
ترجمة – قاسم شرف*
أجرى الحوار روبيرت كونRobert Kopp
ترجمة – قاسم شرف*
أجرى الحوار روبيرت كوب Robert Kopp
مقدمة
أجرت المجلة الفرنسية ” دوموند”[2] deux monde، في عدد يونيو/حزيران 2018 حوارا مطولا مع ريمي براڭ[3]، -عضو أكاديمية العلوم الأخلاقية والسياسية-، حول عودة الديني بشكل ملفت للنظر بالغرب. وفي خضم استجوابه هذا، تحدث عن الطريقة التي فكر بها الإنسان، من العصور القديمة حتى يومنا هذا، في علاقته بالعالم، وبالله وبذاته. في الوقت الذي يعود فيه الديني، بشكل مذهل في مختلف أرجاء المعمور بعدما قيل عنه أنه مات، بدا له التساؤل عن شرعية مصطلح “الدين” وعما يخبرنا به هذا الدين عن الله، والإنسان، والسياسة، والقانون، والأخلاق أمرا مستعجلا. لهذا فإن أحدث كتاب له، الموسوم بــ «عن الدين[4]»، يشكل أفضل مقدمة في الأنثروبولوجيا التي ظهرت في شكل ثلاثية مزدوجة (حكمة العالم، وشريعة الله، ومملكة الإنسان ومقدمة للعالم اليوناني، وعن طريق العصور الوسطى وبالاعتدال الحديث).
-مجلة Deux Mondes: كتبتم، في بداية مؤلفكم الأخير، الموسوم بـ”عن الدين“، قبل ثلاثين عاما، كنا، في العشاء، نحدث عن السياسة؛ وإذا ما تكلم شخص ما في الدين، كان ذلك مضحكا. واليوم على العكس: لقد أصبح الدين مرة أخرى موضوعًا مدعاة للقلق، فنسجل بعض الضجر عند الحديث عن السياسة أو الاقتصاد. كيف تفسرون هذا الانقلاب الفجائي؟
-ريمي براڭ: هذه الملاحظة لست أنا من قالها حقًا، ولكن هي للفيلسوف ميشيل سير Michel Serres. لابد أنني سمعت ذلك في محطة إذاعية. يحكي أنه قبل ثلاثين عاما عندما كان يريد أن يثير استهزاء طلابه، كان يحدثهم عن الدين؛ وفي المقابل، عندما يحدثهم عن السياسة، تتقطب الجبهات، وتنكمش الأفواه ويحركون الرؤوس عن معرفة. والآن، فالعكس هو الصحيح. عندما يتحدث عن الدين، انتهى الضحك. لماذا هذا الانقلاب المفاجئ؟ كلامكم صحيح، إنه انقلاب مفاجئ أكثر من عودة. نحن نتحدث عن عودة الديني لكنه لم يغادر أبدا! ما حدث هو العودة إلى ذات الوعي بالانتليجينسيا[5] الغربية. كما أوضح عالم الاجتماع النمساوي الأمريكي بيتر بيرغر Peter Berger، فقد سافر المثقفون الغربيون، لسنوات وسنوات، من الحرم العلماني إلى الحرم العلماني باستخدام أنابيب ضيقة منعتهم من رؤية الصعود المذهل للبروتستانتية الانجيلية أو إيقاظ الهندوسية القومية المتطرفة والمسؤولة عن المذابح المعادية للمسيحيين والمسلمين في الهند. كما أنهم لم يروا ظاهرة حديثة جدًا: منها الجوانب غير السارة للبوذية في بورما الحالية. في الواقع، كان قد أخذتها بالفعل خلال حرب المحيط الهادئ وقبلها، في الصين: كان الجنرالات اليابانيون أتباع البوذية مذنبين بشيطنة بعض الأذواق السيئة المؤذية (قصف شنغهاي، الدعارة القسرية للكوريين …). كما لم ير هؤلاء المثقفون انبعاث الإسلام، ذلك الذي يسمى الإسلاموية لتجنب تجريم الدين بالكامل. وبالتالي، فإن هذه العودة المفترضة للدين ليست في الواقع عودة، بل هي عودة لذات المثقفين الذين فهموا أخيرًا وبطريقة مؤلمة أنهم كانوا مخطئين طوال الطريق.
– مجلة Deux Mondes: من خلال تناول المشكلة من فوق، بطريقة كوكبية/عالمية تقريبًا، من الواضح أنك على حق، ولكن إذا ركزنا على أوروبا وخاصة على فرنسا، فهل التشخيص هو نفسه؟ لقد أدهشني العدد الكبير من المؤلفات، ويرجع ذلك إلى علماء الاجتماع والثيولوجيين على حد سواء، التي لا تزال تظهر دائمًا لمدة ثلاثين عامًا تقريبًا تحت العنوان: «كيف توقفت أوروبا عن كونها مسيحية؟». من ناحية، لم يغادر المتدين أبدًا، ولم يتوقف أبدًا عن اكتساب الأهمية، ومن ناحية أخرى، تم إفراغ الكنائس. وفقًا لبعض الدراسات الاستقصائية، حيث انخفضت الممارسة الدينية في فرنسا إلى 5 °/°. فكيف يرتبط الاتجاهان؟
-ريمي براڭ: لا يمكن إنكار هذه الحقائق. من الواضح أن المسيحية انحسرت في الغرب، وربما أيضًا في بقية العالم. سمعت مؤخرًا شخصا يقول إنه في إفريقيا، القارة التي يعتبرها الكثير من المسيحيين موطن الإيمان، لا تسير الأمور على ما يرام كما يقال. هناك بالفعل هذا الكتاب الأخير لغيوم كوشيه، «كيف توقف عالمنا عن كونه مسيحياً[6]». وقد استعاد المؤلف عنوان بول ڨييين Paul Veyne وعكسه، «عندما أصبح عالمنا مسيحيا[7]»، وعنوان ماري-فرونسواز باسليز Marie-Françoise Baslez، «كيف أصبح عالمنا مسيحيًا[8]»، أوضحت هاتان الدراستان كيف أصبح الغرب مسيحيا نهاية الإمبراطورية الرومانية.
