
ترجمة : يوسف اسحيردة

تصدير : الدين لا يُختزل في مجرد إيمان أخروي، بل يتعداه إلى ضرورة وجود شعائر وأخلاق وتنظيم. من هنا نفهم أن مهمة الدين لا تقتصر على مواجهة شبح الموت فحسب، بل تشمل أيضا التصدي لنوائب الزمن. في هذا البحث سنحاول تناول موضوع الأديان من خلال طرح الأسئلة التالية والإجابة عنها:
– ما القاسم المشترك بين مختلف الأديان؟
– ما فائدة الأديان ومن يستفيد منها؟
– ما سر صمود الأديان؟
– هل الإيمان حاجة إنسانية؟
إذا حدث يوما وزرت دولة اليابان، فلا يندُر أن تصادف في طريقك معبدا لديانة الشنتو ( يصل عددها إلى حوالي 10000 معبدا) : يتعلق الأمر بدور للعبادة يزورها الناس من أجل تقديس كامي معين. يُعد إناري، الكامي الأكثر شعبية، ويرمز له بثعلب صخري. أحيانا تُقدم له هدايا ( غالبا على شكل قطع نقدية صغيرة) طمعا في حماية بالمقابل. بالمقربة منه، يمكننا أيضا زيارة معبد بوذي، بداخله توجد منصة تحتوي على تمثال لبوذا، شمعدان، جرس ومبخرة.
قد تبدو هذه الأشياء غريبة: لكنها ليست أكثر غرابة من رؤية أشخاص يركعون داخل كنيسة مسيحية، أمام صليب يُعتقد أنه يعود لابن الإله، الذي صُلب قبل 2000 عاما. في مكة، يحج ملايين البشر كل سنة من أجل الطواف حول الكعبة، وهي بناء عملاق على شكل مكعب في الأسود والأبيض. سواء كنا مؤمنين أم لا، فالديانات، ومن خلال معتقداتها وطقوسها، تتضمن أمرين غاية في الغرابة.
الأمر الأول يتعلق بنوعية الأفكار المروج لها : فتارة، يتعلق الأمر بإله خلق العالم في ستة أيام، ثم استراح في اليوم السابع، ليعود من جديد ويعبر عن غضبه اتجاه خليقته بإغراق الجميع وسط طوفان كبير، قبل أن يسمح لأحدهم بأن يبدأ من جديد. وتارة أخرى –في الهند مثلا- يتعلق الأمر بإله على هيئة بشر، لكن برأس فيل، وبآلهة متعددة الأيادي…..أما القرآن، فيخبرنا أن الله قد تكلم، فجأة، مع تاجر بدوي، كان يتجول في الصحراء العربية، قبل 1400 عام.
الأمر الثاني الغريب في الديانات مصدره هذه الحقيقة : كلها متشابهة رغم اختلافها. مهما اختلفت الأمكنة والعصور، انطلاقا من سكان أستراليا الأصليين (الأبوريجيون)، وصولا إلى المسيحيين الارثودوكس، مرورا بديانة سانتا مويرتيه بالمكسيك، كل الأديان تروج لنفس الترسانة من المعتقدات والطقوس. كلها، في الأصل، عبارة عن مراسيم حيث يرقص الناس، يغنون ويقومون باستحضار آلهة غير مرئية.
– طيف واسع من المعتقدات –
ومع ذلك، يظل هذا الموضوع عصيا على الفهم. كيف لبني البشر أن يصدقوا ويقترفوا أشياء مماثلة؟ إنه لغز الدين الأكبر. وهو أكبر تحد أمام كل مهتم بالوضع البشري.
نَنْعت عادة بالدين، طيفا واسعا من المعتقدات يضم الديانات التوحيدية الثلاثة ( اليهودية، المسيحية، الإسلام)، الروحانيات الشرقية (الهندوسية، التنتارية، الطاوية، البوذية)، الأديان المُشركة (أي التي تضم عدة آلهة متصرفة في الكون) القديمة، مع أضرحة آلهتها التي تتخذ أشكالا نصفها بشري، والنصف الآخر حيواني، ونجدها في العصور القديمة الإغريقية، الرومانية والمصرية، لكن أيضا عند شعبي الآزتيك والمايا.
كلمة “دين” تحيل أيضا إلى تلك المعتقدات الأكثر قدما : الشامانية، الطوطمية، الإحيائية، والتي لُحظت عند مجتمعات الصيد وجمع الثمار ويعتقد الكثيرون أنها تنتمي إلى أولى أديان ما قبل التاريخ.
