
د. سالم العيَّادي
أستاذ الفلسفة بجامعة صفاقس، الجمهوريَّة التونسيَّة

تمهيد
ما المشترَك؟ أَ قبليٌّ هو أم بعديٌّ؟ وبأيّ معنى يكون المشترَكُ شرطَ إمكان الحضارة والتّاريخ من ناحية، ومعيقًا لكلّ وثبة حضاريّة مبدعة وتقدّم تاريخيّ خلاّق من ناحية أخرى؟ ثمّ إلى أيّ مدى يجوز إرجاع الأزمات الإنسانيّة (روحيّةً كانت أو ثقافيّة أو اقتصاديّة أو سياسيّة…) إلى انفراط عقد المشترَك (عقائديًّا كان أو رمزيًّا، تبادليًّا كان أو مدنيًّا)؟ هل انهيارُ اليقين الجمعيّ والتباسُ حقيقة الذّات وتفكّكُ الرّوح الموضوعيّ سببٌ مفسّرٌ للأزمة السّياسيّة أم هو نتيجةٌ مترتّبةٌ عنها وأثرٌ دالٌّ عليها؟
يستند هذا المقال إلى مقدّمة منها تكتسي تلك الأسئلةُ وجاهتَها النّظريّةَ والعمليّةَ، وعلى أساسها تتحدّد موضوعاتُ هذا التمرين الفلسفيّ في الدَّلالة اللغويّة لمفردة المشترك في لسان العرب. ومفاد هذه المقدّمة أمران هما: أ- يتشكّل المشترَك من “معرفة” هي مادّته ويتشكّل من “سياسة” هي صورته. ب- الأزمةُ الاجتماعيّةُ السّياسيّةُ هي حصيلة توتّر بين مادّة المشترَك وصورته. ولا تكون مشاريع النَّهضة والتَّقدّم والثّورة ممكنةً دون انقلابٍ جذريّ يحدثمن داخل أحد عنصريْ المشترك.ولا يكتمل هذا الانقلابُ ما لمْ يفضِ إلى الإطاحة أيضًا بالعنصر الآخر. فلا نهضة وتقدّم وثورة إذن دون تغيير جذريّ في مادّة المشترك (المعرفة) وصورته (السّياسة)[2].
نحن نضع هذه المقدّمة بجزأيْها محاولةً منَّا لتعليل العجز عن تمثّل الرّهان الحضاريّ العربيّ بوصفه رهانًا تحرّريًّا جذريًّا، وللكشف أيضًا عن أسباب القصور الثّقافيّ والسّياسيّ الّذي عطّل مسار البناء المشروع للدّولة أيْ مسار بناء الدّولة على أساس فكرة الحقّ. فامتناعُ خطاب الحرّية والحقّ والممارسةُ السّياسيّةُ العادلةُ في أوطاننا يعود بناءً على تلك المقدّمة إلى مَكْر المشترَك من ناحية، وإلى العجز الفكريّ والسّياسيّ عن اقتحام أفقٍ غيرِ- مشترَكٍ: أفق الطّريف والمتفرّد والاستثنائيّ والمختلف والمتمرّد المغامر. أي العجز عن اقتحام أفق النُّهوض الحضاريّ والثّورة السِّياسيَّة.
قد تتمرّدالثّورةُ على أنظمة سياسيّة قائمة. ولكنّها لا تكون حركةَ تقدُّمٍ تاريخيّ وحضاريّ إنْ هي لم تتمرّد أيضًا على المشترك الّذي هو بنية التّخلّف والانحطاط والاستبداد ونسق التَّمثّلات المعيقة للتحرُّر. فالمشتركُ الّذي هو بيئتُنا الثّقافيّة والرّوحيّة والسّياسيّة الّتي ينمو في مستنقعاتها الجهلُ والخوفُ وبرودُ الهمّة وتعطّـّلُ الإرادة، ظلَّ هو هو جاثمًا بكلّ ثقله. بل إنّ المشترَكَ وهمٌ مخاتلٌ يمكر بالاندفاع الثّوريّ، بوصفه اندفاعًا ينزع إلى الحقِّ والحرّية والعدالة والكرامة. ولا سبيل في تقديري إلى تثوير المشترَك إلاّ بالكشف عن مفترضاته الكبرى المعرفيّةً والسياسيّةً. فدولة الحقّ والحرّية لا تحتمل مشترَكًا يبتلع الاختلاف بدعوى الهويَّة مثلاً، أو يخشى النِّقاشَ العموميَّ حول القضايا الكبرى الحسَّاسة بدعوى وحدة الصّفّ الوطني مثلا.