– مجلة Deux Mondes: ركز بول ڨييين Paul Veyne على ثلاثين عاما من القرن الرابع وغيوم كوشيه على ثلاثين عاما من نهاية القرن العشرين. درس الأول البداية والثاني درس النهاية …
-ريمي براڭ: بالضبط. أعتقد أن غيوم كوشيه كانت له إرادة العودة، فكان العنوان واضحًا تمامًا وربما يلتزم طوعًا بنفس الحدود الكرونولوجية: ثلاثون سنة، إنه جيل. ونحن لا نعرف ما الذي سيحدث للجيل القادم، ربما ستتسارع الحركة أكثر. وهذا ليس مستحيلاً. فالذي تراجع/ تقهقر، هو المسيحية. من ناحية أخرى، يبدو أن بعضا من البوذية قد حققت اختراقا. بالإضافة إلى ذلك، أضحى استمرار الإسلام بين الشباب المهاجر حقيقيا، وكذلك صعود الهريدمات heridim des –الخائفون من الله-(اليهود المتشددون) في إسرائيل. إذا استمر هذا الوضع، فإنهم مدعوون لتشكيل الأغلبية ودفع الأشكنازية les Ashkénazes، العلمانيين إلى حد ما أو المتدينين المبهمين فقط، إلى الهامش. من الصعب تحديد هذه الظواهر، لأنها لا تزال أديان الأقلية ومنخرطوها لا يجيبون دائمًا على أسئلة الاستطلاعين … على عكس المسيحيين السابقين الذين لا يخشون الاعتراف بهم كفاراً.
– مجلة Deux Mondes: تحدثتم عن انهيار المسيحية، وتزايد الممارسة في الديانات الأخرى، هل كلمة “دين” هي الكلمة التي يمكن أن تشمل كل هذه المعتقدات المختلفة؟ يبدو لي أنكم كنتم تحتفظون بكلمة “دين” لشيء أكثر تحديدًا، وأنكم ميزتم مصطلح “دين” عن الديني أو عن المشاعر الدينية، حتى أنكم عارضتموها في بعض الأحيان …
-ريمي براڭ: فكرة المشاعر الدينية بالكاد ليست أقدم من القرن التاسع عشر، والتي شهدت إصدار عملين ناجحين في وقت واحد تقريبًا: “الدين” بقلم فريدريش شلايرماخر (1799) و“عبقرية المسيحية” Génie du christianisme لشتوبريان ((1802. هذا التزامن مثير للاهتمام، ولكن بالتأكيد غير مقصود.
– مجلة Deux Mondes: ساهم العملان في التجديد الديني بعد الثورة الفرنسية. تم إغلاق الكنائس في فرنسا على الأقل، أردنا أن نبدأ التاريخ من الصفر وذلك بتغيير الجدول الزمني … كان نابليون هو الذي لاحظ أن الكاثوليكية هي «دين غالبية الفرنسيين» وهو من أبرم الاتفاق. ولكن في الواقع، ما هو هذا الدين؟ ما هو الدين الذي يتعلق به اليوم؟ هل هو ذاته دائمًا؟ ألا يوجد فرق كبير بين مسيحية النظام القديم والكاثوليكية الرومانية؟
-ريمي براڭ: أنا أهتم بما تحمله الأديان من صدق، كالعقيدة، التي يحملها أتباع الأديان بشكل أو بآخر. إذا قمتم باستطلاع آراء المؤمنين من ديانات مختلفة، فستفاجؤون جدًا. وهكذا، في الآونة الأخيرة، فوجئنا كثيرًا بعدد الأشخاص الذين أطلقوا على أنفسهم اسم المسيحيين والذين قد يعترفون بالتناسخ، وربما يخلطونه مع القيامة. لقد حاولت أن آخذ بجدية ما يدعيه المؤمنون، كما حاولت أيضًا أن أثبت أن مفهومنا للدين يتسم بشكل عميق بهذا الانخفاض في المشاعر الدينية التي نشأت في سياق مسيحي بشكل أساسي. ما يريد شاتوبريان وشلايرماخر الدفاع عنه هو المسيحية، وما أراد الثوار المسعورون أيضًا إزالته هو المسيحية. كان لدينا مفهوم الدين المعطى لنا في تلك المرحلة من أصل مسيحي. الآن، ما أحاول إظهاره هو أن هذا المخطط لا يمكن تطبيقه بسهولة على الأديان الأخرى. في حين أن الكلمة اللاتينية تعني منذ القرن الأول قبل حقبتنا موقفًا معينًا تجاه المقدس شكا، واهتماما بتطبيق القواعد (religere: الذي نعيد قراءتها بعناية)، فإن الاشتقاق الشعبي لكلمة “الدين يشير إلى كلمة “religare” «إعادة الربط». قد يكون على خطأ -وقد رفضه إميل بينفينيست-، فهو يتحدث بشكل لا نهائي عن الخيال. سننشئ رابطًا عموديًا بين السماء والأرض، والإله والإنسانية، والمقدس والمُدنس، وحتى الرابط الأفقي في المجتمع. ما أردت أن أحذر منه هو على وجه التحديد حقيقة الحديث عن “الأديان”: يُقال: “هناك أديان”، إنه استخدام حديث، له عيب في أن يكون عالقًا في بعض الحالات، على سبيل المثال مع البوذية، حيث تحتل فكرة الله مكانًا هامشيًا للغاية، عندما لا تكون عديمة الفائدة. ما يمكن أن تفعله الآلهة في البوذية هو مد يد العون، ولكن هذا كل شيء. ليست الآلهة موضوع العبادة، وحتى وإن كانت العبادة، فهي ببساطة صرخة من أجل المساعدة.