أخيرا، يمكن العثور على بعض عناصر المقدس خارج الدين، في مجالات أخرى من الحياة الاجتماعية. وهكذا، فإن البعض يؤمن بوجود الأشباح، أي بوجود أرواح غير مرئية، دون أن يجعل منها موضوعا تعبديا.
في المقابل، لا ترتبط المعتقدات دائما بالإيمان في وجود قوى خارقة للطبيعة : عبادة الأصنام توجد في الرياضة، كما توجد في السياسة، وتفضي إلى مراسم وقُداسات ضخمة. وقد وصل الأمر برايمون آرون، إلى درجة صياغة مفهوم “الدين العلماني” في إشارة إلى الشيوعية أو الفاشية، ” مذاهب تحتل في قلوب معاصرينا موضع الإيمان القديم، وتجعل خلاص البشرية ممكنا في المستقبل، لكن هنا، في هذا العالم الأرضي، وذلك في ظل نظام اجتماعي يتم إرساءه”(1).
في الحقيقة، ورغم مرور 150 عاما على إنشائها، لم تتمكن علوم الأديان (التاريخ، الأنثروبولوجيا، علم الاجتماع…)، حتى الآن، من التوصل إلى تعريف تقعيدي للدين.
يمكن تجاوز هذه المشكلة عن طريق تحليل القواسم المشتركة بين مختلف الأديان. في المقابل، حين نقارن هذا المزيج الغني من المعتقدات الدينية، نخرج بأربعة سمات أساسية مشتركة بينها:
1- وجود عالم أخروي تقطنه الآلهة والأرواح.
2- وجود عبادة، هدفها تقديس الآلهة، ونيل رضاها.
3- وجود قواعد وقيم هدفها تنظيم الحياة العامة أو الفردية.
4- وجود “أخصائيين في المقدس”، توكل إليهم مهمة تأمين الربط بين العالم الأرضي والعالم الأخروي.
— عالم الأرواح —
العلامة المميزة لأي ديانة، هي الوجود المفترض لعالم أخروي : عالم غير مرئي ولامادي تسكنه الأرواح. يمكن أن يتعلق الأمر بإله واحد كما هو الحال في الديانات التوحيدية، أو بضريح يلم عددا من الآلهة الثانوية كما هو الحال في الديانات الشِّركية (المتعددة الآلهة)، مثل زيوس، أبولون، هيرا، بوسيدون، أثينا، ديونيسوس..عند الإغريق، أو الإمبراطور جايد والمعلمون السماويون عند أتباع الديانة الطاوية.
هذه الكائنات اللامرئية قد تأخذ أيضا أشكال أرواح (تعود لأحد الحيوانات أو الأسلاف)، أو ملائكة، أو شياطين(2). في البنين، تُسمى بالفودو (vodum)، وفي اليابان بالكامي (kamis)، هذه الأرواح عادة ما يتم تجسيدها من خلال عدة أشكال – أقنعة، تماثيل (صغيرة أو كبيرة الحجم)، صلبان، رموز. وحدها اليهودية، ومعها المسيحية الأرثوذكسية والإسلام السياسي، تحرم تجسيد الإله.
كل إله يستحق هذا الاسم، يتمتع بقوى خارقة كما هو الحال عند إله العهد القديم، القادر على إحداث طوفان كبير أو تحويل العصاة إلى تماثيل ملحية ( كما حدث لزوجة لوط ).
— العبادة —
الآلهة تتدخل أحيانا في مجرى الأحداث من أجل مكافأة أو معاقبة الأتباع. وبالتالي وجب إرضاؤها. لهذا فالدين ليس مجرد إيمان، بل هو عبارة عن عبادة تتكون من عدة طقوس وشعائر. الصلوات، المراسيم والقداسات، هدفها الأساسي هو جلب منافع الآلهة. أما من خلال تقديم القربان والهدايا، فنحن نطمع في حمايتها. الآلهة يمكن أن تكون أيضا رفيقا نسر إليه أو ننتظر منه النصح. كما يمكنها أن تأخذ صفة الصديق الخيالي، أو حتى الزوج، كما هو الحال في “الزيجات الصوفية”.