1. لحظة أولى:
من الألفاظ المتولّدة عن جذر (ش- ر- ك) لفظ الشّرك[3]. ومعناه أن يجعل الإنسانُ للّه شريكًا في ملكه أي أن يعْدلَ باللّه شيئًا من خلقه فيجعَله مساويًا له في وجه من وجوه الألوهيّة أو صورة من صور الرّبوبيّة. وقد لا يكون مردُّ الشّرك إلى قرارٍ مريدٍ عالِمٍ واختيارٍ حرٍّ متبصِّرٍ، وإنّما إلى التباس في المعنى وخلط في التّمثّل: فالشّرك يعود إلى أنّ أمرَ الألوهيّة قد التبس في الفكر أو اختلط في الوجدان فصار مشترَكًا مع تمثّلاتمختلفة وانفعالات مغايرة[4].
الالتباسُ عاملٌ أساسيٌّ من العوامل المكوّنة لكلِّ مشترَك. بل إنّ المشترَك قد يؤخَذ دالاًّ على الموضع الّذي فيه يُشْرَك الأمرُ أي على مكمن الالتباس وموقعه. والمشترَك بهذا المعنى المَوْضعيّ يقابل المفترَق: فهو عكس المفترق ما دام المفترقُ هو الموضع الّذي فيه يتبيّن الأمرُ وفيه يتجلّى الفرْقُ واضحًا. ففي الطّريق المشترك يستوي النّاس[5]. أمّا في المفترقات فتتباين الوجهة وتختلف القبلة[6]. ولا يستوي النّاس في المفترق ولا يعدل أحدُهم الآخرَ، بل قد تكون الدّروبُ المتباينةُمتفاضلةً والثّنايا المتقابلةُ متمايزةً: المفترَقُ إذن موضع فرق لا بدُّ فيه من افتراق.
قد يُقال إنَّهذا الطريقَ المشتركَ طريقٌ فرعيٌّ لمشترك أوسع غاب عن الأبصار. كما قد يُقال إنّ هذا المفترَق توليدٌ لمشترك جديدلم تدركه الأبصار بعْدُ. والحيرةُ النّاجمةُعن الالتباس تكون في المفترَق أشدَّ ممَّا تكون عليه في المشترَك: فالطّريقُ المشترَكُ مألوفٌ مرتادٌ بينما مَفْرَقُ الطّريق يبعث دائمًا على التّردّد. وهذا القولُ وجيهٌ ومشروعٌ. غير أنّ المشترك هو الأَدْعَى إلى الحيرة الّتي تأسر الإنسان كما يأسر شَرَكُ الصّيد الفريسةَ، وهو الأبعث على التّنازع لأنّه دائمًا غامضٌ رغم بداهته أو بسببها. فشَرَكُ الطّريق هي “الطّرق الّتي لا تخفى عليك ولا تستجمع لك. فأنت تراها وربّما انقطعت، غير أنّها لا تخفى عليك. وقيل هي الطّرق الّتي تختلج”. واختلاج الطّرق مؤذنٌ بالتّنازع فيها[7].
فإذا كانت “شَرَكُ الطّريق” موضعَ التباس وتنازع فإنّ المفترَقَ من شأنه أن يكون بيّنًا في ذاته: فهو يَفْرق ويميّز ويباعد بوضوح. وقد يكون هذا الوضوحُ مربكًا حين لا يكون السّائرُ قد اختار لنفسه وجهةً مَّا معلومةً.وإذا كان وضوحُ الفَرْقِ مدعاةً للارتباك فذلك لأنّ الاختيارَ فيه يقتضي التّمحيصَ معرفيًّا ويحمِّل صاحبَه المسؤوليّةَ أخلاقيًّا.أمّا التباسُ المشترك فمطمئنٌ ما دامت الذّاتُ العارفة فيه والمسؤولة عنه متعاليةً (الجماعة/ التّراث/ الدّولة…).يمكن القول إذن إنّ الطّمأنينة لا تكون مع انكشاف الفرق والمختلف وإنّما تكون مع التباس المشترَك والهويّة. ولو كان المشتركُ واضحًا بيّنًا لما سكن إليه الجمعُ.