– مجلة Deux Mondes: في الوقت نفسه، تجدون صعوبة في تصور الدين خارج الجسم المذهبي، خارج بعض العقائد…
-ريمي براڭ: نعم، وبالتحديد، أنا لست خائفا من هذه الكلمة، حتى لو كان لها اليوم تعبير سيئ، بسبب صفة “العقدي”، التي تشير إلى شيء ثابت، متآلف. تعجبني حقًا كلمات جيلبير كايث شيستيرتون Gilbert Keith Chesterton: «قد تكون العقائد جدرانًا، لكنها جدران ملعب». من المثير للاهتمام أن نرى كيف أن العقيدة، باعتبارها كلمة تقنية للمسيحية، يتم التعبير عنها دائمًا بطريقة سلبية: «يجب على المرء ألا يصدق ذلك…». بالمقابل، ما يجب الإيمان به لم يتم قوله أبدا.
– مجلة Deux Mondes: باستثناء مجال الإيمان…
-ريمي براڭ: هنا، نحكي التاريخ الماضي مع الخلق، والمستقبل مع يوم الحساب وأمل القيامة. إنه تاريخ وليس تعريفًا. هناك أشياء كثيرة تنفلت من مجال الإيمان. يجب أن نأخذ على محمل الجد ما تحدده الأديان، عندما تفعل ذلك. في اليهودية، هناك العديد من المحاولات، عند موسى بن ميمون، على سبيل المثال، حاخام إسباني برتغالي في القرن الثاني عشر، ليقول إنه إذا لم تكن تعتقد شيئا كهذا، فلن يكون لديك أي جزء في العالم القادم. هذه محاولات لم يتم تقديسها من قبل، وهذا لا يزال في مجال الآراء الحرة. ما هو أساسي في اليهودية هو إنجاز الوصايا. والباقي متعلق آراء حرة. على سبيل المثال، إن خلود الروح هو رأي حر. لا يمنع الإيمان بها، لكنها ليست واجبة. يمكن للمرء أن يكون يهوديًا عظيمًا دون أن يؤمن بوجود شيء بعد الموت.
– مجلة Deux Mondes: ومع ذلك، حتى عهد قريب كنا نعرف التعاليم الدينية، والتي أصبحت اليوم بالتأكيد أكثر عيبًا، ولكنها تضمنت عددًا من المبادئ والقواعد…
-ريمي براڭ: لدي ذكريات غامضة عن التعليم المسيحي عندما كنت طفلا. أتذكر أنها كانت في الأساس قصة مقدسة، كنا نحكي الأشياء التي سبق أن حدثت، كان لدي انطباع بأننا نواصل بتعليم التعليم المسيحي بهذه الطريقة، بعد فترة طويلة إلى حد ما محزنة في السبعينيات، والتي شكلت، ليس فقط في مجال التعليم المسيحي ولكن في كل العقل/الفكر الفرنسي، نظيرا مطلقا. نخجل في بعض الأحيان مما قيل ونشر خلال هذه السنوات…
– مجلة Deux Mondes: تقول إن الأخلاق ليست مسيحية، إنها “بلا زيادة”: المجتمع الإنساني، مهما كان، لا يمكن أن يعيش إلا إذا احْتُرِمتْ هذه الأخلاق…
-ريمي براڭ: المسيحية- وهذه واحدة من أعز أفكاري- لا تقدم أي مبدأ آخر سوى ما يسمى “القانون الطبيعي”. باختصار: الوصايا العشر. هناك أشياء أولية، بدونها لا يمكن لأي مجتمع أن يعيش. لقد كان من دواعي سروري أن أجد هذه الفكرة أيضًا عند نوما دينيس فوستيل دي كولانج Numa Dénis Fustel de Coulanges، المؤرخ العظيم في القرن التاسع عشر. يصف هذا المؤرخ، في المدينة القديمة (1864)، المجتمع الذي كانت فيه الحياة الدينية والحياة الاجتماعية في نهاية المطاف مجتمعًا واحداً. وقد بين أن المسيحية هي الدين الأول الذي لا يعتبر أن نظام القانون يعتمد عليه. لقد تركت المسيحية الأخلاق المشتركة “وشأنها”، ولم تضف تعاليم أخرى إلى الوصايا العشر. مرة أخرى، فالمجتمع الذي لا يتم احترامه لن يصمد. هناك أيضا وصايا تجعلها “إنسانية” بمعنى أننا نتحدث عن معاملة “إنسانية” اتجاه السجناء والحيوانات، إلخ. لقد تم التفكير في احترام يوم السبت: منح بيرتي ووستير Bertie Wooster يوم عطلة إلى جييڨيس Jeeves ويمنح اللورد ڭرانتهام يوم عطلة لخادمه[9]. إنها طريقة لأنسنة العلاقات الإنسانية. وأخيرًا، هذه تعليمات تافهة جدًا، بل سطحية. هناك مؤلف يعجبني حقًا أطلق عليه “التفاهات العظيمة“. عندما تحدثتم عن الأخلاق، في الواقع، يمكنكم فقط القول بالتفاهة. ليس للمسيحية قيادة/سلطة تميّز بين المسيحيين التابعين للديانات الأخرى. قد تكون هناك نصائح، مثل مواعظ الصوم، ولكن لا توجد قواعد محددة بشأن الملابس، وتصفيفة الشعر (إطالة اللحية أو تقليم الشارب)، والطعام (إفراغ الحيوانات من دمائهم في اليهودية، عدم أكل لحم الخنزير في الإسلام، عدم أكل اللحوم في البوذية، إلخ.).