في الأخير، الآلهة قد تمثل رمزا لجماعة ما: هذا ما نلاحظه من خلال رمز الطوطم، أو في العقائد المدنية كما وُجدت عند الإغريق والرومان في العصور القديمة. العبادة تأخذ شكل مراسيم جماعية يتم خلالها الاحتفال بانضمام الأعضاء الجدد (التعميد)، أو اتحاد الأعضاء القدماء (الزواج)، أو أيضا إدماج الأفراد داخل نفس العشيرة.
— الأخلاق والقانون —
إلى جانب المعتقدات والشعائر، هناك ميزة ثالثة ينفرد بها الدين، وهي احتواءه على مجموعة من القواعد الحياتية، والتي تأتي عادة على شكل قوانين أو منظومات أخلاقية. فموسى قد كتب على اللوح جداوله القانونية الشهيرة، كما أن الجزء الأكبر من التوراة، هو عبارة عن قانون مدني يتولى تنظيم مسائل الزواج، الملكية والعدالة الخاصة بجماعة يهودية كانت تعيش في قديم الزمان.
أما في الجانب الآخر من الكرة الأرضية، عند السكان الأصليين لأستراليا (الأبوريجيون)، فكل الأنشطة المراسيمية (كالزواج و العزاء مثلا) تتم تحت رعاية أرواح وشخصيات تنتمي إلى ما يسمى ب ” عصر الأحلام” : أفعى قوس قزح، الأختين فوالج (wawalag)، حيث يُعتقد أنهم يمثلون القانون.
— وسطاء المقدس —
ختاما، هناك ميزة أخرى للأديان، وهي الحضور شبه العالمي ل”أخصائيي المقدس”، الذين يُفترض فيهم إقامة علاقات مباشرة مع الآلهة : يتعلق الأمر بالشامان، الكهنة، الرهبان، القساوسة، الأئمة، العلماء، الأنبياء….الحضور المعم لوسطاء المقدس هؤلاء، يعني أن الديانات لا يكتب لها الاستمرار إلا من خلال عشائر وجماعات ذات طابع مُؤَسَّسِي بدرجات متفاوتة : فتواجد وسطاء الدين مهم من أجل تأسيس المذاهب، إصلاح أمور العقيدة، تأهيل الملتحقين الجدد، و/أو استقطاب الأتباع. هذا ما يجعل الدين مسألة تقليد وتأويل بالأساس.
#ما_فائدة_الأديان_ومن_يستفيد_منها؟
سبق لمختلف جوانب الأديان ( عالم الأرواح، العبادة، الأخلاق والقوانين، الوساطة) أن قدمت لنا إجابات أولية على هذا السؤال. تُوكل للأديان بعض الأدوار الفردية، الاجتماعية والجماعية. فهي لا تهتم بتفسير العالم فحسب، بل تحاول تنظيمه أولا. تأتي الأديان من أجل إرساء قوانين وقواعد اجتماعية، ومساعدة الأفراد على مواجهة نوائب الزمن.
— تفسير العالم —
اهتمت علوم الأديان (التاريخ والانتربولوجيا خاصة) ضمن مسارها الطويل، بدارسة مختلف التصورات الدينية : الألوهية، الأساطير، الرموز، المعتقدات. عندما تقوم بفتح أي موسوعة دينية، فستلاحظ ما يلي : الديانة الاغريقية-الرومانية هي عبارة عن ضريح يضم عدة آلهة، مع ما يصاحب كل إله من خرافات وقصص أسطورية، الديانة الهندوسية تحكي قصة ثالوث ألوهي ( الخالق “برهما”، الحافظ “فيشنو”، المغني “شيفا”) مجسد على سطح الأرض على شكل كائن يدعى “أفاتار”. أن تمارس الانتروبلوجيا الدينية، معناه أن تتعاطى مع الأساطير المؤسسة لقبيلة الدوغون، والرؤى والأحلام الخاصة بالشامان.
انطلاقا من هذه القائمة الهائلة من الدراسات حول التصورات الدينية، تم التوصل إلى فرضية مصاحبة لها جميعها: كل ديانة، كيفما كانت، هي، في نهاية المطاف، عبارة عن سلسلة من المعتقدات الغرائبية التي تهدف إلى “تنظيم العالم” وتطويع المجهول. هذا ما نلاحظه من خلال الحضور المتكرر لكوسمولوجية معينة داخل كل دين، أي لسردية موحدة وإطار يُفسر ضمنه الكون. حتى وإن كانت غير عقلانية، فالمعتقدات الدينية تفيد في جعل كل ما هو غريب، مألوفا.
