ديداكتيك تدريس الفلسفةفلسفة

عادل حدجامي: في معنى الفيلسوف

هذه قضية قديمة في ثقافتنا، بل أقول إنها اليوم أخف بكثير مما كانت عليه في السابق، المشتغل بالفلسفة والعلم غير الشرعي عمومًا، سواء كان منطقًا أو كيمياء أو تنجيما أو غيره، كان دائمًا يلاقي نوعا من الرفض في مجتمعنا القديم، وهذا ما تجسد في قضايا عديدة لعل أشهرها قضية اضطهاد ابن رشد، والتي لم تكن إلا امتدادًا لنقاشه مع الغزالي. كان لهذا الأمر نتيجة أخرى، وهي أن كل المشتغلين بالفلسفة في العالم الإسلامي قضوا جزءًا من جهدهم ووقتهم في إثبات «جواز» التعاطي للفلسفة، أو الحكمة بمسماهم، وجواز الاهتمام بعلوم الأوائل، وهذا لم يسلم منه حتى الذين اشتغلوا بالعلم الأكثر تجريدًا مثل الرياضيات، على عكس ما يقال.

 لكن لماذا كان الأمر يطرح هكذا؟ الجواب بسيط للغاية، وهو أن الأسئلة التي تهتم بها الفلسفة، خصوصا قضايا الأسس والوجود بمعناه الأول، هي أسئلة محسومة دينيًا، فمسألة أصل الوجود والغاية منه، وبالتالي كيف ينبغي أن يسلك الأفراد في حياتهم، هي أمور قطع فيها المعتقد بأجوبة نهائية، لهذا فكل ادعاء للتساؤل حولها، ناهيك عن ادعاء تقديم أجوبة أخرى عنها مختلفة عن الأجوبة الدينية، هو مرفوض ابتداءً. في الدين الأجوبة سابقة عن الأسئلة دائمًا، فلا يبقى إلا أن ننظر في الكيف الذي «نسقط به الأحكام على الوقائع»، أما في الفلسفة فالأجوبة تأتي لاحقة عن الأسئلة دائمًا، لهذا يكثر الفلاسفة من الحديث عن الشك والتساؤل والبحث، ويركز الدين على أهمية الطمأنينة واليقين والإيمان. ليست الغاية عندي من هذا أن أقول إن إحدى هاتين الفاعليتين، الإيمان والتفكير، هي على حق، والثاني على خطأ، وإلا فربما الدين «أقوى» حجية من الفلسفة في القضايا الميتافيزيقية خصوصًا، على اعتبار أن الفلسفة قطعت مع أسئلة الغيب منذ ثلاثة قرون، حين اعتبرت أن لا سلطة للعقل على ما لا يقبل القياس، أي ما يتجاوز «الحساسية» بلغة كانط، بل الغاية عندي أن أتبين الفروق المنهجية والمبدئية التي توجد بين هاتين الفاعليتين الأساسيتين.