– مجلة Deux Mondes: عدم أكل اللحم يوم الجمعة، على سبيل المثال؟ أليست هذه قاعدة يجب على المؤمن مراعاتها؟ هل هو اعتراف، واستمرار؟
-ريمي براڭ: عدم أكل اللحم هي نصيحة. أما القواعد التي تكلمتم عنها فهي وصايا الكنيسة، من خلال وصايا الله. لا أحد مجبر للامتثال.
– مجلة Deux Mondes: أليست هذه المجموعة من العقيدة هي، كما قلتم، مجموعة الكنيسة وليس الدين، الذي كان محور المناقشات خلال تلك السنوات الجوفاء التي أشرتم إليها؟
-ريمي براڭ: كان الغرب قد عرف المرحلة التي سار فيها الضغط الاجتماعي ورجال الدين في نفس الاتجاه. ليست محتاجا أن تكون مؤرخًا عظيمًا لتدرك ذلك، وأن تلاحظ أن هذا لم يعد هو الحال. أنا فقط أقول إننا استبدلنا الأساسيات بالملحقات. لقد ذكرت وحدة الشعور، ولا يزال من المثير جدا للاهتمام للغاية أننا بحاجة إلى قيادة تطلب منكم الذهاب للأكل!
– مجلة Deux Mondes: إنها وجبة تذكارية لوجبة أخرى بشحنة رمزية وتاريخية كبيرة. وليس في أية حالة ذهنية/علقية نقترب من هذا الجدول…
-ريمي براڭ: يجب أن تكون قد غسلت الأسنان والأيادي أو الضمير في الوجبة العادية عندما تتم دعوتك لتناول العشاء. عليك أن ترتدي أفضل ملابسك. غير أن الأديان الأخرى ليس لديها وجبات من هذا النوع. هناك الأديان التي تقبل بالتضحيات الحيوانية. كان المعبد في القدس مجزرةً ضخمة. يحكي موسى بن ميمون أنه كان من معجزة المعبد أنه لا يشم رائحة سيئة. إنه مقطع قد يجعلك تبتسم.
– مجلة Deux Mondes: يبدو أنكم تنزعون القداسة على عدد محدد من الطقوس. أليست جزءًا من الدين؟
-ريمي براڭ: أنا سعيد باستخدامك هذا الفعل الذي يشير إلى المقدس. إن المقدس ليس مفهوماً مسيحياً، إنه مفهوم وثني. يمكن أن تتعلق القداسة بأي شيء. هناك على سبيل المثال أبقار مقدسة. كانت في الوثنية الكنعانية أشجار مقدسة كدليل على خصوبة الطبيعة أو خصوبة الآلهة. نتحدث عن “الوحوش المقدسة” في عالمنا اليوم. كانت إرادة الزعيم Führer[10] مقدسة بالنسبة للنازيين. من المهم تمييز المُقَدَّسِ le sacré عن القُدْسِيّ le saint، وهما أمران مختلفان تمامًا. جادل أنبياء إسرائيل ضد قداسة كل ما اعتبره معاصروهم مقدساً، باسم إله يفترض أنه قدسي.
– مجلة Deux Mondes: كانالعجل الذهبي مقدساً، أما إله إسرائيل فكان قدسيا…
-ريمي براڭ: ليس الله كما كان يعبد من قبل الإسرائيلي الشجاع في النفق، إذ كان هناك واحد في تلك المرحلة! لكن الله كما صممه الأنبياء. كانت لدى هذا الإله خاصية مثيرة جدا للاهتمام. في بعض الأحيان يذم الله إسرائيل، حتى أن هناك مصطلحًا تقنيًا لتفسير، الكلمة العبرية النزاع (riv بالعبرية النزاع أو المشاجرة أو الخصام)، الدعوى التي يقيمها الله على شعبه، والتي تحدث عنها النبي ميخا(إحالة) على سبيل المثال. غير أن الله لا يوبخ شعبه لأنه أخطأ في التضحية بالحيوان الخطأ أو لأنه ارتكب خطأً ضد العبادة. «لقد عرفنا لك، يا رجل، ما هو الخير، وما يطلبه الرب منك: لا شيء سوى تحقيق العدل، وأن تحب الخير وتركز على السير مع إلهك». عارضتُ ذلك في بداية الإلياذة، حيث تم إثارة كل شيء عبر خطأ شعائري: لم يكن أبولو Apollo سعيدًا لأن كاهنه أُزْعِج، إلخ. استشاط إله إسرائيل غضبا ضد شعبه عندما كان أفراد الشعب ظالمين تجاه بعضهم البعض، وليس تجاهه.
– مجلة Deux Mondes: الآن يقول هذا الله أيضًا، وهو حتى إنه أول الوصايا العشر: «لن يكون لك إله آخر أمام وجهي» …
-ريمي براڭ: على وجه التحديد، لأن وجود آلهة أخرى سيتم السقوط مرة أخرى في المقدس، والتخلي عن القداسة التي هي ذات طبيعة أخلاقية بشكل حصري. عندما أزعج جاري، فإني أهين/أسيء إلى الله.
– مجلة Deux Mondes: ألا يشكك سؤال “الله الحقيقي” في علاقة الدين بالحقيقة؟ ماذا عن ادعاء بعض الأديان باحتجاز الحقيقة؟
-ريمي براڭ: لن أشارك في مناقشة مع جان أسمان، ولا سيما حول كتابه ثمن التوحيد[11]، الذي ينتظره الجميع هنا. إنه صديق أحبّه كثيرًا وأنا معجب بعمله. ربما سأدلي بملاحظة حول مفهوم الحقيقة: إنها تحتوي على تعبير سيئ للغاية. سأحكي لك نادرة. في الحرم الجامعي الأمريكي، كان من المألوف ألا تكتب كلمة “الحقيقة” إلا بين قوسين، لتقول إنها دائمًا حقيقة مثل هذا الشيء، وهذه المجالات، إلخ.
