الشاشة الفلسفيةترجمة

بيترو بيمبينيلا Pietro Pimpinella: النظرية الوولفية للفنون في أصل الإستيطيقا

تلخيص:

كان لوولف تأثير حاسم في تأسيس الإستيطيقا خلال القرن الثامن عشر، بحيث أن السويسريين بودمرBodmer و بريتينجرBreitinger، وأيضا غوتشيدGottschedوباومغارتنBaumgarten قد استعملوا نظرياته المنطقية، السيكولوجية والأنطولوجية لإعادة التأسيس الجذري لنظرية الفن. يبين المقال أنّ اعتبارات وولف نفسِه، على الرغم من كونها متفرقة داخل كتاباته، تشهد سلفا على نقاش مكثف مع الفنون. نقدم في هذا المقال أولا تصوره العام وتصنيفه للفنون. بعد ذلك نتطرق إلى وظيفة النظريات المنطقية والميتافيزيقية التي تتعلق بالخصوص بالمعرفة الحدسيةConnaissance intuitive والكمال Perfection في إطار تبريره الأصيل للغاية التقليدية للفن (باعتباره Delectare et Prodesse{مبهجا ونافعا}) وللجمال، معرَّفا كتناغم. الجزء الأخير يبرز إنجازاته النظرية على سبيل المثال نظرياته عن الحكاية الخرافية  Fableوالهندسة المعماريةArchitecture.

التصميم:

      تصنيف الفنون وفلسفة الفنون

      مبهج ونافع

      المسرح والحكايات الخرافية: أخلاق ومعرفية حدسية

      الكمال والجمال

      الهندسة المعمارية: الأداء الوظيفي والجمال

      العوالم الممكنة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لم يخصص كريستيان وولف للفنون دراسة مستقلة، مع أنه كان ينوي ذلك(1). بالفعل، قد تطرق وولف للفنون والجمال في مواضع مختلفة من فلسفته: في الإيتيقا، في نظرية السياسة، في السيكولوجيا، في المنطق، في الأنطولوجيا وفي ذلك الجزء من الرياضيات الذي يتخذ الهندسة المعمارية موضوعا له(2). يمكن أن نميز في عمل وولف طريقتين لتناول تيمة الفن: واحدة مباشرة، والأخرى غير مباشرة. يرجع وولف إلى الفنون لكي يشرح ويبين، على سبيل المثال، نظريات أساسية في فلسفته، متعلقة بالمعرفة الحدسية، بملكات المعرفة وخاصة بالخيال والعقل(Ingenium)، بالأهواء، باللغة، بالمفهومالأنطلوجي للكمال، والكوسمولوجي للعالم الممكن. وهكذا يرسم خريطة مفهومية لميدان الفنون، والتي ستلهم المنظرين الأكثر أصالة للنصف الأول من القرن الثامن عشر، من أجل إعطاء نظرية الفن مكانتهاكفرع مستقل. سوف يستعمل باومغارتن النظريات الوولفية لبناء إستيطيقاه الخاصة. تماما مثلما فعل كل من غوتشيد والسويسريين بودمر و بريتينجر، للتخطيط لشعريتهم النقدية(3). عندما يتناول وولف الفنون بطريقة مباشرة، على سبيل المثال، الحكايات الخرافية في إطار الإيتيقا أو الهندسة المعمارية في إطار العلوم الرياضية، يستخدم نظرياته في المعرفة الحدسية، في الخيال، في العقل وفي الكمال من أجل إعطاء أساس فلسفي جديد للتصور التقليدي للفن من جانبين مركزيين: غاية الفن، مُتصوَّرا باعتباره مبهجا ونافعا، وطبيعة الجمال، منظورا إليه باعتباره تناغما(4). وتنشئ نظرية وولف علاقة نسقية بين هذين الجانبين.

تصنيف الفنون وفلسفة الفنون

الخيط الرابط في نظرية وولف للفنون هو التصور الوحدوي Unitaire للفن، والذي يتفرع عن المفهوم الكلاسيكي (Techne). يعرف وولف الفن كقدرة لدى الإنسان على إنتاج شيءٍ – في جزء عن طريق قوى العقل وفي جزء آخر عن طريق قوى الجسد- ما كان ليتحقق أبدا بطريقة أخرى(5). مثلا، مهارة الشاعر تنتج شعرا، ما كان لولاه أن يوجد أبدا؛ هذه المهارة تسمى فن الشعر(6). هذه القدرة على إنتاج الأشياء معززة بمجموعة من التقنيات التي، عندما تُقنن، تسمى قواعد الفن.

يعطي وولف معيارا عاما لتصنيف الفنون: بحيث أن الأنماط المختلفة للأشياء المُنتَجة تشكّل الأنواع المختلفة للفنون(7). متّبعا هذا المعيار الحدسيّ، يرتب الفنون منطلقا من تلك التي تكون ببساطة حرفية تماما للوصول إلى تلك التي تتطلب معارف تقنية أكثر حدة، كبناء الآلات، أو ذوقا متطورا، كفن الحديقة أو التزيين؛ أو أيضا منطلقا من فنون التسلية، كفنون التهريج والمغنين الجوالين في المعارض، وصولا إلى تلك الفنون التي نسميها فنونا كبرى أو فنونا جميلة: فنون الكلام كالشعر، الحكاية الخرافية، الرواية؛ الفنون التصويرية كالرسم والنحت؛ الفنون المشهدية كالمسرح والأوبيرا؛ موسيقى الآلة والغناء؛ الهندسة المعمارية. وحتىتقنيات المعرفة العلمية مثلErfindungskunst, Erfahrungskunst, Versuchskunst {فن الاختراع، فن التجريب، فن الملاحظة}، تسمى هي الأخرى فنونا. يقوم وولف إذن بذكر مجموعة واسعة من الفنون في سياقات مختلفة، تردنا كلها إلى المفهوم الكلاسيكي Techne (ars,kunst،{فن}(.

نجد في كتاب Duscursuspraeliminaris تصنيفا مستلهما من معيار نسقي. حيث يقسم وولف الفنون إلى مجموعتين كبريين: الأولى تضم الفنون الميكانيكية، والثانية الفنون الحرة كالنحو، الخطابة والشعر، ومن أجل هذا التصنيف يرجع وولف إلى كتاب كومبانيلاPhilosophiarationalis(8). في هذا التصنيف، لا نجد لا الفنون الصغرى ولا الكبرى أو الفنون الجميلة. مع ذلك، إذا جمعنا هذه الفنون مع الفنون الحرة، يمكننا أن نردّ تمييز وولف بين الفنون الحرة والميكانيكية إلى تمييز أكثر قدما، والذي نجده عند ديموقريطس وأرسطو: وهو تمييز يفصل بين الفنون التي تستخدم في ضروريات الحياة والفنون التي تستخدم للنهوض بالثقافة وتجعل الحياة ممتعة(9). داخل هذا التقسيم الفرعي الثاني، يقوم وولف بتمييز بين الفنون الممتعة المحضة، والفنون التي، بواسطة ومن خلال اللذة، تصبو إلى هدف أكثر سموا من التسلية البسيطة. فالفنون الكبرى، كما هو الحال بالنسبة للحكايات الخرافية والهندسة المعمارية، تصبو إلى هدف مزدوج متمثل في الإبهاج وفي أن تكون نافعة Delectare et Prodesse.