صحيح أن هذه الفرضية تسمح بتفسير سبب انحسار المعتقدات الأسطورية القديمة، لكنها لا تقدم توضيحات كافية فيما يتعلق بسبب استمرار الأديان رغم تطور العلوم. أو السبب الذي يجعل تفسيراتها للعالم، تتميز بهذا القدر من الغلو والجنون.
— تنظيم المجتمع —
حسب الأصل اللغوي الفرنسي لكلمة ديانة ((religion، فإن هذه الأخيرة تشير إلى كل ما “يربط” ((relie- تحقيب لغوي ممكن، لكنه يظل محط شك وتساؤل. من هذا المنظور، تكون مهمة الدين الأولى، هي الجمع بين الناس، وبالتالي خلق انتماءات عشائرية. إنها فرضية إميل دوركايم.
دعاة الجمهورية العلمانية الذين أقروا بانحسار شعبية الكنيسة داخل المجتمع ( وناضلوا من أجل القضاء عليها نهائيا أو على الأقل من أجل الفصل بين الكنيسة والدولة)، قد فهموا جيدا دور الدين في تأطير المجتمع عندما أحلوا مكانه مفهوم “الديانة العلمانية”. هذا الاستبدال يظهر أيضا من خلال ما عُرف ب”معبد العقل” إبان الثورة الفرنسية و”دين الإنسانية” عند أوغست كانت، أو ” التعاليم الجمهورية” التي ناد المسئولون السياسيون بضرورة تدوينها قصد تكوين مواطنين صالحين. دور الحفاظ على التماسك الاجتماعي هذا، وجب ترسيخه عن طريق أخلاق عامة ومراسيم تهدف إلى توحيد الجماعة حول قيم مقدسة.
وبالتالي، فنحن نجد هذه المهمة الاجتماعية مسجلة في أغلب كتب العهد القديم، والتي تحتوي على قواعد وقوانين تنظم حياة اليهود في أدق تفاصيلها. عند القدماء الإغريق والرومان، الديانة المدنية لا تنحصر في مجرد عقيدة أو مذاهب، بل تضم عادات وجب على الجميع احترامها. في القرون الوسطى، استطاعت الكنيسة المسيحية أن تبسط سيطرتها على كافة مناحي حياة المجتمع آنذاك : العادات الزراعية، عقود القران، التعميد، الحرب، السلم، الصيد : فقد كانت الكنيسة تؤطر الأشخاص كما تؤطر المجال(3).
أما في العديد من المجتمعات التقليدية، فالجهاز الرمزي والطقوسي المستعمل، يمنح الأعضاء معالم يهتدون بها في تنظيم الحياة اليومية للجماعة، تحديد قواعد الصيد والتحالف بين العشائر وتأهيل الفتيان والفتيات قصد تكليفهم بمهام معينة. طبعا، فوحدهم حراس “القانون” (Wunan) المتوارث جيلا بعد جيل، يدركون معنى هذه الصور المقدسة.
— إعطاء معنى للحياة —
لا تنحصر مهمة الأديان في تحديد الأخلاق العامة و”الطواطم والطابوهات”، بالإضافة إلى القيم المقدسة والمحرمات. ولكنها تمنح، أيضا، عنصرا مهما، يجعل الوجود الإنساني محتملا: معنىً للحياة.
معنىً للحياة؟ خصص ماكس فيبر المئات من الصفحات من أجل تحليل أسلوب العيش (l’ethos ) داخل الأديان الكبرى : وهو الأسلوب الذي يحدده الحكماء، القديسون، الأنبياء، المتصوفة، كما نجدهم في اليهودية القديمة، البوذية أو الهندوسية، البروتستنتية، إلخ. نمط العيش هذا، يتخذ، في الآن ذاته، شكل مَثَلٍ أعلى نصبو إلى تحقيقه (الزهد المُطَهِّر أو الحرص البوذي) والتزام حياتي تضبطه الطقوس، الصلوات ومختلف “التمارين الروحية”.
قد يُنظر إلي الدين ك “طقم وجودي” تجد فيه “الأرواح التائهة” ( الأشخاص الموجدون في حالة أزمة) ملاذً لها. القصص الكثيرة التي تروى حول المعتنقين الجدد للإنجيلية، الإسلام أو المسيحية، تصف لنا أشخاصا في حالة ضياع ( مدمنون على المخدرات أو الكحول، مجرمون أو يمرون من أزمة وجودية) تمكنوا، بفضل الدين، من إيجاد نمط حياتي مناسب، صورة ذات قيمة عن أنفسهم ونظام معيشي أكثر انضباطا ومسؤولية.
