوميديا البشرية “
في سنة 1837 ، سنة مضطربة ، عاد إلى إيطاليا ، بدعوة من قبل آل غيدوبوني (Les Guidoboni) لمدة شهرين ونصف . وأثناء عودته ، فر بصعوبة من السجن بسبب الديون . دوكيت Duckett) ( وهو المالك السابق لمجلة أخبار باريس ، الذي لم يتقاضى أجره كاملا ، عين ضابطا قضائيا لمتابعته ـ الذي ، كما تقول الأسطورة ، انتحل شخصية مكلف بتوزيع مزهرية إتروية ثمينة من أجل الوصول إلى بلزاك . قام آل غيدوبوني فيسكونتي بتسوية الخلاف . كانت باريس تعج بالدائنين ، انتقل بلزاك إلى مقاطعة سيفر ، بمسكن جاردي . وهناك ، اقترح عليه مدير مجلة الساعي ، 20000 ألف فرنك من أجل نشر رواية القيصر بيروتو في حلقات ، عاد بلزاك من جديد لإنهاء العمل ، الذي ظل غير مكتمل منذ 1834 . ظهرت الرواية في دجنبر 1837 ولقيت ترحيبا إيجابيا للغاية . وفي نفس السنة الموالية ـ ضائقة مالية دائمة ـ عاد بلزاك إلى المسرح ، لكن من دون أي نجاح يذكر . فر من جديد ـ كورسيكا ، سردينيا ، إيطاليا . كانت رسائله شاهدة على حالته المزاجية : ” تعتبر أجاكسيو إقامة لاتطاق . يشبه التمدن فيهاتمدن جزيرة غرينيلاند. ” وبالنسبة لسردينيا ، ثمة متوحشون حقيقيون ، لاوجود لأي ثقافة ، ثمة سفانا من أشجار النخيل البرية ” . وفي إيطاليا ، أدرك ان أحلامه في التنقيب عن المعادن قد تبخرت . لم تكن القضية حمقاء : كان يتعلق الأمر باستخراج المعادن الثمينة من جبال من المخلفات التي تركها المعدنون القدامى والوسيطيون . لكنه كان متأخرا . وكانت عودته إلى باريس عودة عمل : أتى على إتمام رواية خزانة التحف القديمة، وقام بتحرير بداية لرواية كاهن القرية … تلت ذلك فترة خصيبة : رواية ابنة حواء ، رواية بياتريكس ، ، أقصوصة أسرار أميرة كادينيان ، ونصوص أخرى كثيرة . لم يتخلى بلزاك عن المسرح : فقد عهد إلى كاتب شاب هو شارل لاساييه (Charles Lassilly) كي يتمم معه مسرحيته ، مدرسة الأعمال المنزلية . سوف يفر سيء الحظ ، غير قادر على التأقلم مع عروض العمل الليلي . سوف يتم رفض المسرحية ، لكن بلزاك تلقى رسالة مواساة من ستاندال ، حيث أحب رواية دير بارما : ” إن عرض عاطفة الحب على الخشبة دائما ما يكون محفوفا بالخطر ، فقد يصبح المتفرج غيورا من العاشق . ” سيكرر بلزاك نفس الشيء مع مسرحية فوتران ، التي تم تهديدها بالحظر ( تعرض المسرحية رجلا لا يتراجع أمام أي جريمة من أجل تلبية متطلبات الطفل الذي أنشأه ) … أخيرا سوف يتم الترخيص لها بالعرض ، ثم تحظر من جديد ، وجد الممثل الرئيس أنه من الذكاء التزود بباروكة هرمية الشكل من أجل محاكاة الملك لوي فليب .