– مجلة Deux Mondes: لقد شهدنا ذلك أيضًا مع “أين تتحدث يا رفيق؟
-ريمي براڭ: للأسف! نعم فعلا! هذا النوع من “الفوكوية الدنيئة” قد أصابت الجامعات الأمريكية أيضًا. لكي يجعل نفسه في مظهر جيد في حفلة على الساحل الشرقي أو في كاليفورنيا، يتطلب ذلك احتقار الحقيقة. حتى اللحظة التي تم فيها انتخاب رئيس كان يكذب كذابا مثل خالع الأسنان. منذ ذلك الحين، كان من المضحك أن نرى أنه في هذه الجامعات نفسها، يقال إن الحقيقة ليست كلها في النهاية سيئة. إذا تجرأت على قول الحقيقة، فهناك فقط الحقيقة!
– مجلة Deux Mondes: لقد عدنا إلى الحقيقة منذ اختلاق ما بعد الحقيقة…
-ريمي براڭ: … إنها ممارسة على نطاق واسع. إن هؤلاء الطيبين يؤكدون فقط ما قاله سولجينيتسين في الرسالة الموجهة إلى قادة الاتحاد السوفياتي في سنة 1974 إن أسوأ ما كان في النظام اللينيني ليست الندرة ولا القمع بل واجب الكذب، ليقول إنه كان هناك مجتمعا اشتراكيا. أعتقد أنه يجب أن نتعلم منه. يجب أن يأخذ مفكرونا النسبيون الشجعان/الأخيار الحقيقة بجدية أكبر. ينبغي أن يحذروا من الكذب. إن التمسك بالحقيقة هو ما يوبخ أي شخص يدعي استخدام مفهوم الحقيقة في سياق غير سياق الرياضيات أو العلوم الحقة. أود أن أسمح لنفسي بدورها أن تسأل «الرفيق، من أين تتكلم؟»، بمعنى أن هذه الحقيقة التي لا تحبها يمكن أن تكون مجرد حقيقة متناقضة التي تحدث عنها القديس أوغسطين في الكتاب العاشر من الاعترافات، هذا يعني ذلك الذي يكشف عن نفسك في جوانبك الأقل إثارة للإعجاب، بينما تستمر بالطبع في الإشارة إلى الحقيقة المشرقة (الحقيقة التي تنير) على جميع الأشياء التي تريد معرفتها من أجل أن تتحكم. تدعي الأديان أنها في خدمة الحقيقة، ولكن عندما تدعي أنها تحتجزها، فإنها تجعلها سجينة، بمعنى أن هناك سجناء خلف القضبان في السجن وهذا غير مقبول.
– مجلة Deux Mondes: بيد أن هذا الادعاء بالحقيقة يطرح عددًا معينًا من المشاكل…
-ريمي براڭ: صدفة مضحكة: هذا الصباح بالذات، وجدت في بريدي رسالة أعيد توجيهها من قبل مطابع فلماريون Flammarion، والتي احتوت على نص يرجع إلى الأب بُرْيير Beurrier الذي ثار سنة 1774 ضد أنصار التسامح الديني. إنه أمر مثير للاهتمام. ولكن من المحزن تمامًا، أن المسيح قال «ستعرفون الحقيقة وسوف تحرركم الحقيقة»، استخدمنا الحقيقة كدبوس لإسكات الآخرين. أعتقد أن هناك مذنب مشترك للإعلان عنه، ومع ذلك، أنا لا أحب حقًا المذنبين حيث يتم الضرب على صدر أسلافهم؛ سيكون من الأفضل أن نبدأ منا نحن…
– مجلة Deux Mondes: هناك هذه الدعوة للحرية، ولكن هناك مقاطع أخرى، بما في ذلك «أجبرهم على الدخول» الشهيرة للوك (14، 23)، والتي كانت مشكلة طوال تاريخ الكنيسة…
-ريمي براڭ: أنا سعيد لأنكم أوردتم هذا المقطع؛ الذي قد يسمح لي بتبديد اللبس بين الأنماط المختلفة الموجودة في العهد الجديد. هذا المقطع للوك مثير للاهتمام لأنه حكمة. تم استخدامه من قبل القديس أوغسطين ضد الدوناتيين، لإجبارهم على دخول الكنيسة العظيمة…
– مجلة Deux Mondes: … وقد استخدمه لويس الرابع عشر في إلغاء مرسوم نانت l’édit de Nantes، ثم بواسطة بيير بايل Pierre Bayle ليقول إنه كان مخطئًا…
-ريمي براڭ: كان بيير بايل على حق ألف مرة! كان على الجانب الجيد، تمامًا مثل فولتير في رسالته حول التسامح، حتى لو كنت لا أحب فولتير لأنه سجن لابوميل La Beaumelle. لكني أطلب أن نقرأ النصوص وذلك من خلال تمييز القصص الصغيرة التي تم سردها – والتي يمكن أن تكون مثيرة للاهتمام – والمواقف التي يشهدون على ذلك.
مثال آخر: في مثل آخر -أعتقد أنه موجود أيضًا عند لوك- يقال كيف قُتِل مبعوثو الملاك من قبل زارعي الكرم. طرح يسوع السؤال: «كيف تصرف سيد الكرم؟» وكان الجواب، الذي قد يصعب تقديمه، لأن هناك مرتين نفس الكلمة في السجع مطلوبة تمامًا، كما يلي: «هؤلاء الأشرار، يجب أن يقتلوا بخبث» أو «هؤلاء المسيؤون، يجب أن يقتلوا شر قتلة»، كما كان يقال بلغة عفا عليها الزمن إلى حد ما. ولكن فهو رد فعل الجمهور، وليس موقف يسوع الذي مات من أجل جلاديه. يجب ألا نخلط ما في الكلمة، وحكمة الصالحين الذين أحاطوا بيسوع، وموقف يسوع نفسه. يجب إدخال العديد من الفروق الدقيقة هنا.