يعتبر وولف قيام فلسفة أو علم للفنون أمرا ممكنا، بل ومستحبا، سواء أكانت الفنون الميكانيكية أو الحرة أو الجميلة، وهو علم، حسب رأيه، تم إهماله إلى حد الساعة(10). تجد الفنون الميكانيكية فلسفتها في التقنية أو التكنولوجيا، التي تُعَرَّفُ باعتبارها علم تلك الأشياء التي ينتجها الإنسان بواسطة أعضاء الجسد، وخاصة باليدين(11). الفنون الحرة كذلك لها أساسها الفلسفي: النحوية في فلسفة النحو، الخطابية في فلسفة الخطابة والشعرية في فلسفة الشعر. تستقي التكنولوجيا مبادئها من الفيزياء التجريبية والنظرية؛ أما فلسفة النحو فتستمد مبادئها من الأنطولوجيا والمنطق والسيكولوجيا؛ وتأخذ فلسفة الخطابة مبادئها من هذه الثلاثة الأخيرة ومن الأخلاق(12). لا يذكر وولف الفروع الفلسفية التي تمنح مبادئ فلسفة الشعر، ونتيجة لذلك، يمكن أن نفكر في أن الأمر يتعلق بتلك الفروع الفلسفية الخطابية.

مهمة فلسفة الفنونهي؛ أن تسلط الضوء على قواعد الفن والأحكام المحمولة على الأعمال الفنية. تقليديا؛ كان الفن مفهوما كمجموعة قواعد(13). كل الفنون مؤسسة على التجربة، وهذا يعني في التعبير الوولفي، على المعرفة التاريخية. تُقَنِّنُ قواعد الفنون وتنقل تراثا تجريبيا، تستقي منه سلطتها. المعرفة التاريخية بالنسبة لوولفهي أساسُ المعرفة الفلسفية وبالتالي هناك تبادل من الطرفين بين الفنون والفلسفة.ففلسفة الفنون مطالبة بإعطاء تأسيس فلسفي لقواعد الفن، وهذه القواعد لا تكون بلا أهمية عند التطبيق. نتيجة لذلك، مكّن التأسيس الفلسفي للقواعد من استعمالهابوعي أكثر؛  إذ تساهم فلسفة الفنون في تقييم قيمة هذه القواعد المنقولة. لا ينحاز وولف لا إلى سلطةالتراثولا إلى القيمة المطلقة للقواعد. وفي إشارة إلى نزاع القدامى والمحدثين، يعرب عن ندمه على أن سلطة القدامى كانت عقبة حالت دون تقدم الفنون في العصر الحديث(14).

فلسفة الفنون ليست علمامعياريا بل علم أسس. فقواعد الفن التي لا يمكن اعتبارها عقلية لأنها نتاج للمعرفة التاريخية، تحتاج إلى أساس عقلاني، هذا الأساس معطى من طرف الفلسفة أو علم الفنون. وعندما يميز باومغارتن في كتابه (التأملات)Les Meditations بين Poetice مُعرَّفةً باعتبارها مجموع القواعد التي يجب أن يتوافق معها العمل الشعري، وفلسفة الشعرphilosophiapoetica المسماة أيضا علم الشعرscientiapoetices، فهو يستعيد حرفيا مشروع وولف(15). يتطلب رد الفنون إلى فلسفتها أو علمها قبل كل شيء تاريخا للفنون. إننا، بحسب وولف، قد تفلسفنا قليلا حول الفنون، والسبب الرئيسي لهذا هو المعرفة غير الكافية بتاريخها(16). لا يلغي التأسيس العلمي للفنون استقلاليتها عن باقي العلوم. لهذا السبب، يقترح وولف فصلا بين أكاديميات العلوم وأكاديميات الفنون(17). في هذه الأخيرة نتعلم الصنعة عن طريق التطبيق، لكن نتعلم أيضا التقنيات والمعارف العلمية المفيدة في كل علم. على سبيل المثال، من المفيد للرسام أن يضبطالمنظور، ما يستدعي معرفة بالهندسة والبصريات. نفس الشيء بالنسبة للمهندس المعماري، من الضروري أن يعرف الفيزياء وخاصة علم السكون وعلمالمواد.

معرفة العلوم ليست كافية ليصير المرء فنانا. فحتىمن قبل، في التصور التقليدي، كان بديهيا أن مراقبة القواعد التقنية لا تكفي لكي يصير المرء شاعرا أو رساما.  هذه الوصفة غير المجدية للقواعد كانت قد انتقدت، بطريقة صارمة، في فترة النهضة. حيث يهاجم برونو Bruno “بعض المدافعين عن قواعد الشعر” والذين هم “أغبياء حقيقيون”. و”بعض متحذلقي عصرنا” الذين يريدون أن يُخرجوا من عائلة الشعراء أولئك الذين لا يقلدون هوميروس أو فيرجيل: “هوميروس في عبقريته، لم يكن شاعرا يتبع القواعد: إنه في أصل القواعد”(18). برونو الذي يستبق مفهوم باومغارتنIngeniumarchetipum {عبقرية أنموذجية}، وكذلك المفهوم الكانطي، عن العبقرية التي تملي القواعد على الفن، اتبعه في ذلك كومبانيلا، وهو السلطةُauctoritas التي يستشهد بها وولف في ميدان الشعر. فكومبانيلا يرفض تقليد القوانين الكلاسيكية، وكذلك المفهوم الأرسطي {المحاكاة}Mimesis(19). يتبنى وولف مفهوم التمثيل، وهو مفهوم مميز في تصور كومبانيلا مكان مفهوم المحاكاة Imitation(20).