فما يُعرف ب”الأديان الشفائية “، ليس شيئا آخر سوى تأمين الرعاية اللازمة لأشخاص يعانون من أمراض نفسية أو عضوية، عن طريق منحهم العزاء والمواساة في حالة تعذر الشفاء التام.
هنا يكمن، ربما، أحد أهم أسباب نجاح الأديان: إنها تساعد على مواجهة نوائب الزمن، أكثر مما تساعد على التصدي لشبح الموت.
#أسباب_صمود_الأديان_أو_عدم_صمودها_
عند نهاية القرن 19، كتب نيتشه ينعي “موت الإله”، كما تحدث ماكس فيبر عن “نزع السحر عن العالم”. في ذلك الوقت، ظن الجميع أن العالم الحديث يسير بخطى ثابتة نحو وضع حد نهائي للمعتقدات الدينية: الطب سيحل محل الصلاة، التقنية ستجر البساط من تحت أقدام السحر، العلم سيقضي على الخرافة، التقدم الاجتماعي والاقتصادي سيمثل بديلا عن الخلاص الأخروي.
غير أن الرياح لا تجري دائما بما تشتهيه السفن: فالأديان ما تزال صامدة في مجتمعات اليوم. صحيح أن الكنائس قد فقدت سطوتها على مجتمع القرن العشرين، لكن الأمر لا يتعلق بتراجع معمم للمعتقدات الدينية : لا في العالم، ولا في الغرب. بل على العكس من ذلك، ما حصل في نهاية القرن 20، هو “انتقام الإله”، كما أشارت إلى ذلك العديد من التحليلات. ما هي الأسباب؟ ما الذي حدث بالضبط؟
— أسباب العودة —
صمود الأديان في عالم اليوم راجع، بدون شك، إلى الأسباب التي أشرنا إليها سابقا، فهي تجيب على مجموعة من الحاجات النفسية والاجتماعية: يوفر الدين، في نفس الوقت، دعامة اجتماعية، راحة معنوية وانتماء عشائريا.
العلمنة المتصاعدة للدول الإسلامية والعربية – من إيران إلى المغرب – حتى ثمانينيات القرن الماضي، صاحبتها عودة إلى الإسلام من طرف الشرائح الأقل استفادة من مشروع الحداثة(4). في الغرب أيضا، يمكن فهم استمرار القيم الدينية كرد فعل مضاد : الإسلام والبوذية، استفادا من التطلعات ما بعد المادية لفئات عريضة من الشباب النافر من سيطرة النزعة الفردانية والطامح إلى حياة أكثر أخلاقية، أكثر تضامنا وأكثر كرامة. نفس الشيء وقع في القرون الأولى لإمبراطورية الرومانية مع ظهور الأديان الخلاصية : المسيحية، اليهودية التلموذية، الغنوصية، الديانات الغامضة.
ورغم ذلك يبقى السؤال المطروح هو كالتالي: كيف للتطلع إلى حياة أكثر أخلاقية أو روحانية، أن يتكيف مع معتقدات تعود إلى زمان غير زماننا؟ كيف نستطيع التوفيق بين رسالة الحب اللطيفة التي جاء بها المسيح، وبين الإيمان بمعجزات تكثير الخبز أو البعث؟ الفلسفة البوذية شيء رائع، لكن، كيف نصدق، بحسب الأسطورة، أن بوذا قد خرج من بطن أمه في جو يمطر أوراقا زهرية، ولم يمض يوم واحد على ولادته حتى أخبر أمه بأنه سيد الكون؟
باختصار، كيف نصالح اليوم بين الإيمان والعقل، كيف للمرء أن يكون مسلما يصلي بالقرآن وفيزيائيا في نفس الوقت، كاهنا شنتويا ومسيرا لمقاولة معلوماتية أيضا، ومسيحيا دون أن يعتبر أن المرأة الخائنة تستحق الرجم كما هو مكتوب في التوراة؟
— من التأويل إلى الكائن الأعلى —
تاريخ الأديان يقدم حلا أوليا لهذا اللغز. منذ القرون الأولى لنشأتها، وجدت الأديان (اليهودية، المسحية، البوذية، الطاوية) نفسها مطالبة بالتوفيق بين النصوص المُؤسسة ومبادئ العصر.