– مجلة Deux Mondes: إذا حاولنا إلقاء نظرة عامة على أحدث الأعمال التي نشرتها، فإننا نرى ثلاثية بارزة، ثم كتاب عن الدين، الذي يشبه نوعًا ما مقدمة لقراءة الكتب الأخرى. لدينا انطباع بأن ما تقترحونه هو نوع من الأنثروبولوجيا. يقدم الدين -المسيحي على وجه الخصوص- رؤية معينة للإنسان وتطوره في التاريخ. إلى أي مدى تغيرت رؤية الإنسان هذه عبر العصور؟ هل هي عرضة للتطور، أم للثورة؟ أم أن هذا التصور دائم للإنسان؟
-ريمي براڭ: هذا سؤال لم أطرحه على نفسي. إذا كان هناك تغيير في مفهوم الإنسان حسب الأديان، أو حتى هناك تطور محتمل… فأنتم محقون للقول إن أحد المواضيع الرئيسة، باعتبارها مسار التنقل الذي ربط الثلاثية العظيمة – الحكمة والقانون والحكم- هي الطريقة التي فهم بها الإنسان نفسه على خلفية الطبيعة وفيما يتعلق بالتعالي. إن التطور الوحيد الذي أراه بوضوح هو ما أدخلته المسيحية وهو المتمثل في توسيع نطاق النظر، أو الإنسان، إذا جاز لي أن أقول ذلك. بالنسبة للعالم القديم، حقق الإنسان ازدهاره المثالي فقط في الذكر البالغ الذي يتمتع بشرط حر وربما، اعتمادًا على حالات، إما منتمية إلى المدينة، أو إلى استبعاد الدخيل، أو إلى الشعب المختار، على عكس الأمم الأخرى. جلبت المسيحية ثورة في اتجاه أنها تعلم أن الجنين هو بالفعل إنسان، وأن رضيعا يجب ألا يكون مكشوفا لأنه إنسان، وأن عبدا، وامرأة، ووثنيا، وغير اليهودي، هم أيضا بشر بشكل كامل. من الممتع أيضًا أن نرى أنه في المقطع الشهير من رسالة بولس إلى الغلاطيين les Galates: «لم يعد هناك يهودي أو يوناني، لم يعد هناك عبد ولا رجل حر، ولم يعد هناك رجل أو امرأة»، تولى القديس بولس تفكيك الصلوات الثلاث الصباحية التي يذكرها اليهودي المتدين، شاكراً الله لأنه لم يخلقه وثنيًا أو عبدًا أو امرأة.
إنه نوع من توسيع النظرة التي تجعل من الممكن ألا يتمكن المرء من جلب استدعاء معيار جديد. كل الأخلاق تقول: «عامل جارك بطريقة إنسانية»، ولكن يبقى السؤال: «من هو جاري؟» السؤال الذي طرحه دكتور في القانون على يسوع ليس طريقة لركله إلى الجانب. وهو سؤال وثيق الصلة بالموضوع. سأستشهد في هذا الموضوع بنص لموسى بن ميمون يحظر فيه على يهودي أن ينقذ وثني من الغرق. عندما شرح موسى بن ميمون المقطع الشهير من سفر اللاويين [12]Lévitique XIX، 18: «ستحب جارك كنفسك»، في الواقع يشرح «ستحب شريكك في الدين». وربما كان هذا هو المعنى الأصلي. بالنظر إلى السياق: «سوف تتضامن مع أفراد قبيلتك». وهذا يثبت أن السؤال «من هو جاري؟» ما زال محرقا.
– مجلة Deux Mondes: ألا ينتهي هذا التوسع للتوصل إلى نوع من الأنسنة المنتشرة، ولن يعطي سبباً لمارسيل غوشيه، الذي يعتبر المسيحية دين الخروج من الدين؟
-ريمي براڭ: أفضل أن أسمي هذه الأنسنة بأنها إنسانوية. قال رونيه جيرار [13]René Girard: «الإنسانوية هي أنسنة جافة». افترضت الأنسنة، بكل أشكالها، أن الإنسان يستحق أن يتم تقديره، وإنقاذه، ليس بالمعنى الديني، بل وبالمعنى الأكثر بساطة للكلمة. المشكلة هي أننا لم نعد متأكدين من أننا نستحق الحفاظ على وجودنا على سطح هذه البسيطة. من ناحية، نمتلك الوسائل التي تجعلنا نلتزم الصمت، ويمكننا تدمير أنفسنا. ومن ناحية أخرى، لم نعد على يقين أننا أولئك الأخيار الذين تطلقهم هوليوود. قد نكون حتى الإنسان الشرير في التاريخ: نحن ندمر الكوكب والأنواع الحية، إلخ. يقول البعض إنه سيكون من الأفضل لنا الانحناء.
– مجلة Deux Mondes: أليس هذا أيضًا ما قاله كلود ليفي ستروس في كتابه مداريات حزينة[14]؟ كانت الأرض موجودة قبل وجود الإنسان وستظل موجودة بعد اختفائه…
-ريمي براڭ: لاحظ ذلك. لكن البعض يقول إنه سيكون من الأفضل إذا تخلصت من هذا النوع الغازي والمدمر. في أحد كتبي الكبيرة، اقتبست نصا من فلوبير من عام 1838. يخبرنا أن الأرض ستكون جميلة إذا لم يكن هؤلاء “المزعجون” من البشر من أجل جني الفواكه وكسر الفروع، الخ. لهذا، إن الأنسنة بالطبع، شريطة أن يكون لدينا مبدأ يسمح لنا أن نقول إن الإنسان يستحق، على الرغم من كل شيء، أن يستمر.
