
(١-١) بنية السياسة «ذات المسارين»
يميز هابرماس بين نطاقين أساسيين للسياسة: غير الرسمي والرسمي. ويتألف النطاق السياسي غير الرسمي من شبكة من المصادر التلقائية «الفوضوية» من التواصل والخطاب. لنطلقْ على هذا النطاق «المجتمع المدني». وتشمل أمثلة المجتمع المدني المنظمات التطوعية والاتحادات السياسية والإعلام. والأمارات المميزة للمجتمع المدني هي أنه لا يتحول إلى مؤسسة، ولم يُخلق لصنع القرار. وفي المقابل، فالسياسة بمعناها الرسمي تختص بالنطاقات المؤسسية للتواصل والخطاب، وهي مصممة تحديدًا لصنع القرار. وتتضمن الأمثلة البارزة على السياسة الرسمية البرلمانات ومجالس الوزراء والمجالس المنتخبة والأحزاب السياسية. لاحظ أنه من الخطأ الظن بأن هذا النطاق السياسي الرسمي مرادف للدولة؛ وذلك لأن الدولة ليست مجموعة من المنتديات المؤسسية المسئولة عن وضع السياسات وصنع القرارات فحسب، بل هي أيضًا نظام إداري وكيان بيروقراطي توجهه، على حد قول هابرماس، أداة السلطة.
هذا المفهوم ثنائي المسار للنطاقين الرسمي وغير الرسمي يعطينا إطارًا أساسيًّا لمفهوم هابرماس عن السياسة. في المجتمع المدني، يشارك أعضاء المجتمع السياسي في الخطاب، ويصلون إلى تفاهم، ويقدمون تنازلات، ويصوغون آراءً حول شئون خاصة وعامة. ويطلق هابرماس على تلك العملية عملية تشكُّل رأي الفرد وإرادته. وفي المقابل، في النطاق السياسي الرسمي يقوم الممثلون المحددون لأعضاء المجتمع السياسي باتخاذ القرارات والموافقة على القوانين وصياغة السياسات وتنفيذها.
استنادًا للصورة التي يرسمها هابرماس، يؤدي النظام السياسي وظيفته جيدًا عندما تستوعب مؤسسات صنع القرار مداخلات المجتمع المدني، وعندما يكون لديه القنوات السليمة التي يمكن للمداخلات الواردة من أدنى (المجتمع المدني والرأي العام) التأثيرُ في مخرجاته (السياسات والقوانين). عمليًّا، تحقق الدول الديمقراطية هذا التوازن أفضل من الأنظمة اللاديمقراطية. وتميل المؤسسات الديمقراطية السليمة إلى وضع سياسات وسَنِّ قوانين متسقة مع الرأي العام المشكل تداوليًّا؛ ومن ثم فإنها عقلانية ومبرَّرة. وهذا أمر منشود بحد ذاته، ومنشود من الناحية الوظيفية أيضًا ما دام أن الحداثيين سينزعون إلى الالتزام بالسياسات والقوانين التي يقبلون بأساسها المنطقي. من المرجح أن يكون المجتمع العقلاني مستقرًّا؛ ولذا، فهناك مسوغات أخلاقية وأداتية وجيهة تعلل تفضيل الحداثيين العيشَ تحت مظلة مؤسسات ديمقراطية.
يجب أن نتحرى الحيطة الشديدة عندما نتناول قدرة الأنظمة الديمقراطية على الوصول إلى قرارات مبررة. في النطاق السياسي، نجد أن فكرةَ ما هو مبرر أكثر شمولًا منها في النطاقات الفردية للخطاب النظري والخلقي والأخلاقي. تشكل التبريرات السياسية مجموعة متنوعة من الاعتبارات، إضافة إلى المعايير المعرفية والأخلاقية (أبعاد صحة الحقيقة والصواب) التي تحكم الخطاب النظري والأخلاقي على الترتيب. على سبيل المثال، يتم تفعيل الاعتبارات الأخلاقية والبراجماتية إلى جانب العوامل الخاصة بالإدراك السليم، كتلك التي يمكن تحقيقها بفعل إجراءات الوصول إلى الحلول الوسط والتفاوض. إن الخطاب السياسي أشبه بورشة العمل التي يمكن فيها، فور تجربةِ إجراءات الخطاب الخلقي والخطاب الأخلاقي الأكثر تطلبًا وثبوتِ فشلها، إجراءُ مجموعة كاملة من التجارب الأخرى للوصول إلى حلول عقلانية وتوافقية بشكل عام.
مقتطف من كتاب: يورجن هابرماس: مقدمة قصيرة جدا/ جيمس جوردن فينلسون، مؤسسة هنداوي.