
ترجمة : عبد الوهاب البراهمي
- إنّك غير متّفق مع الفكرة المتداولة بكثرة، كون الديمقراطيّة تحفل بإجماع غير مسبوق. ألا يعود هذا إلى أسلوبك في فهم الديمقراطيّة، و هو جدّ مختلف عن التصوّر المعتاد؟
هناك جوابان عن سؤالك هذا. أولا، ما أحاول الدّفاع عنه فعلا، انّه لا يمكن ردّ الديمقراطيّة لا إلى شكل من الحكم ولا إلى نمط من الحياة الاجتماعيّة. لكن، حتّى لو فهمنا “الديمقراطية” في معنى قد نقول عنه مألوف، فلا أعتقد بالمرّة أنّ هناك إجماعا حول قيمتها. فبالنسبة إلى مرحلة الحرب الباردة، حينما كانت الديمقراطيّة موجودة بوضوح في جانب والشموليّة في جانب آخر، فإنّ ما نشهده منذ سقوط جدار برلين، وفي البلدان التي تسمّى” ديمقراطيات”، هو بالعكس ضرب من الحذر والسخريّة المقنّعة والظاهرة من الديمقراطيّة. حاولت أن أبيّن في كتاب ” كره الديمقراطيّة”haine de la démocratie، أن ّ جانبا كبيرا من الخطاب المهيمن، يستخدم، و بأشكال مختلفة، ضدّ الديمقراطيّة. فإذا ضربنا مثلا على ذلك بما يقال في فرنسا حول انتخابات 2002 أو الاستفتاء حول دستور الاتحاد الأوروبي في 2005: فقد نجد هذه الخطابات عن الكارثة الديمقراطيّة، وعن هؤلاء الأفراد غير المسئولين، وعن المستهلكين الصغار الذين ينظرون إلى الخيارات القومية الكبرى كما لو تعلّق الأمر باختيار ماركة عطر أو غيره. ومع أنّ الدستور، حتّى ننهي، لم يخضع من جديد لهذا الانتخاب، الذي يشكّل جزءا من التعريف الرسمي للديمقراطيّة. لقد شهدنا طهور الخطابات القديمة، وبدرجة أولى كوهن- بنديت Cohn-Bendit الذي يقول بأنّ الديمقراطية هي التي سمحت بوجود هتلر،الخ. وبقدر ما تكون المواقف الأكثر هيمنة لأولئك الذين نسمّيهم مثقفين، الذين يرون في الديمقراطية هي حكم الفرد المستهلك المعاد تشكيله، فإنّه نظام التفاهةla médiocratie …؛ مواقف نجدها من جديد من اليمين إلى حدّ أقصى اليسار، ولنقل من فينكالكروت Finkielkraut إلى تيكان Tiqqun !
- هذا لا يمنع من أنّ الجميع يزعم أنّه ديمقراطي…
إطلاقا !حينما نقول: الديمقراطيات، فنحن نعرّف الدّول ونضع الديمقراطي عدوّا للديمقراطيات. إنّه الموضوع الذي تناوله ثلاثي الأضلاع منذ أكثر من ثلاثين سنة: الديمقراطيات، أي البلدان الغنيّة، هي مهدّدة من الديمقراطيّة، أي النشاط غير المراقب للديمقراطيين، من أيّ كان، ممن يبحث عن الاهتمام بشؤون المجموعة.
إنّنا نشهد اليوم شيئا يعود إلى أصل العبارة ( أي الديمقراطية): فإذا كان هناك إجماع، منذ أن وجدت الكلمة، فهو حول أنّ فكرة ” الديمقراطية” تعني أشياء مختلفة ومتناقضة. بدأ هذا مع أفلاطون الذي يقول بأنّ الديمقراطية ليست شكلا من الحكم، بل هي فحسب، اللذة الحسنة التي يجدها أولئك الذين يرغبون في التصرّف وفق هواهم؛ ويستمر الأمر مع أرسطو الذي يقول بأن الديمقراطية شيء حسن، بشرط منع الديمقراطيين من ممارستها؛ ليعاد طرح الأمر في العصر الحديث مع العبارة المتداولة لتشرشل عن الديمقراطية، بأنّها أسوء الأنظمة باستثناء كلّ الأنظمة الأخرى. إنّي لا أعتقد إذن، أنّ هناك إجماعا، إلاّ ذاك الذي يتمثّل في تقسيم العبارة.