مبهج ونافع

حتى في خضم انتقادهما لنزعة الحذلقة بالقواعد، مع ذلك، بقي كل من برونو وكومبانيلا وفيين إلى التصور التقليدي الذي يسند للشعر الغاية المتمثلة في الإبهاج والنفع(21). يميز وولف في كتاب Duscursuspraeliminaris، الوظائف المتنوعة للفيلسوف والخطيب والشاعر: “الفيلسوف يكتب ليكون نافعا، لا ليقنع كالخطيب، وأقل من ذلك لكي يبهج كالشاعر(22)”. خلافا للتقليد الإغريقي الذي يعرف الفلسفة بكونها بحثا محايدا عن الحقيقة، يركز وولف على نفعية الفلسفة. في هذا السياق، لا يعزو بشكل صريح وظيفة النفعية لا إلى الشعر ولا إلى فن الخطابة. إن في إسناد أهداف متمايزة للفلسفة ولفن الخطابة والشعر، إضمار لحكم قيمة يتردد صداه في منظور مختلف (أي منظور النفعية وليس الحقيقة)، في الجدال الأفلاطوني ضد الشعر والخطابة. يؤكد وولف رغم ذلك أنه لا الشاعر ولا الخطيب يستحقان أن يكونا محتقرين. ولا يجب أن يطردا من المجتمع، كما يطالب بذلك أفلاطون. فحتى الشاعر والخطيب يقومان بوظيفة لصالح الثقافة والدراسات الإنسانية. إذ يكسو الشاعر بالجمال الحقائق النافعة للحياة ويجعلها في متناول الجميع، حتى أولئك الذين لا يستطيعون القبض عليها في عريها، أي في صيَغِها العقلية الصارمة(23).

يوّلِّدُ الجمال لذة ذات طبيعة خاصة، تمتاز عن اللذة التي تصاحب البحث عن الحقيقة العقلية وممارسة الفضيلة، باعتبارها بالتحديد لذة حسية(24). من أجل وصف لذة الفن في خصوصيتها، يستعمل وولف مصطلح Ergötzung الذي يمكن أن نترجمه “بهجة Délectation”. في كتاب {السياسة الألمانية}Deutsche politik، تُقسّمُ الفنون إلى مجموعتين كبريين: تلك التي توفر لذة للعيون، كالرسم، النحت والفنون التشكيلية عامة، فنون الحدائق والنوافير، وتلك التي توفر لذة للآذان، كموسيقى الآلة أو الموسيقى الصوتية، والمسرح والشعر(25). وحتى الخطباء يوفرون لذة للآذان، لكن لذة الشعر الجيد أكثرُ سموّاً.يجب أن تكون لذة الحواس التي ترافق الفن بريئة، أي أنها يجب أن لا تستحث عواطف مستنكرة ويجب أيضا أن لا تكون تافهة، يعني أن لا تصلح فقط لتزجية الوقت: فالبناء لا يكون فقط جميلا لكن له أيضا وظيفة(26)؛ ومؤلفو المسرح، الحكاؤون والشعراء يكسون بالجمال حقيقة أخلاقية؛ والموسيقى أيضا لها منافع أخلاقية باعتبارها تستثير كل أصناف العواطف(27).

يؤيد وولف بشكل صريح في كتاب {الفلسفة العملية}Philosophicapractica ما مفاده أن الشعراء لا يُسعِدون فقط، لكن لهم بالإضافة إلى ذلك نفس نَفْعِ الفلاسفة، بما أنهم يستعرضون حقيقة أخلاقية ويقنعون كالخطباء، بحيث أنّ الطبيعة الخاصة لتمثيلاتهم تعطي للحقيقة الأخلاقية قوَّةً كبيرة على الإقناع(28). بالنسبةلوولفترتكز الأخلاق على المعرفة وتفترض بشكل خاص معرفة بالأهواء. للفن منفعةٌ أخلاقية، ليس بالقدر الذي يدعو بهإلى تعاليم أخلاقية، لكن لأنه يروج معرفة حية بالأحاسيس والأهواء وكذلك بصراعهما المحتمل مع الواجبات الأخلاقية. لا يعطي وولف سوى خطاطة مختصرة لوظائف الشاعر والخطيب المختلفة: الشاعر يكسو الحقيقة بالجمال بينما يجعلنا الخطيب نقع في حب الحقيقة(29). سوف يطور باومغارتن بدقة التمييزَ بين إقناع الشاعر وإقناع الخطيب(30). للموسيقى وظيفة أخلاقية لأنها وهي تثير كل أنواع الأهواء، تُغْنِي وتلطّف أحاسيسنا الأخلاقية. هذا التأويل مؤيدٌ بمفهوم Appercepturitio، الذي استعاره وولف من لايبنتز: الرغبةُ تفترض مسبقا المعرفةَ وفي نفس الوقت تحتوي توقّعا للمعرفة(31).

المسرح والحكايات الخرافية: أخلاق ومعرفية حدسية

كان كومبانيلا قد جعل غاية الشعر في تعليم الحقيقيِّ والخيِّرِ عن طريق اللذة(32). وقدأسس وولف لهذه الأطروحة بطريقة أصيلة، كما يمكننا أن نرى ذلك في نظريات المسرح والحكاية الخرافية. الكوميديات هي تمثيللأحداث سعيدة، بينما التراجيديات تُمثّل أحداثا كئيبة، والتي تبين عن طريق محاكاتها في مشاهد، من طرف شخوص أحياء، كيف أنّ الأحداث السعيدة تأتي من الفضيلة، والأحداث الحزينة من الرذائل(33). لا يصف وولف التراجيديا والكوميديا بمعنى كلاسيكي، إنما يصف الدراما ذات النهاية المرحةأوالحزينة، التي يمكننا أن نستخلص منها تعليما أخلاقيا. هذين الجنسين من المسرح يمثلانوضعيات نموذجية. والتي كما وضعياتالحياة، تبين كيف أن التحكم في الأهواء الذميمة والرغبة في الخير، يسهمانإلى تحسين أخلاق الإنسان. أهمية النظرية الوولفية المختصرة للمسرح لا تكمن في تعريف التراجيديا والكوميديا، بل في توصيفها للطبيعة الحدسية للتمثيلات المسرحية. للمسرح امتيازات في علاقته بالنموذج المستقى من التاريخ الحقيقي، لأنه يُنتِجُ انطباعا أكثر حيوية لدى المتفرج عن طريق البداهة الحدسية لتمثيله الذي يستخدم الصوت والحركات: “بالفعل ما نشاهده بأنفسنا بأعيننا وما نسمعه بآذاننا يؤثر ويبقى منطبعا فينا أكثر من ما نتعلمه عن طريق المسرودات (34).” فضلا عن ذلك، تكثِّف التراجيديات والكوميديات الأحداث التي تنحل داخل الزمن في التاريخ الحقيقي. نتيجة لذلك، للتمثيل المسرحي لعواقب الأفعال الحسنة والسيئة وقع عاطفي أكثر شدّة على نفس المتفرج. لهذايستحضر وولف الرقابة من أجل الحفاظ على الغاية الأخلاقية للمسرح، مثلما يفعل أفلاطون في الجمهورية. فالخطر الذي يشكله المسرح أكثر أهمية حيث أنّلغته تؤثر لأنها تُكلّم مباشرة العيون والآذان.