التحق بلزاك بجمعية الأدباء ، التي سيصبح رئيسا لها عما قريب ، ثم تصدى لقضايا ذوي الملكية ( انهارت جدران مسكن جاردي ) . تورط في قضية سيباستيان بيتل واصطف إلى جانب المتهم ، حكم عليه بالإعدام لاتهامه باغتيال زوجته الخائنة والخادم الذي كان ـ من المحتمل واحدا من عشاقها . سوف يتم إعدام بيتل . قام الكاتب بسحب ترشحه بسلاسة من الأكاديمية الفرنسية مع علمه أن هوغو رشح نفسه فيها ـ وسوف تفضل الأكاديمية بيير فلورانس Pierre Flourens) ( . لم يحبطه فشل مجلة أخبار باريس ، أسس مجلة أدبية ، وهي المجلة الباريسية ، وفيها عمل على نشر أعمال عديدة غير مسبوقة ، ومن ضمنها أقصوصة ز . ماركا ، ودراسته حول ستاندال . حصد المجلد مبلغ 1800 فرنك على أكثر من 7000 منخرط : اشتغل بلزاك عليه طيلة ثلاثة أشهر ولم يجن منه إلا ديونا جديدة . وفي الصيف ، قام واحد من ناشريه باستدعائه عبر مأمور مخطوطات بيعت ولم توزع . تمت مهاجمته من قبل أصحاب الديون وأصبح العيش في مسكن جاردي لايطاق . انتقل بلزاك إذن إلى قرية باسي Passy) ( ، شارع باس ، حيث اتخذ لنفسه اسما مستعارا م. دو برونيول (M.de Brengnol) . إذ عاش فيها من 1840 إلى 1847 ، مع لويزا برونيو ، التي تظاهر بأنها مربية إلى جانب مدام هانسكا . وهناك أتى على الانتهاء من الطبعة الأولى ل” الملهاة البشرية ” من 1842 إلى 1846 . في انتظار ألا تصاب الآلة الإبداعية بالوهن . وفي عام 1841 تم نشر رواية مهمة قاتمة ، وهي جزء من رواية معكرة الماء ، ومذكرات شابتين متزوجتين … وفي شهر أبريل ، وقع مع الناشر هتزل عقدا من أجل عشرين مجلدا ، تحت عنوان ” الملهاة البشرية ” . ثم انخفض العقد إلى ستة عشر مجلدا . راقب بلزاك اختيارات رساميه وعانى من المقدمة : ” تضمن ستة وعشرين صفحة فقد تسببت لي تلك الصفحات في كثير من الألم أكثر مما قد يسببه لي مؤلف ما . ” لطالما كان شغوفا بالمسرح ، عرض مسرحية حيل الخادم كينيولا بمسرح الأوديون : إخفاق لم يدم إلا تسعة عشر عرضا . ومع ذلك فقد لاقت المسرحية نجاحا . لكن حرص بلزاك على المداخيل المالية ، جعله يزيد في أثمنة التذاكر ، حيث ارتمى هواة المشاجرات على مجموعة من التذاكر التي تم بيعها بقيت في وقت سابق من دون بيع .
عاد بلزاك إلى الرواية بإصرار ، أتعبته رواية نائب أرسيس حول الجزء الثالث من رواية الأوهام المفقودة . وفي 2 يناير 1842 ، تلقى رسالة من إيفا هانسكا أخبرته فيها بوفاة زوجها . التحق بها في سانت بطرسبورغ ، في شهر يوليوز 1843 ، وهناك كان يشتغل أقل مما كان . جاء عبر البحر ، ورحل في 25 شتنبر عبر عربة البريد ، وهو ما سمح له بزيارة ألمانيا . وفي برلين سقط مريضا ـ التهاب السحايا المزمن ، أول علامة على صحته المتدهورة . ولدى عودته إلى فرنسا ، كتب بلزاك أقل مما كان يكتب بكثير ـ لكنه كان يبعث ما يقارب رسالة يوميا إلى إيفا هانسكا ، التي ستطلب منه المساعدة على قبول مربيتها السابقة في دير الراهبات ، مهمة أداها بنجاح . ظهرت رواية لطيف متواضع في صحيفة النقاشات المرموقة ، ولم تحقق النجاح المأمول . تخلى بلزاك عن مشروعين روائيين : المزارعون والبورجوازيون الصغار وهي رواية غير مكتملة . انصرمت حقبته المفعمة بالإنتاج . وانفتاح فترة رحلات مع إيفا هانسكا ، وابنتها أنا Anna) ( والزوج المستقبلي لهذه الأخيرة . لحقت به إيفا وأنّا إلى فرنسا ، بحي باسي ـ وهناك أقامتا بشقة بحارة لاتور ـ ، وهناك طالبت إيفا بمغادرة لويزا ، المربية المزعومة ، التي حصلت عليها بمشقة الأنفس ، وكان عقد الكراء بشارع باس باسمها .
انتصار ابنة العم بيت Bette) (
لإخراج بلزاك من الرتابة ، قامت إيفا بضخ قدر مالي كبير في حسابه : 130000 ألف فرنك بالتمام والكمال . قام بلزاك متجنبا نصائح صديقه البارون دو روتشايلد ، باستثمار تلك الأموال في شركة السكك الحديدية للشمال .
