ديداكتيك تدريس الفلسفةفلسفة

شذرات فلسفية حول مشكلة القيم

شكل موضوع القيم ولا يزال مجالا خصبا للدراسات الفلسفية التي تقوم على التأمل والتجريد ، فالقيمة من المفاهيم الأساسية التي كانت ولا زالت إلى حد كبير محورا لخلافات أساسية بين المدارس الفلسفية .

وتتفاوت الآراء المتعلقة بموضوع القيم تفاوتا كبيرا ؛ وفي هذا الصدد يقول ” جون ديوي ” إن الآراء حول القيم تتفاوت بين الإعتقاد من ناحية بين ما يسمى « قيما » ليس في الواقع سوى إشارات أو تعبيرات صوتية ، وبين الاعتقاد في الطرف المقابل بأن المعايير القبيلة العقلية ضرورية ويقوم عل أساسها كل من الفن والعلم والأخلاق .

وقد انقسم الفلاسفة بصفة عامة إلى قسمين حول هذا الموضوع ؛ الأول ويتمثل في اتجاه الفلسفات المثالية أو العقلية ، حيث يرى أفلاطون أن الناس لا يعون مصادر الإلزام في حياتهم ومع ذلك فهم يدركون مثلا عليا ، ويتحدثون عن الحق والجمال ، فيرى أنه لابد أن يكون هناك مصدر استقى منه الناس هذه المعتقدات التي تؤدي بهم إلى هذا اللون من التفكير أو الحديث أو السلوك ، ويستبعد أن تكون حياة الحس بما تحتويه من خطط واضطراب مصدرا لمثل هذه الأحاسيس والأفكار السامية ، أفكار الحق ، الجمال ، والالتزام . ويخرج أفلاطون من هذه المشكلة بالقول بأنه لابد أن يكون مصدر هذه الإحساسات والأفكار السامية عالما آخر غير هذا العالم الذي نعيش فيه ، عالم توجد فيه الأشياء كاملة كما يجب أن تكون وهو عالم الحق والخير

أما كانط فلم يلجأ إلى العالم الخارجي كما فعل أفلاطون ، واهتدى إلى حل وإن كان عقليا إلا أنه داخلي وهو العقل ، فقد أكد أن العلم والأخلاق والجمال مصدرها العقل ، فليس للأشياء الحسية شكل خاص تفرضه على العقل ، دائما والعكس هو الصحيح .فتركيب العقل هو الذي يعطي للخبرات الحسية شكلها الخاص الذي ندركه . وبوجه عام فالفلسفات المثالية تقول باستقلال القيم وانعزالها عن الخبرة الإنسانية .

أما الاتجاه الثاني يتمثل في الفلسفات الطبيعية ، والتي تعتبر القيم جزء لا يتجزأ من الواقع الموضوعي للحياة والخبرة الإنسانية ، فالأشياء لا ترتبط بقيم سامية لسر كامن فيها ، ودائما قيم الأشياء هي نتاج اتصالنا بها وتفاعلنا معها ، وسعينا إليها ، وتكوين رغباتنا واتجاهاتنا نحوها ، فالقيم من نسيج الخبرة الإنسانية وجزء لا يتجزأ من كيانها ، فالأشياء في ذاتها ليست خيرة أو شريرة ، صحيحة أو خاطئة (…) وإنما هذه القيم نصدرها من وافع تأثيرنا في هذه الأشياء وتأثرنا بها .

من الجائز إذن أن نعتبر كانط بوجه من الوجوه واضع حجر الأساس في فلسفة القيم ، وذلك حينما نقل مركز الفلسفة عامة من الطبيعة إلى الإنسان ، ووجد أن الشخص الإنساني يبحث بإرادته الطيبة عن الغايات حيث تتوافر كرامة الإنسان لأنه إنسان ، ولكن من الثابت لفلسفة القيم بالمعنى الاصطلاحي ،ينابيع كثيرة يمثلها عدد كبير من المفكرين في شتى أصقاع العالم المعاصر ، وقد اتفقت الكلمة على إسهام ” شوبنهور ” و ” نيتشه ” و “الذرائعية ” و “الفنومنولوجية ” في ترسيخ دعائم هذه الفلسفة وإنضاجها .

مما لاشك فيه أن فلسفة نيتشه تعد بأسرها نظرية في القيمة ، وقد أدت فلسفته إلى تطور نظرية القيمة وازدهارها ، ولعل أنها – نظرية القيمة – لم تكن لتأخد مكانتها الرئيسية من الفلسفة المعاصرة لو لم يشدد نيتشه على أهميتها ويتفحصها بأنفاسه اللافحة .

هذا وقد منح نيتشه مشكلة القيمة طابعها الحاد ، وأشعل جذوتها ، وكان الفلاسفة قبله يتناقشون في أساس القيم أكثر مما يتناقشون في طبيعتها نفسها ، وجاء نتيشه فجعل تصور القيمة أولوية وغلبه على سائر التصورات ، فالحياة في نظره، إرادة تقويم، وترجيح وظلم وهي بالدرجة الأولى تملّك وعدوان وإخضاع الغريب والضعيف، وهي قسوة واضطهاد.