يتضح سبب الأهمية التي يوليها وولف للبداهة الحسية للتمثيل المسرحي جيدا عند فحص نظريته عن الحكاية الخرافية. Les fabulae، تعني القصص المبتكرة، ألديها هي الأخرى امتياز في علاقتها بالنماذج المأخوذة من التاريخ الحقيقي؟ يضع وولف بطريقة نسقية في كتاب {الفلسفة العملية}Philosophiapratica نظرية عن النماذج، مظهرا كيف أنّ النموذج يمنح معرفة حدسية، والتي هي معرفة حية عن الحقيقة الأخلاقية المؤسَّسة على العقل(35). بعد ذلك نقل نظرية النماذج للحكاية الخرافية، في النهاية، بين كيف أن الحكايات الخرافية تهب معرفة أكثر حدسيةً وبالتالي أكثر حيوية من النموذج.

يُعرف وولف الحكاية الخرافية بـأنها سرد لواقعة مبتكرة، موجَّهٌلتعليم الحقيقة وخاصة الحقيقة الأخلاقية(36). متتبعا نظرية الخطيب أفتونيوسAphtone عن الحكاية الخرافية، درس وولف قبل كل شيءهذا النمط من الحكايات الخرافية التي يسميها فايدروسPhèdre:Apologus وFabulla، أي هذه القصص الموجزة التي تصوِّرُ حكمة أخلاقية أو حذرا، مذكورة بشكل صريح في بداية أو نهاية الحكاية. في حكايات فايدروسوإيزوبوس الخرافية هناك تجاورٌ لحقيقة أخلاقية يمكننا أن نبرهن عليها بطريقة عقلية مع حكاية مبتكرة تصورها بشكل حدسي. يُدخل وولف في جنس الحكاية الخرافية أيضا القصص المبتكرة التي نجدنماذجها الأصلية Archétypesعند هوميروس. هوميروس هو أول مبتكر للحكايات الخرافية وحكاياته ليست أقل انتشارا من حكايات إيزوبوس القصيرة(37). تتعارض القصة المبتكرة مع القصة الحقيقية التي تعود إلى وقائع حدثت فعلا. لهذا السبب كان أفلاطون قد اتهم الشعراء بالكذب، مدخلا في اتهامه رواة الأساطير بما فيهم هوميروس الذي يعتبر معلِّم{التربية}Paideia(38).

الدفاع الوولفي ضد التهمة الأفلاطونية ببطلان الحكاية الخرافية يستعيد أرسطو في نقطة جوهرية: الشعراء لا يكذبون، وهذا لأنهم يعون بأن قصصهم “خيالية”، ولأنهم لا يقدمونها باعتبارها وقائع حدثت فعلا. يؤكد أرسطو أن المسرودات الشعرية فلسفية أكثر من المسرودات الوقائع التي حصلت فعلا، لأن المسرودات الشعرية نموذجية أكثر بفضل عموميتها، أي أن شخوصها مجرّدة جزئيا(39). حول هذه النقطة، يختلف وولف عن أرسطو إذ يؤيد أن نجاعة الحكاية الخرافية، باعتبارها نموذجا لإظهار الحقيقة الأخلاقية، عائدة إلى سمة عينيّة، يعني إلى الطبيعة الحدسية لتمثيلها. تمتلك الحكاية الخرافية حقيقة خاصة بها لأنها تربط الحقيقة الأخلاقية بالمعرفة الحدسية(40). مصطلح Réductio {اختزال}، هو مصطلح تقني في المنطق الوولفي. مبدأ الاختزال هو حيلة يمكن من خلالها لموضوع غير معروف أن يُردّ، عن طريق التشابه، إلى موضوع مألوف(41). يُجري الاختزال عبورا من اللامعروف إلى المعروف، ولهذا السبب، يستعمل كثيرا في فنون الابتكار Ars inveniendi.يجب أن يصنّف مؤلفو الحكايات الخرافية من بين مبتكري الحقائق inter inventores veritatis))، بما أنهم يترجمون الحقيقة الأخلاقية، التي لدى قلّة قليلة من الأشخاص مَعرفة عقلية بها، إلى حقيقة حدسية متاحة للجميع(42). يكمن ابتكار الحكاية الخرافية في نقل حقيقةمجردة إلى سرد لوقائع ملموسة تعبّر عنها بطريقة حدسية. يتطلبهذا النقل شرطين: أن تكون الوقائع “شعبية”، أي معروفة ومتاحة لمجموع الناس، وأن يَعْرِفَ مؤلفو الحكاية الخرافية كيفية إعطاء دلالة للحقيقة المجردة عن طريق سرد قصة مبتكرة. من أجل إستيفاء الشرط الأول، يجب على مؤلفي الحكاية الخرافية أن يمتلكوا تجربة العالم Experiencia communis  وعلى الخصوص تجربة الذات Experience de soi (experientia domestica,experientia intima)(43)، لإستيفاء الشرط الثاني، يجب أن يتحلوا بالخيال، البراعة والعبقرية (acumen et ingenium)(44). تهبنا التجربةُ الشخصية الأشياءَ الحاضرةَ، لذلك تمنح معرفة أكيدة وحية تضفي على الحكاية الخرافية قوة إقناعية كبرى(45).

تقاس فخامة الحكاية الخرافية بقدرتها على الإقناع. تشهد هذه الأخيرة على براعة وعبقرية مبتكرها(46). تكمن العبقرية ingenium في القدرة على القبض على التشابهات: ترتكز قوة إقناع الحكاية الخرافية على تعرية التشابه بين الحقيقة الأخلاقية والوقائع المسرودة، الوقائع التي يبتكرها الشاعر متوسّلا الخيال وانطلاقا من التجربة الشخصية. البراعة موقوفة على الإدراك الواضح للوقائع الفردية؛ فالحكاية الخرافية كما النماذج، تمنح معرفة حدسية لحقائق كونية إذ تعبر عنها في هيئة وقائع فردية(47). يمكننا إذن تعريف الحكاية الخرافية باعتبارها نماذج مستقاة من التجربة الشخصية، ولهذا السبب، لها قوة حدسية وإقناعية تفوق في قوتها النماذج المأخوذة من التاريخ. نفهم القوة الحدسية لحقيقة الحكاية الخرافية بشكل خاص من خلال الحكايات التي تقنعنا، بخَيْرِيَّةِ اتباع القواعد والحذر، باستعمال حجة بالضد a contrario. هذه الحكايات تجعل الحماقة ملموسة، يمكننا تحسسها بأيدينا: إنها تضفي وضوحا، أي بداهة حدسية، على الحِكَمِ الأخلاقية وعلى الحذر(48). إضافة إلى طبيعتها الحدسية وقوتها الإقناعية، تبلِّغ الحكاية الخرافية معرفة عن الحقائق التي لا تكون مفيدة فقط للشعب غير المثقف، بل وكذلك للأشخاص المثقفين وحتى الفلاسفة؛ هؤلاء لا يستمتعون بها فقط إنما يحوزون أيضا معرفة أكثر نفاذا عن عالم القيم والأهواء بما أن الحكايات الخرافية تنتج توافقا بين العقل والمعرفة الحسية(49). سيستعيد باومغارتن المصطلح الوولفي عن المعرفة الحية وانطلاقا من نظرية المعرفة الحدسية والملكات المعرفية المستعملة فيها، سوف يطور تصوره عن المعرفة الاستيطيقية، وكذلك تصوره عن الفن باعتباره معرفة فردية.