ثم رحل الزوجان إلى إيطاليا … يشتغل بلزاك باستمرار ، لكن ليس بنفس الإيقاع السابق : كتب رواية بؤس الحياة الزوجية ، وأنهى المجلد الخامس عشر من ” الملهاة البشرية ” مع كتاب الشهيد الكالفيني ، قام بزيارة قصر العدالة بهدف إتمام رواية روعة وبؤس المومسات ، حضر محاكمة سوف تستفسر عن رواية ابنة العم بيت … شارك في الأمسيات الشهيرة بفندق بيمودان ، حيث وخلافا لما يؤكده بودلير في كتاب الفراديس المصطنعة ، فقد تذوق جيدا مربى الحشيش ـ لكن التأثيرات خيبت أمله ، وهو ما حثه على طلب جرعة قوية جدا … ثم رحلة جديدة إلى إيطاليا وسويسرا ، وهناك سوف يقابل مدام هانسكا . وهناك ، في شهر ماي 1846 ، زفت له خبر حملها . تحمس الكاتب من أجل أبوته المستقبلية ، لا يساوره الشك في أن الأمر سوف يتعلق بولد … ثم بكى مثل طفل ” عندما علم ، في شهر دجنبر ، فشل الحمل .
إذا كانت قواه الخلاقة قد استنزفت ، فإن بلزاك احتفظ بمشروعه في دماغه ؛ خلال 1845 ، قام بنشر فهرست مؤلفاته الذي سيتضمن ” الملهاة البشرية ” في ستة وعشرين جزءا ـ مائة وسبعة وثلاثون مؤلفا كانت متوقعة ، ثمانون تمت كتابتها ، خمسون كانت متوقعة . لكن خطة الفهرست ، التي لا تتضمن رواية : الأبوان الفقيران ( ابنة العم بيت وابن العم بون ) ، سوف تتقلص تدريجيا . وسوف تصبح رواية الأبوان الفقيران رائعته الأخيرة ، ولاسيما رواية ابنة العم بيت ، التي ألهمته طالما أنه تخلى عن رواية ابن العم بون ، تم البدء في كتابتها مبكرا . ذرت عليه الروايتان اللتان بيعتا في صحيفة الدستور مبلغ 22000 ألف فرنك ـ يعني أكثر من الستة عشر جزءا التي ظهرت في ” الملهاة البشرية ” . تعتبر رواية ابنة العم بيت انتصارا : اعتمد بلزاك فيها على قواعد الرواية المسلسلة وصرف النظر عن العروض الطويلة من أجل مدخل سريع ، وهو ما يتيح له إغواء القراء المتسرعين .
لم يقو على البقاء بمقاطعة باسي ( كانت لويزا مستأجرة ) ، اقتنى بلزاك منزلا بباريس بحي بوجون ، كي يعيش مع إيفا هانسكا ، وقد تحقق له ذلك بفضل أموال زوجته المستقبلية ( التي لم تستشر في ذلك ومع ذلك سوف تدفع ثمن ذلك نقدا ) . عمل ذلك على تحفيز الكاتب ؛ قام بنشر ثلاث روايات مسلسلة دفعة واحدة : ابن العم بون في صحيفة الدستور ، النائب البرلماني من مقاطعة أرسيس في صحيفة الاتحاد الملكي ، وكتاب التجسيد الأخير لفوتران في جريدة الصحافة . لايزال لدى بلزاك دائنون بما فيهم لويزا برونيول ، المربية المزيفة ، التي يدين لها ب15000 ألف فرنك . وللحصول على المال ، قامت هذه الأخيرة بسرقة اثنين وعشرين رسالة شخصية لمدام هانسكا ، بأمل إفلاسها . ثمة قضية بلزاكية ، حيث سيكون المؤلف متورطا فيها على وجه الاحتمال : وتبعا لبعض الانتقادات فهو الذي يزعم أنه قام بتلك السرقة ، بهدف تسوية خلاف لويزا مع أموال إيفا ، التي ، في المقابل ، تقتضي الإتلاف الكامل لمراسلاتها .
” الوجه البنفسجي “
من شهر شتنبر 1847 إلى يناير 1848 ، سافر بلزاك إلى أوكرانيا ، بالقصر المنيف لآل هانسكا ، وسط مزرعة تبلغ مساحتها 21000 هكتار ، يقطنها أكثر من 1000 من الأقنان . تواجد مجددا بباريس ثمانية أيام قبل اندلاع ثورة 1848 ، التي لم تصلح أموره . ” لم تعد هناك صحف مثلما كانت ، وبالتالي لم تعد هناك روايات مسلسلة ، ولا مزيدا من الإبداعات الأدبية ” ، وعلاوة على ذلك ، فإن أشغال السكة الحديدية أصيبت بالانهيار . تصور في وقت من الأوقات أن يرشح نفسه في الهيئة التشريعية ، حاز أخيرا على نجاح مسرحي بمسرحيته زوجة الأب ـ لكن الأحداث عملت على إخلاء المسرح … تتجه طموحاته من الآن فصاعدا صوب المسرح : قام بوضع لائحة لكتابة سبعة عشر مسرحية . وافق مسرح الجمهورية على مسرحية الدّعي ، قبل أن يعيدها له ـ مطالبا إياه بتصحيحها .