خلال القرن الأول الميلادي، اقترح فيلون السكندري تفسيرا “مجازيا” للكتابات المقدسة داعيا إلى عدم فهمها فهما “حرفيا”. في الإسكندرية أيضا، تمكن كل من إكليمندس وأريجانوس من التنظير لتفسير محايد – التأويل– تتم بموجبه قراءة الأناجيل من خلال التفريق بين المعنى الحرفي، المعنى الأخلاقي، المعنى “الروحي”…( باعتبار أن الأول يخاطب الجسد، الثاني يخاطب القلب والثالث يخاطب العقل).
شَكَّل التأويل أداة فعالة من أجل التصدي لما قد يستشكل على بعض المؤمنين: لماذا طلب الإله من إبراهيم التضحية بابنه؟ لماذا يتم قتل وتعذيب الأطفال الأبرياء ( كما حدث في الطوفان أو في ضربات مصر)؟ وعلى العموم، يسمح التأويل بتجاوز ” التنافر المعرفي” والجواب على كل هذه الأسئلة المحرجة عن طريق التركيز على الجانب المجازي في هذه القصص.
التحرر من النصوص المؤسسة أصبح ممكنا أيضا عن طريق إدماج الكتابات المقدسة داخل منظومات ميتافيزيقية ولاهوتية أكثر تجريدا : في الميتافيزيقا المسيحية، صار إله العهد القديم، الغاضب والمنتقم، عبارة عن وحدة مجردة، “الواحد”، والمسيح لم يعد ذلك الطفل الذي ولد بفلسطين وتكلف بتربيته نجار يدعى يوسف، وعندما كبر أصبح يكثر الخبز، ولكنه تحول إلى رمز نموذجي للحب والسلام.
وهكذا، أصبحت الكتابات المقدس منسجمة مع التفكير الفلسفي، الفكر النقدي وحتى تطور العلوم.
خلال العصر الذهبي الإسلامي ( من القرن 8 إلى القرن 13 ميلادي)، استطاع القرآن أن يتوافق تماما مع الاكتشافات الفلكية، الطبية والرياضية التي توصل إليها العلماء المسلمون. على نفس المنوال، تمكنت فئات عريضة من أتباع الدين المسيحي من المشاركة في تطوير العلوم. كوبيرنيكوس الذي كان راهبا وفيزيائيا في نفس الوقت، ديكارت الذي جعل تصوره الميكانيكي للكون في خدمة المبرهنة على وجود الإله. إبان القرن 18 ميلادي، حظيت النظرية الربوبية المسماة ب ” الكائن الأعلى”، خالق الكون وملهم مختلف القيم المقدسة، بإعجاب فئة عريضة من النخبة المثقفة الأوروبية.
في الوقت الراهن، يبدو أن هذا الثنائي (الدين والعلم) قد فهم جيدا استحالة التواصل، وبالتالي كان السعي إلى تقسيم الأدوار بينهما. ما يعني إمكانية تعايش نظرتين مختلفتين للعالم في نفس الجمجمة(5).
— أنماط عقائدية وإيمان ليِّن —
هناك ظاهرة أخرى ساهمت في تعايش الخطابات الدينية داخل أوساط جد مختلفة. المؤرخ بول فيين وضح في كتابه “هل فعلا آمن الإغريق بآلهتهم؟”(1983)، بأن الإغريق القدماء لم يكونوا جميعا مؤمنين بآلهة جبل الأولمبية، والتي كانت تشكل ديانات مدنية مهمة مع ذلك. الكثير من الإغريق كانوا مؤمنين دون أن يؤمنوا فعلا. في حقيقة الأمر، لم تكن مسألة مصالحة معارفهم المألوفة عن العالم مع قصص المثولوجيا، تشكل بالنسبة لهم عائقا يذكر، فلم يكن هؤلاء من النوع الذي يشغل نفسه بكثرة الأسئلة حول الموضوع.
على غرار ذلك، فعلاقة العديد من المؤمنين المعاصرين بالأديان، يغلب عليها طابع الحيادية وأخذ المسافة. فهم يؤمنون دون التصديق الفعلي لإمكانية وجود خالق للكون، بنفس الطريقة التي يؤمن بها الآخرون بوجود الأشباح أو بتناسخ الأرواح، لكن، من دون أن يكون إيمانهم شبيها بإيمان العجائز.