الكمال والجمال

يبين وولف من خلال نظرية المسرح والحكاية الخرافية، أن التراجيديات والكوميديات والحكايات الخرافية؛ نافعة، لأن ابتكارها وتلقيها من طرف الجمهور والقراء متعلق بالمعرفة الحدسية. يتوجب على وولف بعد ذلك أن يشرح لأي سبب تمنحنا هذه الأعمال الفنية لذة(50). يعرّف اللذة بأنها حدس، أي معرفة حدسية بكمال شيء ما، وعكس ذلك يعرّف الجمال بأنه إدراك للكمال الذي يبعث فينا لذّة(51). مفهوم الجمال يستدخل إذن مفهوم الحدس، اللذة والكمال.

يعرف وولف في الأنطولوجيا Ontologia الكمال باعتباره “توافقا داخل التنوع”، أي توافق مجموعة متنوعة من الأشياء داخل وحدة. “أسمي توافقا النزوع أو الاستعداد للحصول على شيء متجانس(52)”. كان لايبنتز قد عرف الكمال كتناغم، أي كوحدة داخل التنوع(53). يعيد وولف صيغة مفهوم لايبنتز من خلال مفاهيم النظاموالتشابه أو المماثلة: وهي مفاهيم مركزية في أنطولوجيته، كوسمولوجيته و في النظرية العامة للمعرفة. “النظام هو تشابه يتجلى في الكيفية التي تتعايش وتتابع بها الأشياء(54)”. وعلى النظام ترتكز المتعاليات الثلاثة: الوحدة، الحقيقة والكمال(55). يكون كمال شيء ما أكبر بقدر عدد التشابهات التي نجدها فيه وكلما كانت الغاية التي هو مطالب بحكم طبيعتهبتحقيقها منسجمة(56). إدراك الكمال إذن، وبالتالي إدراك الجمال، هو إدراك للتشابهات. مفهوما الجمال والكمال لا يتطابقان، لأن الجمال ليس هو الكمال وحسب بل هو الكمال مُدركا بشكل حدسي. على سبيل المثال: إذا كان كمال ساعة ما –كمالا متوقفا على القياس الدقيق للوقت بفضل الترابط المضبوط لعجلاتها- يتم تقييمه بحسب حكم عقلي، يمكنه أن يوفر لذة فكرية وليست لذة إستيطيقية. لكن إذا كان كمال ساعة ما موضوع حكم حسي، آنذاك يمكننا الحديث عن جمال تلك الساعة.

مفهوم الجمال مفهومٌ عام يحتاج إلى تحديد وفق الطبيعة المختلفة لأنماط الوجود. لا يمكننا أن نحكم على كمال ساعة بمعايير مطابقة للمعايير التي تستخدم للحكم على كمال حكاية خرافية أو لوحة فنية. فنحن ندرك جمالا أكثر في حكاية خرافية ونستخلص لذة أكبر بقدر ما ندرك التشابه بين الحقيقة الأخلاقية التي هي مطالبة بالتعبير عنها والتمثل الحدسي الذي تعطيه عن هذه الحقيقة، بما أن تشابه الحقيقي والخيالي يشكل طبيعة الحكاية الخرافية(57). وندرك جمال لوحة فنية عندما ندرك تشابهها مع الموضوع الذي تريد تمثيله، نظرا لأن كمال صورة ما رهين بتشابهها مع “نموذجها الأولي Prototype”؛ هذا النموذج الأولي يمكن أن يكون موضوعا، ليس فقط واقعيا بل وفانتاستيكي أيضا(58).حتى في سياق فن الرسم، المفهوم الأساسي هو مفهوم التشابه وليس مفهوم محاكاة الطبيعة. ينبهناوولف بأن الحكم على انسجام لوحة فنية في علاقتها مع الواقع الموضوعي يعني ارتكاب خطأ تدليسٍ، أي اعتبار تمثيل تصويريٍّ موضوعا طبيعيا(59).

الهندسة المعمارية: الأداء الوظيفي والجمال

مفهوم الجمال، باعتباره إدراكا للتشابهات والتحقّقِّ المتناغم لغاية ما، تم تطويره من طرف وولف في دراسات حول الهندسة المعمارية باللاتينية والألمانية. للهندسة المعمارية بالنسبة له قيمة الباراديغم الذي كانت تمثله الموسيقى لدى لايبنتز وديكارت. ما قام به وولف بالنسبة للهندسة المعمارية وهو تلك العملية الأولية التي كان قد وضعها من قبل باعتبارها ضرورية من أجل ضمّ الفنون إلى العلم. حيث أعاد بناء تاريخها انطلاقا من فيتروفVitruve  وألبيرتيAlberti، ومن خلال أكثر الدراسات أهمية، سواء منها الإيطالية، الفرنسية، الإنجليزية أوالألمانية لفترة النهضة، والقرن السابع عشر والعقود الثلاثة الأولى من القرن الثامن عشر(60).

مرتكزا على قاعدة التاريخ، يعلن وولف قواعد الهندسة المعمارية ويعطيها أساسا فلسفيا، أي أساسا علميا، من وجهة نظر إستطيقية وتقنية صرفة. يعتزم إذن إرجاع الهندسة المعمارية، التي تُعَدُّ في أفضل الأحوال كصنعة(Handwerk)، إلى فلسفة الفنون. الحاجة الملحَّة لهذا التأسيس كان قد عُبّرَ عنها من قبل من طرف فيتروفVitruve ولهذا السبب يسميه وولف “مسلّمة فيتروف  le postulat de Vitruve”(61). للهندسة المعمارية غاية محددة، باعتبارها علما يتمثل في عرض projeter وبناء صرح بحسب مقاصد وهدف المشرف على العمل. هذه الغاية هي مصدر القواعد وتستخدَم معيارا للحكم في الأعمال المعمارية. يكون البناء متكاملا إذا توافق مع هذه الغاية، التي تتطلب دائما ثلاثة صفات: الصلابة، الملاءمة والجمال. الجمال هو الكمال أو مظهر ضروري للكمال باعتبارهما مُدْرَكَين ويوفّران لنا لذة(62). يُستعمل المظهر الضروري لحفظ الكمال الحقيقي الذي يتطابق مع الجمال الحقيقي. وعندما يوّلد الكمالُ الحقيقي مظهرا غير متكاملٍ، وجب أن يصحح هذا الأخير بمظهر متكامل، وهو ضروري، إذ الكمال الحقيقي، وبالتالي الجمال الحقيقي لبناء ما، يجب أن يلتقط فورا بالنظر. لا علاقة لمفهوم المظهر الضروري، رغم ما يظنه كروغرKrüger، بمفهوم الجمال الظاهر أو المظهر الخاطئ، الذي يعادل الجمال الخاطئ أو الجمال المخادع(63). جمال بناءٍ هو إذن الإدراك الحسي لكماله(64). والزخرفة ضرورية من أجل تعزيز هذا الإدراك. فالهدف من الزخرفة هو لفت انتباه المشاهد إلى الكمال الحقيقي، وبالتالي إلى الجمال الحقيقي للبناية(65). في هذا الجانب يتبع وولف ألبيرتيAlberti  الذي كان يسمي الزخرفةOrnamentum نورَ الجمالِ. بما أن الزخرفة تنير الكمال بجعله مرئيا في شموليته، يجب أن يبدو البناء جميلا وفي كامل رونقه. لكن أيضا يجب تحاشي الزخرفة التي لا لزوم لها، لأنها تحجب الجمال الحقيقي بإتعاب وإلهاء العينِ(66). وبدل الزخرفة الزائدة يفضل صقل المواد والحرص على الإتقان(67).