في أكتوبر 1848 عاد بلزاك إلى أوكرانيا ، حيث اصطدم بمزاج إيفا هانسكا وبالصعوبات من أجل عقد قرانهما : يجبر القانون هذه الأخيرة على بيع أرضها إذا ما تزوجت أجنبيا . ” ولكن مدام هانسكا لا تمتلك من الثروة إلا أرضا ل1000 فرد ومدخول 20000 فرنك. وإن بيعها هو الإفلاس بعينه . ” تدهورت صحة بلزاك : ثمة في شهر يونيو ، ” أزمة مريعة ” ، توحي أعراضها بأزمة قلبية ، أجبرته على إرجاء رحيله . قررت إيفا هانسكا منح أراضيها لابنتها أنّا من أجل الاقتران ببلزاك والعودة إلى فرنسا معه . ثم عقد القران بكنيسة سانت بارب دو بردتشيف في 14 مارس 1850 . على أنه كما كتبت إيفا إلى ابنتها : ” لست راضية إطلاقا على صحته ، أصبحت اختناقاته متكررة أكثر فأكثر ، إنه يوجد في حالة وهن مفرط ، مع فقدان الرغبة في الأكل وتعرقات غزيرة تزيده وَهَناً . ” يضاف إلى ذلك التهاب العينين يمنعه من الكتابة . ففي ظل هذه الظروف عليه أن يقدم منزله إلى إيفا هانسكا وفيه سيعيشان بعضا من الوقت معا . وبالرغم من تدخلات الأطباء ( إبر جراحية وطفيليات …) ، فقد تحسنت حالة بلزاك إلى حد كبير . سعت إيفا إلى حجزه : كان يخرج سرا . ولما تدهورت صحته من جديد ، فقد كان يستقبل أصدقاءه ويريعهم . ” خمدت تلك الحيوية الجميلة : انطفأت تلك الحماسة المقدامة . […] كل ما تبقى له من الحياة والطاقة تركز في العينين ” ، أعلن أوغيست فاكري . آخر من سيعوده هو فكتور هوغو ، الذي اكتشف ” الوجه البنفسجي ، بلون أسود على وجه التقريب ” ، كذلك فإن ” العين مفتوحة ومحدقة ” . فاضت روح بلزاك في نفس المساء ، في 18 غشت 1850 ، على الساعة الحادية عشر والنصف مساء . سوف يسير في موكب جنازته أصدقاء ، رئيس الوزراء وحشد من المطبعيين . سوف يلقي فيه فيكتور هوغو خطابه الشهير الذي أثار مشاعر إيفا هانسكا . تفاعلت الصحافة . وبالنسبة لباربي دوروفيلي ، جاء في مقال له في الصحيفة الأسبوعية (Le Monde) ، ” هذه الوفاة بمثابة كارثة ثقافية ولا يمكن مقارنتها سوى بموت الشاعر البريطاني اللورد بايرون ” . لكن جريدة فرنسا الرسمية استمرت في التساؤل حول فجور جزء من إنتاجه ، بعد أن تم اعتباره مثل ” تصور وفي ، أكثر وفاء ، لوضعنا الاجتماعي ” .
رؤية مختزلة جدا منذورة لمستقبل عظيم .
ــ
- أونوريه دو بلزاك ، روجيه بيرو ، فايار ، 1999 ، 582 صفحة .
مصدر النص : Lire magazine عدد ممتاز (6) أبريل ـ ماي ـ يونيو 2024 :كبار الكتاب الفرنسيين في القرن التاسع عشر : بلزاك ، بودلير ، دوماس ، فلوبير ، موباسان ، هوغو وزولا .
ازداد أليكسيس بروكاس Alexis Brocas) ( سنة 1973 ، يعمل نائب رئيس تحرير مجلة اقرأ الأدبية الفرنسية (Lire magazine Littéraire) . يقوم بتدريس الكتابة الصحافية بجامعة السوربون. قضى كافة عطله منذ طفولته بجزيرة ري Ré) ( ، وهناك قام بقراءة أولى كتبه لجدته . قام بنشر سبع روايات مثل حياة الحديقة ( غاليمار 2015 ) ، إله داخل الآلة ( فويبوس 2018 ) فازت بجائزة مؤسسة شارل أولمون ، وعار المجرة ( ساراباكان ، 2021 ) ، التي تم انتقاؤها من أجل الجائزة الكبرى للمخيال .