تربية وتعليمفلسفة

غربة الفكر زمان الحرب !

ألقى كانط نظرة متشائمة على الطبيعة البشرية لدى الأفراد، وهي طبيعة تعرف توترًا شديدًا بين النزوع إلى الشر والميل إلى الخير؛ اعترف كانط بسلطان النوازع الشريرة ولم يستطع التنديد بها ولا رفض وجودها ولا إيجاد مبرّر يسوّغ مهاجمة نتائجها العدوانية، في سائر أعماله التي كتبها خلال سنوات 1784 و1788 و179.

الحلم الذي راود كانط هو أن تتحقق الغاية من وجود الإنسانية وأن تصبح العبرة بالخاتمة، وليس بالشر المستشري في العالم. تخيل كانط أنه يوجد فرق بين الإنسان الشرير الذي يفرض قوته بشتى الأسلحة الفتاكة، وبين الغاية من وجود الإنسان على الأرض وهي تحقيق قيم التقدم على المدى البعيد.  معدن الإنسان الواحد هو معدن الشر، ومعدن النوع البشري هو معدن الخير؛ يحقق غايته الأخلاقيّة الفاضلة من وراء ظهور الأشرار وأفعالهم الشريرة.

ظنَّ كانط أنه لا يوجد حلٌّ مثاليٌّ لإشكاليّة العنف على المدى القريب؛ تضارُب المصالح والرغبة في التسلط والهيمنة واقع لا يرتفع؛ قانون القوة هو القانون الأعلى وتتحطم على صخرته كلّ أحلام الإنسانية.

لم يجد كانط حلا لمشكلة العنف إلا من خلال افتراض وجود غاية عقلانيّة يتَّجه التاريخ إليها؛  هذا ما يفترض نضج القدرات العقلية بصور متفاوتة عبر الثقافات والسلالات، كما تتطور قدرات الشخص الواحد من الطفولة إلى سن الرشد.

لكن؟

 لو كان كانط حيًّا بيننا، لعَلمَ أنه كان ساذجًا للغاية بما أنَّ أفعال الأشرار، كل واحدٍ على حدة، لا تنبئ بخروج العقل من الكمون إلى الظهور ، بل قد تؤدّي إلى هلاك النوع البشري، ابتداءً من القضاء على حضارات وأمم وعلى حقوق مشروعة في العيش الكريم.

أمام ضعف ميتافيزيقا التفاؤل الكانطي، شعر الفلاسفة، خصوصا بين الحربين العالميتين بالإحباط، واستسلموا أمام الشّر واعتبروا أنَّ أفضل مسوّغ أخلاقي لكبح الشرّ، هو توازن الرّعب وتكافؤ الأسلحة. تحوّل الشر إلى مقولة أنطولوجية existential بلغة هيدغر، وتحوّل التّاريخ إلى صراع مرير لا ينتهي بين العدو والصديق؛ لا معنى لوجود العالم دون وجود عدو. كيف نتخيل وجود عالم ليس فيه عدو؟ تحول العدو إلى مقولة أنطولوجية، لا معنى لوجود العالم إلا به، أو هكذا أوحي إلى تجار الحروب.

 إذا ما رجعنا إلى هيدغر وإرنست يونغر وراينهارت كوزيليك وكارل شميت، وغيرهم نكتشف أن منطق التاريخ لم يكن يختلف في الواقع لديهم عن منطق المانوية القديمة وعن الصراع الأبدي بين النور والظلام. 

ونحن؟

 أقصد البلدان العربية والإسلامية، كيف نعيش هذه الثنائيّة؟ لا أظن أننا تعاطفنا يوما ما مع تفاؤل كانط، إلا من زاوية بشارة التقدم وحقوق الإنسان،  بينما تشبعنا كثيرا بتشاؤم هيدغر وتبنّينا دورية التاريخ لدى ابن خلدون، واعتبر تجار الحروب أنَّ أعداء الأمس قد ظهروا اليوم في صور جديدة، لا جديد فيها تحت الشمس” nihil novum sub sole.

لا نحن قادرون على التخلص من دورية ابن خلدون ولا تبنَّينا التفاؤل الكانطي ولا كنا قادرين على مراجعة تشاؤم هيدغر. 

لو جاز لي أن أختار بين تفاؤل كانط وتشاؤم أتباع هيدغر، لاخترت موقف كانط الذي تكهن بقدرة العقل على الخروج منتصرًا يومًا ما من دوامة العنف. 

طرح كانط مشكلة الشر طرحًا جيّدًا، لكنه لم يقدم حلا، بقدر ما أنه افترض أن قيم التقدُّم هي الجواب على المدى البعيد.

لا حل لمشكلة العنف، لكن التفاؤل مشروع، إذا صاحبه عمل بناء الأجيال.

لكن؟

هل يوجد من بيننا من يستطيع صبرا على المدى البعيد؟ هذا ربما ما استوعبه كانط، إذ كان مؤمنا بأهمية التعليم وتغيير الذهنيات والعقليات وبقدرة العلم والثقافة والفكر، ولو على المدى البعيد. 

لا يطيق تجار الحروب صبرا، فيغامرون بمستقبل شعوبهم وبالأجيال الصاعدة.  

 هذا ما يوجب علينا ألا نحتكم إلى أهل الشر، ولا إلى قيّاد الحروب، بل أن نجد القدوة في أهل الفكر والعلم، في صناع السلام وملهمي الإنسانية، حتى ولو غادروا واجهة الإعلام ومحطات التلفزيون ومنصات الرأي العام.

 لا يملك المفكرون سلاحا بين أيديهم. لكن الأمل مشروع: الفكر قطرات ماء، ما يلبث أن يتحول إلى غيث؛ لكن ما نخشاه هو أن يَعبث طوفان تجار الحروب بالماء والغيث.

عزالعرب لحكيم بناني

Related posts
ترجمةديداكتيك تدريس الفلسفةفلسفة

جيرار مالكسيون Gérard Malkassian: تعليم الفلسفة في إيطاليا

أنشطة فلسفيةتربية وتعليم

حوار مع جاك رنسيار Roncière.J: الديمقراطيّات ضدّ الديمقراطية

تربية وتعليمديداكتيك تدريس الفلسفة

شبح الموضة وحمى الإستهلاك

تربية وتعليمديداكتيك تدريس الفلسفة

لغة المجتمع الرمزية

Sign up for our Newsletter and
stay informed