في الواقع، لا يتطابق جمال بناءٍ ما تماما مع أدائه الوظيفي. بالفعل يمكن أن يكون هنالك صراع بين الأداء الوظيفي والجمال. في هذه الحالة، يجب أن تغلّب كفة الأداء الوظيفي على الجمال، الذي تتم التضحية به جزئيا إذا لم نستطع معالجة المشكلة بواسطة المظهر الضروري. تبين إمكانية الصراع هذه أن للجمال قوانينه الخاصة، التي يسميها وولف القواعد العامة للجمال. وهي مرتبطة بمفهوم التناغم وتحدد التوزيع المتناغم للأجسام أو لأجزاء البناء، وهي التي يقول وولف بأنّ الفرنسيين يسمونها: التماثل Symitrie.

في الدراسة الألمانية يعرف وولف Symitrie أو Eurythmie بوصفهما تشابه الجوانب، والأجزاء الجانبية لبناء، في حضور جسم وسط مختلف عنها(68). في الدراسة اللاتينية، على العكس، يعرف وولف Symitrie بوصفه العلاقة المتناغمة للأجزاء فيما بينها وفي علاقتها بالكل، ويميزه عن Eurythmie المفهوم باعتباره تشابها للأجزاء الجانبية في علاقتها مع جسم وسط مختلف عنها(69). لمصطلحEurythmie التعريف نفسه في الدراستين معا، لكن مصطلح Symitrie يكتسب في الدراسة اللاتينية معنى مستقلا وأكثر عمومية، ومكافئا للتناغم. المفهومان معا عند فيتروف Vitruve ليسا متمايزين بشكل واضح ومازال تأويلهما إلى اليوم موضع خلاف(70). يكمن جمال بناء ما إذن في إدراك أدائه الوظيفي إضافة إلى تناغمه.

يجب إذن أن نتساءل إذا ما كان مفهوم الجمال، في الهندسة المعمارية، يقدّم سمتين: واحدة ذاتية، باعتباره إدراكا، والأخرى موضوعية، باعتبار أن البناء، من أجل أن يتم الحكم بجماله، يجب أن يمتلك خاصية موضوعية يستلزمها أداؤه الوظيفي وقواعدُ التناغمِ. فعلا يؤيد وولف فكرة أنّ الحكمَ على كمال بناية ما ليس حكما اعتباطيا، بما أن الأداء الوظيفي للبناء يمكن أن يحكم عليه بحسب معيار موضوعي، هو معيار يحدده توافقه مع مقاصد أو هدف المشرف على العمل(71). مع ذلك، فيما يتعلق بالتناغم، فمن الصعب وضع معيار موضوعي بما أن الجمال ليس شيئا آخر سوى إدراك التشابهات. يكون الجمال إذن موضوع حكم حدسي، من غير الممكن تبريره بطريقة عقلية، كما هو الحال في الحكم على الأداء الوظيفي. مع ذلك فالقواعد العامة للجمال تحتوي على معيار موضوعي. لكن إذا كان من غير الممكن تحديد معيار موضوعي للجمال بواسطة العقل، فيمكن أن يكون هنالك معيار مفهومٌ فقط كشرط صوري للجمال.

صاغ وولف أونطولوجيا صورية، تستنبط مفهوم Ens qua ens {الموجود باعتباره موجودا}، من مبدئي عدم التناقض والعلة الكافية؛ وهذان يعتبران مركز مفهوم النظام، الذي يؤسس بدوره المتعاليات(72). فمن دون نظام، لا يكون لا العالم ولا إمكانية معرفته ممكنين. بالفعل، النظام هو شرط إمكانية العالم وإمكانية معرفته، عقليا وحدسيا. من دون النظام، سيكون من المستحيل أن يحصل هذا الإدراك الحدسي للمتشابهات الذي يسميه وولف جمالا. النظام إذن هو السمة الموضوعية للجمال بما أنه شرطُه الصوريّ.

العوالم الممكنة

إن تعريف الجمال بوصفه إدراكا للكمال، والذي صاغه وولف بالأساس في سياق الهندسة المعمارية، يستند على مفهومي النظام والتشابه. وهما المفهومان الأساسيان في الكوسمولوجيا الوولفية(73). كل العوالم الممكنة، بما فيها العالم الواقعي، مُتَصَوَّرَةٌ ككليّة منظمة من الأشياء. لكي يشرح وولف مفهوم العالم الممكن، يستخدم المقارنة ” مع القصص المبتكرة، التي ندرج على تسميتها قصصا خيالية (Romainen) {روايات}”(74). فالرواية إذا كانت مبنية بذكاء، تروي سلسلة من الأحداث التي –حتى وإن لميكن ممكنا أبدا أن تفحص في الواقع- يمكن أن تكون متوافقة مع أشياء أخرى مترابطة، وبالتالي تبدو ممكنة في عالم مختلف عن عالمنا، أي في عالم ممكن. الرواية إذن تصوِّر عالما ممكنا، حتى وإن لم يكن واقعيا، باعتباره عالما منظّما، لديه نفس الخصائص المتعالية التي للعالم الواقعي، أي الوحدة، الحقيقة والكمال.