- إنّي أرى في هذه العبارة شيئا من قبيل المثّلث قممه هي الحريّات والنظام البرلماني، والديمقراطية عند رونسيار Roncière ، أي سلطة من ليس لهم أيّ صفة مميّزة لممارستها. فهل أنّ كلمة بمثل هذا التعدّد في الدلالة، و تتضمّن أيضا أشياء جدّ مختلفة، تستحقّ أن تًحفظ،أو، ألا يتعلّق الأمر بكلمة أنهكها الاستخدام؟ إذ يحدث أن تبلى الكلمات، مثل عبارة ” الجمهورية”: ففي 1825 قد نتعرض للقتل إن لم ندّعي أنّنا جمهوريون، بينما اليوم هذا لا يعني شيئا.
أعتقد أن الأصل في المفاهيم السياسيّة، ليس أن تكون متعدّدة الدلالة شيئا ما، بل أن تكون موضوع صراع. فالصراع السياسي هو أيضا صراع من أجل امتلاك الكلمات. هناك حلم فلسفيّ قديم، هو اليوم حلم الفلسفة التحليليّة، وهو تعريف معاني الكلمات بدقّة تامّة على نحو نزيل فيه اللّبس، وتعدّد الدلالات. polysémie …لكنّني أعتقد أن الصراع حول الكلمات مهمّ، وأنّه من العاديّ أنّ الديمقراطيّة تعني أشياء مختلفة بحسب السّياق : فبالنسبة إلى مثقف فرنسي متوسط، هي حكم حريف سوق تجارية كبرى مسترخي أمام تلفازه، لكن وقد عدت من كوريا حيث انهارت الدكتاتورية منذ عشرين سنة فحسب، هناك حيث تعني فكرة سلطة جماعية مستقلة عن آلة الدولة، شيئا يترجم بأشكال هائلة من احتلال الشعب للشّارع. أودّ أن أقول أن هناك ضرب من إنهاك الكلمة، في المكان الذي اخترعت فيه ، في الغرب، ولكن إذا ما فكّرنا في كلّ ما يحدث في آسيا، فما يزال للكلمة معنى. وإذا ما عثرنا على كلمة أفضل عوضا عن ديمقراطية، فإنّي استحسن هذا، ولكن ما هي هذه الكلمة؟ المساواتيّةégalitarisme ؟ ليس نفس الشيء تحديدا. ” الديمقراطية” تتضمّن بعدُ المساواة في قلب اللامساواة. أيّ كلمة لم يقع تلويثها؟ ثمّ إنّه يجب علينا معرفة ما نصنع حينما نطلق كلمة، أيّ قوّة أو سلاح نمسك أو نلقي، هنا بالنسبة إليّ، يكمن المشكل.
– إنّي لأتساءل، إذا كانت الديمقراطية بالنسبة إليك، ليست لا شكلا من الحكم ولا نمطا من المجتمع، أفليست مثلا أعلى لانطاله؟
لا، ليست مثلا أعلى، بما أنّياشتغل دوما على المبدأ القائل بانّ المساواة مسلمّة وليست هدفا نروم بلوغه. وما أحاول قوله، هو أن الديمقراطيّة في معنى سلطة الشعب، هي بالذات أساس ما يجعل السّياسة قابلة أن يفكّر فيها. وإذا ما عادت السلطة إلى الأكثر علما، والأقوى والأكثر غنى، فلن نكون في مجال السياسة. هذا رأي روسو: ليس لسلطة الأقوى أن تعلن عن نفسها بوصفها حقّا droit – فإذا كان الأقوى هو الأقوى ، فإنّه يفرض نفسه وكفى. فلا حاجة له لمشروعية أخرى. أرى أنّ الديمقراطية هي مسلمة مساواتية égalitaire يجب أن يستند عليها نظام اوليغارشي حتى، مثل نظامنا، في إثبات مشروعيته. نعم، للديمقراطيّة وظيفة نقديّة: إنّها زاوية المساواة مدمجة مرّتين، موضوعيا وذاتيّا، في جسد الهيمنة، إنها ما يمنع السّياسة عن التحوّل بباسطة، إلى شرطة.