قال الفيلسوف الألماني يوهان غوتليب فيتشت في مقطع جميل بأنه لا حاجة للإيمان بالله. إن الله ليس موضوع إيمان بل أمر بديهي، لأنه موجود تحت أنواع القانون الأخلاقي. وفي المقابل، يجب أن نؤمن بالإنسان لأن التجربة تُظهر لنا أن هذا الأخير لا يتصرف على الإطلاق وفقًا للقانون الأخلاقي، وحتى العكس. لذا يجب أن يكون هناك إيمان بالإنسان. فالفكرة جميلة ولكن أتساءل ما إذا كان هذا الإيمان يمكن أن يتحقق من قبل شخص آخر غير الله.
بالعودة إلى سؤالك حول مارسيل غوشيه، هناك حقيقة ما في ذلك. ولكن أود أن أقول، مع صديقي القديم بيير ماننت Pierre Manent، إن المسيحية هي دين الدخول في الدين. بمعنى أن الدين الوحيد هو الذي لا يعدو أن يكون دينا، وليس نظامًا قانونيًا مثل اليهودية والإسلام، فهو ليس سوى دين الزهد يسمح بالخلاص بقوة المعصم مثل البوذية، أو أنه سياسة كما كان الدين الروماني.
فدين الخروج من الدين، ودين الدخول في الدين هما في نهاية المطاف الوجه الآخر لنفس العملة. لأن الدين يتركز في المسيحية على وجه التحديد نستطيع أن ننكر هذا الدين. لا يمكنك نكران دين ما يكون في الوقت نفسه أساس حياتكم الاجتماعية؛ إذا أسقطتم دينًا يقدم “نهجًا يتعين اتباعه”، فأنتم تصابون باضطراب التدمير الذاتي.
– مجلة Deux Mondes: هل المسيحية هي الدين الوحيد الذي يفصل بين المقدس والدنيوي، على أساس “من الضروري أن نعطي ما لقيصر لقيصر، وما لله لله”؟
-ريمي براڭ: من الصعب تفسير هذه القولة، لكن من الصحيح أنه تم تفسيرها تاريخياً بهذا المعنى على أنها مطالبة بالانفصال. هذا يعني أنه، بطريقة ما، لم يكن هناك قط فصل بين الكنيسة والدولة، لأنهما كانا دائمًا منفصلين! لذا فهي قصة متعرجة. في البداية، كان هناك اختلاف، في زمن الاضطهاد، عندما كانت المجتمعات المسيحية لا تتمايز عن الإمبراطورية الرومانية التي اضطهدتهم.
ثم كان هناك تقارب مع قسطنطين، قابله على الفور تشكيل قانون الكنسي والحركة الرهبانية. ثم كان هناك تقارب جديد مع الملكيات الكاثوليكية المطلقة والإنجيلية واللوثرية. في الوقت الراهن، نحن في مرحلة من الإقصاء، ومن التمدد. هذا يفترض أن هناك كيانين مميزين يمكنهما الرقص على الدائري-الترددي، وهذا الذي لا يظهر إلا مع المسيحية. أين الكنيسة في المدينة اليونانية؟ وفي الإمبراطورية الرومانية؟ لم يكن هناك أي شيء من هذا القبيل، كان واحدا وبنفس الطريقة.
– مجلة Deux Mondes: أليس الإنسان الذي لا يتصرف وفق القوانين الإنسانية لا يطرح مشكلة الشر؟ إن الإنسان مفترس ومدمر، بما في ذلك ذاته…
-ريمي براڭ: الشر… برنامج واسع، كما قال الجنرال! أو كما قال مالرو Malraux، لا توجد مشكلة شر، هناك نظام شر. جوابي الأول هو أن أقول: من أين يأتي الخير؟ إنه جواب بويس Boèce الذي استشهد بالمعضلة الشهيرة المنسوبة إلى أبيقور: «إذا كان الله موجودًا وبما أن هناك شراً، فإما أنه ليس القدير/العظيم، أو أنه شرير». تساءل بويس عما إذا كان الخير شيئا يمكن اعتباره أمرًا مسلمًا به، كما هو واضح، والذي يجب أن يكون مستحقًا لنا. إنه سؤال حقيقي: الخير ليس شيئًا قد نجده على الرصيف. فهو ذلك الشيء الذي يحدث. لأن حيثما يوجد الخير يظهر الشر. بدون الخير، لن نتصور الشر على هذا النحو!
– مجلة Deux Mondes: بالنظر إلى المسيحية فقط، لا يمكن الاستغناء في تفسير الشر، لما يسميه الدين المسيحي الخطيئة الأصلية، أي الطبيعة الفاسدة للإنسان. الخطيئة هي نصف، والخلاص هو النصف الآخر من العقيدة…
– ريمي براڭ: نعم، هناك الفكرة القديمة جدا عن الانهيار/السقوط، التي لم تتحرك في الثيولوجيا المسيحية ولكنها غائبة اليوم في التبشير. إنه لأمر غريب إلى حد ما، لأنه لا يمكن للمرء أن يقول إن القرن العشرين يمثل تقدمًا أخلاقيًا مقارنة بالقرن التاسع عشر. إذا كان هناك إنهاء الاستعمار، وهو أمر جيد حتى لو كانت عواقبه متفاوتة، فهناك أيضًا الكثير من الرعب، مثل الإبادة في أوكرانيا في 1932-1933، والمحرقة ابتداءً من يناير 1942، والإبادة الجماعية بكامبوديا، إلخ. من الغريب أننا لا نتساءل عما إذا لم يكن هناك شيء فاسد في طبيعتنا، شيء يكون من نظام المرض، والذي يجب أن نحاول علاجه.