المفترَق واضحٌ من حيث طبيعتُه ونمطُ “عطائه” للذّات: فهو يُعطَى بوصفه موقعَ افتراق جذريّ وتمييز مطلق. أمّا الحيرةُ أمام المفترَق فتنشأ إمّا بسبب انعدام العلامات المميّزة بين الوجهات أو بسبب عدم القدرة على الاختيار. وانعدامُ العلامات سببٌ عرضيٌّ، والعجزُ عن الاختيار سببٌ ذاتيٌّ، أمَّا المفترَق فمن شأنه أن يكون واضحًا في ذاته بيّنًا موضوعيًّا: فهو موضع الخروج من مشترَك عامّ جامع إلى مختلف خاصّ متفرّد. وقد يتحوّل الطّريقُ المتفرّعُ المتفرّدُ إلى مشترَك جديد، كما قد يؤدّي هو الآخر إلى مفترَق فرعيّ.
يتمثّل المشكل الأساسيّ إذن في عدم وجود مشترَك أصليّ مطلق إلاّ ما كان سابقًا على التّاريخ متقدّمًا عليه، وفي عدم وجود مفترَق نهائيّ مطلق إلاّ ما كان خارج التّاريخ متعاليًا عليه. فكلّ المشتركات التّاريخيّة (الألسنة/ الثّقافات/ الهويّات القوميّة/ الجماعات العقائديّة/ الأوطان…) نشأت عن مفترَق وتولّدت على سبيل التّفريع. وكلّ أشكال التفرّد والفرْق أدّت إلى بناء مشترك جامع جديد (النّبوّات/ الزّعامات التّاريخيّة/ الإبداع الفنّيّ/ التّفلسف…). بل إنّ الوجود الّذي هو في جوهره “فرْقٌ” يظلّ هو هو مشترَكًا بين جميع المفترقات. فكيف يصير المفترَق مشترَكًا؟ وضمن أيّة شروط تكون مفارقة المشترَك ممكنةً دون انهيار وحدة الشيء (الدّولة/ الجماعة/ الخطاب/ الجنس أو الأسلوب/ العقلانيّة…)؟
2.لحظة ثانية
يتميّز الطّريق المشترَك بكثرة المارِّين به العابرين منه: فهو طريق الحشود والسّواد الأعظم. فلماذا نحن متلاقون فيه؟ ما هي الدّروب الفرعيّة الّتي أتت بنا إليه وجمعتنا فيه؟ عند أيّ مفترَق يكون الافتراق؟ ما الّذي يفسّر انجذابي إلى هذه الوجهة الخاصّة دون غيرها (الفلسفة لا الشّعر مثلا…)؟ عند أيّ مفترَق تختلج الطّرقُ فتتنازعنا ونتنازع فيها (مفترق المصالحومفترق العقائد مثلا…)؟هل من مفترَق لتفرُّد نهائيٍّ وتوحُّدٍمطلقٍ؟
الأعمال الفنّيّة الخالدة والتّجارب الروحيّة العميقة ومقامات السّالكين ليست في الحقيقة إلاّ تفرّعات فريدة واستثنائيّة لمشترَك مختلف عن نظام الحياة اليوميّة (المألوف/ العادي/ الاستعجاليّ…) وعن نظام الحياة العمليّة (النّفع/ المصلحة/ تقسيم العمل…). فلا قيمة للإبداع الحرّ والذّوق والوجد إن لم يكن هو الآخر تأسيسًا لمشترك مغاير فوق مشترك اليوميّ والعمليّ. فآفاق الجمال والمعنى والحضور لا تكون فرْقًا حقًّا إلاّ متى انفتح لها الكونيُّالمشتركُ وراء كلّ مشترك ظرفيّ عابر (اليوميّ والعمل).فهي ليست إذن مفترَقًا لتوحُّدٍ نهائيٍّ وتفرّد مطلق وإنّما هي مفترقٌ لمشترك غير المشترك المألوف المبتذل. فحتّى حياة المتوحّد الّتي وضع ابن باجة تدبيرَها لم تكن حياة وحدة ووحشة وغربة، وإنّما كانت حياة تآنس في وطن آخر مشترك هو وطن “الصّور العقليَّة” حيث يسكن الفلاسفة جميعهم على اختلاف أزمانهم وألسنتهم ومللهم.