التحول الذي يحصل اليوم يكمن في كون الاعتراض على الفلسفة يأتي لأسباب أخرى، لا تتعلق بالدين حصرًا، ولا من الصراع حول حجية التساؤل في القضايا القيمية والوجودية، إنه يأتيه باعتبار «وضعي» خالص، ولهذا فإن الفلسفة، من جهة ما هي معرفة، تعيش أزمة اليوم حتى في معاقلها التقليدية الكبرى، أقصد ألمانيا وفرنسا. الاحتجاج على الفلسفة اليوم يأتي باسم «فلسفة» معينة هي النزعة التجريبية والعلموية الجديدة، وأقصد بهذا الأمر التصور الذي ينبني على اعتبار أن كل ما لا «يقاس» ليس موضوعًا للمعرفة، وبالتالي فكل معرفة لا تنتج «مقيسًا» لا قيمة لها؛ هكذا تجد أن كل العلوم التي تشتغل بالمعاني والقيم وأسئلة الغاية تبدو اليوم في أزمة. ينضاف إلى هذا الأمر هيمنة الإيديولوجيا «التطبيقوية» و«الأعمالية»، وهذه إيديولوجيا قتلها الفلاسفة والمفكرون المعاصرون نقدًا وتحليلًا، وضدها تنبعث اليوم اتجاهات فكرية جذرية تبين كيف أن هجرة أسئلة المعنى والغرق في البعد التطبيقي هما الأصل في أخطر تهديد يحياه العالم اليوم وهو التهديد الإيكولوجي، إذ إن الكامن العميق لهذه الإيديولوجيا هو النظر إلى الطبيعة باعتبارها موضوع انفعال خالص، أو قل موضوع تسخير ساكن، إنها شيء «فارغ» من المعنى، أي أنها مجرد امتداد غفل، الغاية منه أن يكون موضوعًا لفعل الإنسان الظافر. بيد أن الذي يتبين لنا مما يحصل اليوم، هو أن هذه العلاقة العمودية وهذا التصور التقابلي عن معنى الإنسان والطبيعة خاطئ، بل وخطير، فالإنسان ليس شيئًا يفعل في الطبيعة، بل هو شيء يوجد في الطبيعة وبها، إنه هو عينه طبيعة؛ وهكذا فلا يمكن، كما حصل مؤخرًا، أن تغير من تركيبة الطبيعة دون أن تغير من تركيبة الحياة كلها، وضمنها الإنسان، فيحصل أن يصير ارتفاع درجة الحرارة، سببًا يجعل الكائنات المجهرية الاستوائية تصعد من مجال حياتها «الطبيعي» إلى مناطق أخرى، فتحصل الأوبئة. ما نتعلمه من هذا هو أن الإنسان ليس «منقطعًا» عن الطبيعة، إنه كائن متصل بباقي الكائنات، متصل حتى بهذا الحيوان البري الذي انتقل منه الفيروس في الصين، بحسب ما يقال رسميًا، والذي لم نكن نعرف حتى بوجوده قبل الجائحة. ما نتعلمه من هذا هو أن الفيروسات، هذه الكائنات الصغيرة «الحقيرة» التي «ليست حية» حتى، يمكن أن توقف حركة البشر وآلاتهم الضخمة وطائراتهم النفاثة ومعاملهم الجبارة لأشهر طويلة، بل وتقتل منهم مئات الآلاف، والبقية تأتي. النزعة العلموية تخبرنا أن الطب يتمكن من القضاء على الأمراض، بيد أن الذي نكتشفه اليوم هو أن تطور الطب ينتج هو عينه أمراضه، كذلك الأمر في التغذية وأدوات الرفاهية وغيرها، هكذا تكون أطعمتنا الصناعية الغنية قد أبعدتنا عن الجوع نعم، لكنها قربتنا من أمراض السكري والضغط والقلب، حتى أن البدانة التي كانت زينة إلى عهد قريب، تصير مرض العصر الأخطر، وهكذا تكون أدويتنا وموادنا الحافظة والمبيدات والمنظفات الكيماوية التي تحيط بنا في المزروعات والمصنوعات والأطعمة واللباس والأثاث، قد أبعدتنا عن الحشرات والأوساخ والفاقة نعم، لكنها تقربنا من السرطان وأمراض الجهاز العصبي والغدد والتوالد والجينات.

رغم صعوبة السؤال، على اعتبار كون الفلسفة ليست «علمًا»، لنقل إنه الذي يملك تصورًا مختلفًا عن معنى الحقيقة، أي أنه من يستطيع إنتاج سؤال يجعلنا نخرج من «صندوق» الرؤية المسموح به، ويقدم الأدوات النظرية الكافية لتبين عناصر هذا الخروج وكيفية تحققه. والباقي مشتغلون بالفلسفة أو أساتذة للفلسفة أو مفكرون مجتهدون، وكثيرًا ما يتم الخلط بين هؤلاء، مدرسو فلسفة ومؤرخو فلسفة، والفلاسفة، والأمر عندي مختلف تمامًا، مثلما أن هناك اختلافًا بين الفنان ومدرس الفن، والعالم ومدرس أو مؤرخ العلم.

بهذا المعنى فالفلاسفة نادرون، نعم هم كذلك، لكنّ العلماء والفنانين والشعراء الحقيقيين هم كذلك نادرون جدًا، فالفنانون الذين غيروا معنى المنظور في الفن، والعلماء الذين فجروا مسلمات سابقة كانت تبدو تلقائية و«بديهية» في العلم، هم فعلًا نادرون جدًا. لهذا كنت لا زلت أعتبر نفسي أستاذا لتاريخ الفلسفة، وليس فيلسوفًا.

Related posts
ترجمةفلسفة

مفهوم السياسة لدى هابرماس

ترجمةفلسفة

ميشيل مايار Michel Meyer: هل توجد حداثة خطابية؟*

ترجمةفلسفة

كاريسا فيليز: ما الذي يمكن أن يعلمنا إياه سقراط حول الذكاء الإصطناعي؟

ترجمةفلسفة

جان فرانسوا دورتييه: إيمان وعقل، كيف يمكن التوفيق بينهما ؟

Sign up for our Newsletter and
stay informed