هذا سؤال أود أن أطرحه من الناحية الكاثوليكية. أنا لست كالڨيني calviniste، ولا أعتقد أن الطبيعة فاسدة تمامًا. بل الأفضل أن أتناول التمييز التقليدي الذي نستخلصه من سفر التكوين: الإنسان المخلوق على صورة وتشابه الله: لقد حافظنا على الصورة (الحرية والعقل)، وفقدنا التشابه (القداسة).
– مجلة Deux Mondes: هذا يعني الكاثوليكي إلى جانب القديس توما وليس إلى جانب القديس أوغسطين، وباسكال، وبودلير، الذي يقول إن الإنسان «حصل على طعم الجريمة» في رحم أمه. لا نرى أحدا اليوم يكرر هذه الجملة في التبشير…
– ريمي براڭ: في الواقع، قد يكونون مهتمين بإعادة قراءة الجملة التي نسبها بودلير Baudelaire إلى واعظ مجهول: «إن أجمل حيل الشيطان هو إقناعك بأنه غير موجود». سيكون من الجيد التساؤل عما إذا كانت هذه الحرية وهذا العقل، اللذان حافظنا عليهما على الرغم من الانهيار/السقوط، يستخدمان أنفسهما بشكل جيد. هل نقترب من التشابه أو على العكس من ذلك نغرق في مساحة من الخلاف؟ وهذا التعبير للقديس أوغسطين. هذا الأخير انهار بصراحة في نهاية حياته من خلال جدله مع البيلاجيين les pélagiens وجوليان ديكلان Julien d’Eclane.
– مجلة Deux Mondes: ألن تذهب إلى حد القول إن الإنسان ولد خيراً؟
– ريمي براڭ: على وجه التحديد، إذا كان هناك انهيار، فهذا يعني أنه كان هناك شيء وقع فور ولادة الإنسان الأول. حتى أنني سأدفع المفارقة للقول إن فكرة الخطيئة الأصلية هي أخبار جيدة جدًا، لأنها تعني أننا لسنا فاسدين بشكل طبيعي. وهذا ما حدث. وبالطبيعة الحال، كان هذا الأمر بمثابة علامة لنا إلى الأبد، ولكنه قابل للشفاء. فما حدث عبر مجرى التاريخ، سواء كان أسطوريًا أو خياليًا أو متعالٍ، بناءً على الأسلوب الذي يريد المرء أن يتبناه، هو أيضًا أمر يمكن التراجع عنه. يسعدني أن أقول في مؤتمر في الولايات المتحدة أن الصيغة الأكثر تفاؤلا التي يمكن للمرء أن يتخيلها هي «يحدث القرف». إذا حدث ذلك، فهذا يعني أنه يمكن أن يختفي. نحن لا نقول «القرف موجود في الوجود»! كل ما يحدث يمكن التراجع عنه.
* باحث في الفلسفة السياسية – المغرب
[1]- REVUE DES DEUX MONDES, juin 2018.
[2]– Revue mensuelle fondée en 1829, Président d’honneur : Marc de Lacharrière, membre de l’institut.
[3]– ريمي براڭ Rémi Brague من مواليد 1947 بباريس، فيلسوف ومؤرخ للفلسفة الفرنسية، مختص في الفلسفة العربية الفروسطية. كان يدرس الفلسفة اليونانية الرمانية العربية بجامعة باريس 1 وبجامعة لويس -إ- ماكسيميليان Louis-et-Maximilienبميونيخ. له العديد من المؤلفات حول الدين المسيحي، كما تعتبر أبحاثه جزءاً من تاريخ الأفكار، وكذلك قارن بين الديانات الثلاثة التوحيدية.
[4]– Rémi Brague, Sur la religion, Flammarion, Paris, 2018.
[5]– يقصد بالانتليجينسيا تلك الفئة من الأشخاص المتعلمة والمثقفة التي تعمل على نقد الوضع الثقافي السياسي للمجتمع كما تقوم بتوجيهه.
[6]– Guillaume Cuchet, Comment notre monde a cessé d’être chrétien, Anatomied’un effondrement, Seuil, Paris, 2018
[7]– Paul Veyne, Quand notre monde est devenu chrétien, Albin Michel, 2007.
[8]– Marie-Françoise Baslez, Comment notre monde est devenu chrétien, CLD, 2008.
[9]– Personnages célèbres de romans anglais popularisés par des séries télévisées : Jeeves and Wooster et Downton Abbey.(المترجم)
[10]– Führer= Leader وهي من كلمة مشتقة من فعل ألماني führen وتعني قاد، ووجه، وأرشد وتعني هنا الزعيم (المترجم)
[11]– Jan Assmann, Le Prix du monothéisme, Trd. Laure Bernardi, Eds. Aubier, 2007. (المترجم)
[12]– سفر اللاويين Lévitique وهو الثالث من الكتاب الخامس للتوراة. واللاوي كاهنعبرانيمنقبيلةليفي. يتحدثعنالواجباتالكهنوتيةفيإسرائيل. ويؤكدقداسةاللهوالنظام الذييمكنلشعبهأنيعيشبهليصبحمقدساً. (المترجم)
[13]– رونيه جيرار (1923-2015)، ولد بمدينة أفينيون Avignon، فهو أنثروبولوجي ومؤرخ وفيلسوف فرنسي. (المترجم)
[14]– ستروس كلود ليفي، مداريات حزينة، ترجمة محمد صبح، مراجعة د. فيصل دراج، الناشر دار كنعان، دمشق، الطبعة الأولى 2003/ 2000. (التعريف من عندنا).