كثيرة هي المعتقدات التي تدور في منطقة عقلية وسطى بين اليقين، الشك وأمل غير مؤكد بأن هناك “شيئا ما”. هذا الميل نحو تخصيص حيز صغير لعدم التصديق، راجع إلى بنية عقائدية تتميز بالمرونة والغموض.
— عندما يفقد الخطاب بريقه —
رغم كل هذه المحاولات من أجل إعادة صياغته، فالدين لا يصمد دائما. حتى أن تاريخ الأديان، هو عبارة عن تاريخ متجدد من الاحتجاجات، الهرطقات، الشك والطعن في أركان العقيدة. عمليا، وفي كل العصور، اضطرت الأديان (المسيحية، الإسلام، البوذية، الطاوية، الهندوسية..) إلى تجديد دمائها من أجل الاستمرار في الوجود.
لقد وجدت مختلف الحركات الدينية المهيمنة نفسها، دائما، في مواجهة المعارضين، “البروتستنتيين” و المنشقين. الأزمات الداخلية، هي من جعلت هؤلاء يقومون بتجديد المذاهب وإصلاحها. وهنا يكمن أحد هم أسباب استمرار الأديان : قدرتها على الانبعاث من جديد كطائر الفينيق. كل ديانة هي عبارة عن بدء أبدي ومتكرر.
قبل قرن من الآن، انكب العديد من علماء النفس على تحليل الأسس النفسية للأديان.
– سغموند فرويد (1856-1939) : خصص العديد من الكتب للحديث عن الأديان. في كتابه “الطوطم والتابو” (1913)، يرى في الدين مجرد تعبير عن شعور بالذنب اتجاه الأب ومصدر لجميع المحرمات (الجنسية والغذائية). وأيضا في كتابه “مستقبل وهم” (1927)، يعتبر الأديان كشكل من أشكال التقهقر نحو المشاعر الطفولية. فطاعة الإنسان للإله شبيهة بطاعة الطفل لوالديه. في مواجهة نوائب الزمن، يحس الإنسان بأنه عاجز، فيلجأ إلى رمز أبوي مثالي، قادر على مد يد العون إليه والإحساس بمعاناته.
– ويليام جيمس (1842- 1910) : اهتم بتنوع التجارب الدينية. هذه التجارب تتميز بالتنوع والاختلاف، انطلاقا من التزمت (التقيد بالطقوس) وصولا إلى التجربة الصوفية التي تتيح لحظات وَجْدية، مرورا بالموقف الرسالي الذي يعني التزاما اجتماعيا. تنوع التجارب معناه تنوع في الانتظارات والمكافئات التي يتيحها دين ما. الأديان ليست مسألة خطئ أو صواب، لكنها تفيد في مواجهة مصاعب الحياة.
– علماء النفس التطوريين ( سكوت أتران وباسكال بوير) : يعتبرون الطقوس والعقائد الدينية مجرد “ظواهر طبيعية” مرتبطة بتكوين معين للدماغ البشري. الاعتقاد في وجود أرواح لا مرئية قادرة على التأثير في حياتنا، راجع إلى نشاط خلايا دماغية فطرية تضفي رغبات متسترة على ظواهر طبيعية.
– ميشال أرجيل (1925-2002) : وهو أخصائي في علم النفس الاجتماعي للديانات، قام بعدة أعمال حول العلاقة بين الدين ورغد العيش والصحة الجيدة، مبينا أن الصلاة، العبادة وأعمال الخير تتيح حياة أفضلا للمؤمنين. باختصار، المؤمنون أكثر سعادة من غيرهم.
(1) Raymond Aron, « L’avenir des religions séculières », in Chroniques de guerre. La France libre (1940-1945), Gallimard, 1990.
(2) Voir Patrick jean-Baptiste (dir), dictionnaire universel des dieux, déesses et démons, seuil,2016.
(3) Florian Mazel, l’Evêque et le territoire. L’invention médiévale de l’espace, seuil, 2016.
(4) Jean-François Dortier et Laurent Testot (coord), La religion. Unité et diversité, éd. Sciences Humaines, 2011.
(5) Yves Gingras, L’impossible dialogue. Science et religions, Puf, 2016.
مصدر المقال الأصلي :
Sciences humaines N°289 – février 2017 Les nouveaux visages de la précarité