– لقد كتبت في آخر صفحة من كتاب” كره الديمقراطيّة” :” إنّ مجتمع المساواة ليس إلا مجموع علاقات مساواتية ترسم نفسها الآن وهنا عبر أفعال فرديّة وعابرة”وهو ما يذكّرني بمقطع آخر، في ” أطروحات حول السياسة” – مقولة أكثر قربا إليك من الديمقراطي ، :” تجري السياسة دائما كحدث عارض في تاريخ أشكال الهيمنة “. أو أيضا في “عدم التفاهم” Mésentente :” إنّ السياسة ، في خصوصيتها، نادرة. هي دوما محليّة وظرفيّة.”الديمقراطية ،والسياسة العابرة، والمؤقّتة ، والمناسباتية .. هذا الانبثاق المفاجئ ، وباختصار، دون مستقبل ، أليست رؤية تشاؤميّة للحركات التحرّريّة؟
لا أعتقد أنّي تكلمت يوما عن انبثاق مفاجئ مختصر ودون مستقبل. إنّي لا أقترح رؤية للتاريخ حيث قد يكون هناك انبثاق و حيث ينحدر كلّ شيء إلى التسطيح. ففي النص الذي ذكرت، كنت أحاول فحسب أن أقول إنّ المساواة توجد مثل مجموع الممارسات التي ترسم مجالها: فليس هناك من واقع للمساواة إلاّ واقع المساواة. أنا لا أقصد أنّ المساواة لا توجد إلا على الحواجز، وأنه إذا ما تحطّمت الحواجز، انتهى كل شيء، فنعود إلى الفتور. لست مفكّر الحدث، والانبثاق بل بالأحرى مفكّر التحرّر بما هو شيء ذي تقليد، وتاريخا ليس مصنوعا من أعمال كبرى ساطعة فحسب، بل من بحث يبتغي خلق أشكال للمشترك ليس هو بمشترك الدولة، ولا بالإجماع، الخ. هناك، بالتأكيد أحداث فعّالة، وتدشّن زمانّية: مثلا الثلاثة أيّام من جويلية 1830 التي فتحت فضاء ابتلع فيما بعد المنظمات العمّالية وانتفاضات 1848 والكومين(مجلس العموم).
توجد المساواة عبر هذا، في راهنيتها، لا كمثل أعلى نبلغه بفضل استراتيجيا صائبة، وبتوجّه حسن، وبعلم جيّد أو غيره. إنّي لا أرى، بصراحة، لماذا قد يكون هذا السّلوك أكثر تشاؤمية من غيره. أنظروا إلى عدد الاستراتيجيين الثوريين الموجودين في إيطاليا- ثم ماذا؟ لدينا بارلسكوني Berlusconi.علينا يوما محاسبة كلّ أولئك الذين يملكون مفاتيح المستقبل، ولهم أفضل الاستراتيجيات السياسيّة- نحاسبهم على كلّ ما يحدث لنا اليوم. وإذا كانوا هم المتفائلين وأنا المتشائم، هم الواقعيين وأنا الحالم …(ضحكات).
– بالنسبة إلى شخص مثلك اشتغل كثيرا بالأرشيف، ليس لي شعور بانّ قطارك مشدود بمثل هذا القدر إلى الماضي.
أي نعم، أعتقد أنّ هناك تقاليد للتحرّر. وهو ما أحاول أن اشتغل عليه، ولكن على تقليد آخر غير التقليد الذي صادرته الرؤى الإستراتيجية، اللينينيّة ورفاقها. لم أكفّ يوما عن مقاومة فكرة ضرورات تاريخيّة. وأن أكون قد اشتغلت بالأرشيف، فإنّ ذلك قد علمني على الأقلّ شيئا، هو أنّ التاريخ صنيعة أناس ليس لهم إلاّ حياة واحدة. وهو ما يعني أنّ التاريخ لا يصنع شيئا، ولا يقول شيئا، وما نسمّيه تاريخا دُبّر من أناس يبنون زمانيّة انطلاقا من حياتهم الخاصّة، ومن تجربتهم الخاصّة. نقصّ تاريخ ذوات عظيمة مثل الطبقة العمّالية أو الحركة العمّالية، ولكنّنا نرى بوضوح أنّ هناك في الواقع قطيعات في التحويل أو النقل ، وأن هناك خيوط تنقطع عن الماضي ثم يعاد إنشاءها…انظروا إلى ما حدث بعد ماي 68 : فبعد سنوات من الإنكار بل حتّى المقت، يأتي جيل يهتمّ من جديد لما حدث في سنوات 1960، ويعيد اكتشاف الماويّة maoïsme، الخ. إنّ هذه الأجيال الجديدة تسعى إلى أن تعطي معنى لبعض الكلمات، لبعض الآمال المتعلّقة بهذه الكلمات، في سياقات مختلفة وبأشكال من النقل هي أيضا مختلفة وعرضية.
- حوار و صياغة “إيريك هزان” Eric Hazan