يستخدم وولف الرواية لكي يوضح المفهوم الكسمولوجي للعالم الممكن. باومغارتن وغوتشيد سيفعلان العكس، باستخدامهما المفهوم الوولفي للعالم الممكن لكي يوسعا نظرية الرواية لتسع الحكاية الخرافية وكل جنس الشعر: “هكذا يكون الشاعر خالقا وبالتالي تكون القصيدة والحال هذا عالَمًا”(75)، “السيد وولف نفسه، إذا لم أخطئ، قال في مكان ما من أعماله الفلسفية إن رواية مكتوبة جيدا، أي رواية لا تحتوي شيئا متناقضا، يجب أن تعتبر كقصة/تاريخ لعالم آخر، ما يقوله عن الروايات يصدق كذلك على كل الحكايات الخرافية”(76). إذا ما وسعنا النظرية الوولفية عن الرواية لتشمل، ليس فقط الحكاية الخرافية بل كل الأعمال الفنية، يمكننا تَصَوُّرُ الإبداع الفني كخلق لعالم ممكن، كما فعل باومغارتن في إستيطيقاه(77).

المصدر:

Référence papier

Pietro Pimpinella, « La théorie wolffienne des arts à l’origine de l’esthétique », Revue germanique internationale, 4 | 2006, 9-22.

Référence électronique

Pietro Pimpinella, « La théorie wolffienne des arts à l’origine de l’esthétique », Revue germanique internationale [En ligne], 4 | 2006, mis en ligne le 26 octobre 2008, consulté le 06 novembre 2020. URL : http://journals.openedition.org/rgi/132 ; DOI : https://doi.org/10.4000/rgi.132

الهوامش:

1 Voir Joachim Krüger, Christian Wolff und die Ästhetik, Berlin, 1980 ; Jeong-Woo Park, « La pensée esthétique de Christian Wolff », in : Jean-François Goubet et Gérard Raulet (éd.), Aux sources de l’esthétique. Les débuts de l’esthétique philosophique en Allemagne, Paris, 2005.

2 C. Wolff, Philosophia practica universalis, Pars posterior, in : Id., Gesammelte Werke, 2e section (Lateinische Schriften), vol. 11, Hildesheim, 1979 ; Id., Deutsche Ethik ; Deutsche Politik ; Psychologia empirica, in : Id., Gesammelte Werke, 2e section, vol 5, Hildesheim, 1968 ; Id., Discursus praeliminaris ; Deutsche Metaphysik ; Philosophia prima sive Ontologia, in : Id., Gesammelte Werke, 2e section, vol. 3, Hildesheim, 1962 ; Id., Anfangsgründe aller mathematischen Wissenschaften, I : Anfangsgründe der Baukunst,in : Id., Gesammelte Werke, 1re section, vol. 12, Hildesheim, 1973 ; Id., Elementa matheseos universae, Tomus IV : Elementa architecturae civilis, in : Id., Gesammelte Werke, 2e section, vol. 32, Hildesheim, 1968 ; Tomus V : Caput XI : De architectura civili, vol. 33, 1971.

3 Cf. Hans Reiss, « Die Einbürgerung der Ästhetik in der deutschen Dichtungstheorie des 18. Jahrhunderts oder Baumgarten und seine Wirkung, in : Schiller-Jahrbuch, n° 37, 1993, pp. 109–138 ; Pietro Pimpinella », Ragione e sensibilità nelle poetiche critiche di Gottsched e Breitinger e nell’estetica di Baumgarten, in : Lexicon philosophicum, n° 10, 1999, pp. 121-150.

4 في نظريته عن الحكاية الخرافية، لا يستخدم وولف لا نظرية اللغة التي كان قد رسم خطوطها العريضة في كتاب Discursus praeliminaris– مع أنه قد جعل تعارضا بين اللغة الشعرية واللغة العلمية والفلسفية(De stylo philosophico, §§ 149-150)- ولا نظريته عن العوالم الممكنة، في المقابل، يستعمل مصطلح الرواية.(أنظر أسفله)

5 Deutsche Ethik, § 366.

6 Ibid., § 366.

7 Ibid., § 367.

8 Discursus praeliminaris, § 72. Tommaso Campanella, Philosophiae rationalis partes quinque, apud J. Du Bray, Parisiis, 1638. La partie de cet ouvrage consacrée à la poétique a été publiée separément par Luigi Firpo : T. Campanella, Poetica. Testo italiano inedito e rifacimento latino, Roma, 1944.

9 T. Calvo Martinez, El concepto de cultura en el pensamiento griego, in : J. B. Llinares, N. Sanchez Durà (éd.), Ensayos de Filosofia de la Cultura, Madrid, 2002, pp. 59-80.

10 Discursus praeliminaris, § 71.

11 Ibid., §§ 71-72.

12 Ibid., §§ 72,114.

13 Voir Paul-Oskar Kristeller, « The modern System of Arts. A Study in the History of Aesthetics, Part I », in : Journal of History of Ideas, vol. 12/4, 1951, pp. 496–527 ; Part II, ibid., vol. 13/1, 1952, pp. 17-46 (trad. fr. : Le Système moderne des arts. Étude d’histoire de l’esthétique, trad. de l’anglais par B. Han, Paris, 1999) ; W. Tatarkiewicz, Storia di sei idee, chap. 1–3, Palermo, 1993.

14 Deutsche Ethik, § 248.

15 Alexander Gottlieb Baumgarten, Meditationes philosophicae de nonnullis ad poema pertinentibus, §§ 9, 115, in : Philosophische Bemerkungen über einige Bedingungen des Gedichtes (latin-allemand), éd. et trad. par Heinz Paetzold, Hamburg, 1983 (trad. française : A. G. Baumgarten, Esthétique, trad., prés. et notes par Jean-Yves Pranchère, Paris, 1988, pp. 25-76).

16 Discursus praeliminaris, §§ 39, 72, 114.

17 Deutsche Politik, §§ 309-312.

18 Giordano Bruno, Eroici furori, in : Opere italiane di Giordano Bruno, Torino, 2002, pp. 258-259.

19 Campanella, Poetica (cf. note 8), chap. IV.

20 Ibid., p. 244 : « Poetae igitur finis non est imitari et fingere, sed imitatur ut repraesentet… ».

21 Selon Bruno, on reconnait les vrais poètes « … con questo che cantando, o vengano a dilettare, o vengano a giovare e dilettare insieme » (Eroici furori, cf. note 18, p. 528) ; cf. Campanella : « Poeta igitur, ut suadeat, voluptatem et pulchritudinem profitetur » (Poetica, cf. note 8, p. 239).

22 Discursus praeliminaris, § 149.

23 Ibid.

24 Wolff, Gesammelte kleine philosophische Schriften, V, Von dem Vergnügen, in : Id., Gesammelte Werke, 1re section, vol. 21.5, Hildesheim, 1981.

25 Deutsche Politik, §§ 390-391.

26 Ibid., § 331, p. 338.

27 Ibid., § 391.

28 Philosophia practica universalis, §§ 315-319.

29 Discursus praeliminaris, § 149.

30 Pimpinella, Truth and Persuation in Baumgarten‘s Aesthetica in relation to Croce’s Criticism, in : Lexicon philosophicum, n° 6, Firenze, 1993.