اعتنق نيتشه فلسفة قيمية تدعو إلى القسوة بدل الإحسان، ورفض اتصاف القيم الأخلاقية بالصفة المطلقة، وزعزعَ يقين من سبقوه في مضمار القيم، رفض القيم الذائعة المفروضة على الإنسان من الخارج، فهدم القيم القديمة، وماتت الآلهة، والإله الجديد هو الإنسان الأعلى السوبرمان وهو هادم وعازم ألا يكون رحيماً.

والأخلاق عنده نوعان: أخلاق السادة، وأخلاق العبيد، أما أخلاق العبيد فإنها تصدر عن الكذب والبغض والحقد على السادة الأقوياء الأرستقراطيين وتتمثل في أخلاق الوفاء والصبر والشفقة والرحمة، وما دعت إليه اليهودية والمسيحية.

وأما أخلاق السادة فهي تتمثل في حب المخاطرة والقوة واحترام العنف والقسوة والكراهية.

وقيم العبيد هي قيم مزيفة، أما قيم السادة فهي قيم حقيقية، وإن السيد النبيل «أناني» حكماً، ورسالته تقضي جهوداً جبارة، لا يبلغها إلا القساة العاتون .

فكان نيتشه بحدسه التنبؤي يماهي التاريخ والعدمية ، الذي لخصه بعبارته ” الحط من قدر القيم العليا ” ، فموت الله في مفهومه يؤدي إلى موت الإنسان . بذلك فتح نيتشه الدرب أمام ميشال فوكو في كتابه ” الكلمات والأشياء ” . أما بالنسبة لهايدغر ، فالعدمية هي هذه الحركة التي تغيب الكينونة لتتحول كليا إلى قيمة ، وبالرغم من التباين بين نظريتي نيتشه وهايدغر فإن بعض الفلاسفة – وبالأخص جياني فاتيمو – رأوا تقاربا بين التحديدين للعدمية ، والمفارقة تكمن في انحسار ” القيم العليا ” قد يكون هو الذي حرر مفهوم القيمة لتنفتح على كم هائل من الاحتمالات . فالقيم يمكن أن تستحضر ” طبيعتها الحقيقية في امكانية التحول والتبدل ” ضمن المسار المعمم للقيمة التبادلية

أما في الثقافة العربية فيرى ” محمد عابد الجابري ” أن الاتجاه الذي ظل سائدا في الثقافة العربية المعاصرة ، يقرر أن العرب لم ينتجوا في ميدان الفكر الأخلاقي ، ما يرقى إلى مستوى ما أنتجوه في الفكر الفلسفي (…) فعلى الرغم من أن المتكلمين ، معتزلة وأشاعرة فقد تكلموا بعمق وتفصيل ، في موضوعات تقع في قلب ما يعرف في الفكر الفلسفي ، بالمشكلة الأخلاقية ، فطرحوا قضايا الحرية والمسؤولية والجزاء ، وجهات الحكم على الأفعال ، وعلى الرغم من أنهم أجمعوا على أهمية دور العقل ، سواء بوصفه شرطا في التكليف أو ملكة لإدراك الحسن والقبح والتمييز بين الخير والشر إلخ ، فأنهم لم يخصوا القيم والأخلاق ب “نظر واستدلال ” – أو ببحث كما نقول اليوم – يتعامل معها كعلم قائم بذاته. بل لقد ظل “الكلام ” في القيم والأخلاق يقع على الدوام خارج المفكر فيه عندهم .

الهوامش :

عبد اللطيف محمد خليفة ، ارتقاء القيم (دراسة نفسية)، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، العدد ، 160/ أبريل 1992 ، ص 31 -32-33

عادل لعوا – العمدة في فلسفة القيم ، دمشق ، دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر ، الطبعة الأولى 1986 ، ص 113

فيصل بشير محمد الخراز – طبيعة الإكسيولوجيا أصنافها ومعاييرها ، مجلة كلية الآداب ، جامعة مصراتة ، العدد الأول ص 293 -394

مؤلف جماعي بإشراف جيروم بندي ، القيم إلى أين ؟ ، منظمة اليونيسكو أبريل 2004 ، ترجمة زهيدة درويش جبور – جان جبور ، مراجعة عبدالرزاق الحليوي ، المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون ” بيت الحكمة ” قرطاج 2005 ص 15-16

محمد عابد الجابري ، العقل الأخلاقي العربي – دراسة تحليلية نقدية لنظم القيم في الثقافة العربية – (نقد العقل العربي 4 )، مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت ، الطبعة الأولى 2001 ص 123 -125

Related posts
ترجمةفلسفة

ميشال أونفري: الدليل الفلسفي للعطلة (حوار)

ترجمةفلسفة

مفهوم السياسة لدى هابرماس

ترجمةفلسفة

ميشيل مايار Michel Meyer: هل توجد حداثة خطابية؟*

ترجمةفلسفة

كاريسا فيليز: ما الذي يمكن أن يعلمنا إياه سقراط حول الذكاء الإصطناعي؟

Sign up for our Newsletter and
stay informed