31 Pimpinella, La teoria delle passioni in Wolff e Baumgarten, in : G. Cacciatore, V. Gessa, H. Poser, M. Sanna (éd.), La filosofia pratica tra metafisica e antropologia nell’età di Wolff e di Vico, Napoli, 1999, pp. 251-278.

32 Campanella, Poetica (cf. note 8), p. 244 : « Quoniam poetae finis est docere suadereque bonum et verum, quod consequirur delectando… ».

33 Deutsche Politik, § 328.

34 Ibid.

35 Philosophia practica universalis, Pars posterior, §§ 244-287.

36 Ibid., § 302.

37 Ibid., § 306.

38 Platon, République, X.

39 Aristote, Poétique, 9, 25.

40 Philosophia practica universalis, § 307.

41 Ibid., § 310.

42 Ibid., § 311.

43 Ibid., §§ 311, 313, 317.

44 Pimpinella, Ingegno e teoria dell’arte. Ingenium in Chr. Wolff e A. G. Baumgarten, in : S. Gensini, A. Martone (éd.), Ingenium propria hominis natura, Napoli, 2000, pp. 361-386.

45 Philosophia practica universalis, § 315, 317, 320, 323.

46 Ibid., § 315.

47 Ibid., § 321.

48 Ibid., § 316.

49 Ibid., § 317. في كتابها livre Knowledge of love. Essays in Philosophy and literature (New York/Oxford, 1990 : Introduction), Martha Nussbaum تؤكد مارتا نوسباوم أن المعرفة بالعواطف والمشاعر التي تكتسب بواسطة قراءة الروايات، جوهرية من أجل معرفة الأخلاق، وهي فضلا عن ذلك أكثر نفاذا من التجريد الفلسفي.

50 Pimpinella, Cognitio intuitiva bei Wolff und Baumgarten, in : Michael Oberhausen (éd.), Vernuftkritik und Aufklärung. Studien zur Philosophie Kants und seines Jahrhunderts, Stuttgart/Bad Cannstatt, 2001, pp. 265-294.

51 Psychologia empirica (cf. note 2), §§ 511, 544, 545.

52 Ontologia (cf. note 2), § 503.

53 Voir Anne-Lise Rey, Gottfried Wilhelm Leibniz, in : Aux sources de l’esthétique (cf. note 1), pp. 11-56.

54 Ontologia (cf. note 2), § 472.

55 Deutsche Metaphysik,§ 569.

56 Ibid., §§ 148-152.

57 Philosophia practica universalis, § 308.

58 Psychologia empirica (cf. note 2), § 544.

59 Ibid., § 148 ; voir Pimpinella, Imaginatio, phantasia e facultas fingendi in Chr. Wolff e A. G. Baumgarten, in : Marta Fattori, M. Bianchi (éd.), Phantasia-Imaginatio, Roma, 1986, pp. 379-414.

60 Elementa matheseos universae, T. V, Caput. XI : De architectura civili (cf. note 2).

61 Ibid., Praefatio.

62 Anfangsgründe der Baukunst (cf. note 2), § 9.

63 Krüger, Christian Wolff und die Ästhetik (cf. note 1), p. 58 sq.

64 Psychologia empirica (cf. note 2), § 545.

65 Elementa architecturae civilis (cf. note 2), § 15.

66 Anfangsgründe der Baukunst (cf. note 2), § 19 ; Elementa architecturae civilis (cf. note 2), § 22.

67 Anfangsgründe der Baukunst (cf. note 2), § 13, note.

68 Ibid., § 26.

69 Elementa architecturae civilis (cf. note 2), § 24, 31.

70 Vitruvius, De Architectura libri decem, liber primus II (trad. fr. : Vitruve, De l’Architecture, texte établi, traduit et commenté par Philippe Fleury, Paris, 1990). Cf. H.-K. Lücke, « Das Bauwerk als Gedankenwerk. Architekturtheorie in Antike und Neuzeit. Reflexionen und Spekulationen über Vitruv und Alberti », in : Albertiana, vol. 4, Firenze, 2001, pp. 101-158 ; Id., (suite), vol. 5, 2002, pp. 7-60 ; Id., « Ornamentum, reconsidered », in : Albertiana, 2004. Je remercie mon ami Hans–Michael Hohenegger, professeur d’esthétique à la faculté d’architecture de l’Université de Ferrara, pour les suggestions qu’il m’a données à ce propos.

71 Elementa architecturae civilis (cf. note 2), §§ 13-14.

72 Pimpinella, « Ontologia e logica in Christian Wolff », in : Eugenio Canone (éd.), Metafisica Logica Filosofia della Natura, Sarzana, 2004, pp. 343–373.

73 Pimpinella, « Machina come immagine del mondo in Chr. Wolff », in : M. Veneziani (éd.), Machina, Firenze, 2005, pp. 421-446.

74 Deutsche Metaphysik, § 571.

75 Baumgarten, Meditationes philosophicae de nonnullis ad poema pertinentibus (cf. note 15), § 68.

76 Johann Christoph Gottsched, Versuch einer Critischen Dichtkunst, Darmstadt, 1982, p. 151 ; voir G. Raulet, Johann Christoph Gottsched, in : Aux sources de l’esthétique (cf. note 1), pp. 177-244.

77  بالنسبة لنيلسون غودمان Nelson Goodman (Ways of Wordmaking, Indianapolis-Cambridge, 1978, chap. 1) صناعة الفن تتطلب تخيل عوالم وتنظيمها. ليس من المستغرب كونه لا يذكر لا وولف ولا باومغارتن؛ ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن الطرائق الإجرائية الرئيسية التي يصفها في هذا الصدد (أي التكوين والتفكك، الإزالة والدمج، والتنظيم) تشبه كثيرا، تلك التي اعتبرها وولف هو الآخر قادرة على تحويل العالم الواقعي داخل عالم ممكن (أي إزالة أو تعديل عنصر ما، إضافة عنصر جديد، إضفاء تنظيم جديد على العناصر الموجودة). أنظر في هذا الموضوعMachina come immagine del mondo, dans Machina (cf. note 73), pp. 432–433.

Related posts
الفلسفة للأطفالترجمة

ماتيو ليبمان Matthew Lipman: ما التّفكير النقدي؟  

الفلسفة بصيغة المؤنثترجمةفلسفة

معوقات الترجمة في الجزائر

الشاشة الفلسفيةتربية وتعليم

قراءة فلسفية في فيلم الماتريكس

أنشطة فلسفيةالشاشة الفلسفيةالفلسفة بصيغة المؤنثالفلسفة للأطفالتربية وتعليمترجمةديداكتيك تدريس الفلسفةغير مصنففلسفةمحاضرات

ميشال أونفري: الدليل الفلسفي للعطلة (حوار)

Sign up for our Newsletter and
stay informed