المفترَق النّهائيّ المطلق هو الموت. فالموت هو الفرق الجذريّ. وداخل الحياة تمثّل الحياة الخاصّة الحميميّة فرقًا نسبيًّا مباينًا للفضاءات والمشاغل العموميّة المشترَكة. غير أنّ في الموت ذاته مشتركًا مَّا هو آداب المآتم والجنائز والمقابر. فالبعد القانونيّ والثّقافيّ والطّقوسيّ للموت بعدٌ مشترَك. والحياة الخاصّة الحميميّة فقدت بَعْدُ خصوصيّتها بسبب اختراق المشترك لها. فوحدة المعمار ونمطيّته، ووسائل الإعلام، والشّبكة العنكبوتيّة، والمراقبة البلديّة والضّريبيّة، وغيرها ممّا هو من الهيئات العموميّة المشكّلة لحياة الإنسان المعاصر تعكس في حقيقة الأمر حصارَ المشترَك للسّكن الشّخصيّ ولإقامة الفرد.
فالمشترَكُ الحديثُ والمعاصرُ متضخّمٌ وهو يتضخّم باستمرار على حساب الفرديّ والخاصّ والحميميّ. وبهذا المعنى يكون المشترَك بالنّسبة إلى إنسان الأزمنة الحديثة مصدرَ همّ وقلق وباعثًا على الملل والسأم كما أدرك ذلك أعلام الفكر الوجوديّ. والملاحظ أنّ المشترَك الإعلاميّ والتّواصليّ اليوم مشترَكٌ فضائحيّ. فهو يفضح الحياة الخاصّة ويعرّيها ويجرّدها من كلّ حُرْمَة، حتّى صار الفردُ يتحمّل من حيث هو فردٌ المسؤوليّةَ عن كلّ مصائب الإنسان الحديث بقدر ما صارت “الأنا” أساسًا أوحدَ لليقين النّظريّ والعمليّ. ولمْ يُعْف الاكتشافُ الأنثروبولوجيُّ للبنية ولا الاكتشافُ التّحليليُّ للاّوعي الفردَ من المسؤوليّة عن مشترك هو في الأصل متولّدٌ عن كيان لا- ذاتيّ (المجتمع/ التّاريخ/ الدّولة/ الدّين..). وللمشترك اليومَ طابعٌ فضائحيٌّ علاوةً على طبيعته المخاتلة القاهرة. وهذا الطّابع الفضائحيّ قد تولّد عن وسائل الإعلام والتّواصل الحديثة وهي تكرّسه يومًا بعد يوم بمظاهر مختلفة. وهذا ما جعل مخاتلةَ المشترَك للوعي والضّمير الأخلاقيّ تتلوّن اليوم بألوان غير معهودة إذ صار الشّخصيّ ذاتُه مشتركًا[8].
3.لحظة ثالثة
“رأيتُ فلانًا مشتركًا إذا كان يحدّث نفسَه أنّ رأيه مشترَكٌ ليس بواحد. وفي الصّحاح: رأيتُ فلانًا مشتركًا إذا كان يحدّث نفسَه كالمهموم”[9]. إنّ لحظةَ الاشتراك – كما يدلّ على ذلك هذا الشّاهد من لسان العرب – لحظةُ همّ تكون النّفس ذاتها موضوعًا له. فالشّخص المشترك يكون مفترقًا لحظةَ همّه إلى اعتبارين هما: اعتبار الذّات الباثّة (المحدّث المخاطب) واعتبار الذّات المتلقّية (المخاطَب): الشّخص المشترك يحدّث نفسَه ولا يحدّث غيره. بل إنّه قد لا يجد أصلا من يتحدّث إليه أو من يحادثه فتكون نفسُه بذلك بديلا ممكنًا للجار والأنيس والزّوج. وهل أقربُ من نفسي جوارًا إليًّ؟
في لحظة الحديث إلى النّفس تتحوّل الفرديّة إلى زوجيّة. ومقتضى الزّوجيّة السّكنُ. ويُطلَب السّكن عندما تضطرب النّفسُ بسبب وحشة الوحدة أو تعب التّرحال.ويمكن القول إجمالا إنّ أمكنَ معاني المشترَك في اللّسان العربيّ هو الجوار. وأهمّ دلالات الجوار في الإبانة عن معنى المشترك هي “المقاسم” و “الشّريك” وطالب “الأمن”: فالجار هو “الشّريك في العقّار. والجار: المقاسم. والجار: الحليف. والجار: النّاصر. والجار: الشّريك في التّجارة… وجارك: المستجير بك فإذا أجرته أمّنته”. و”امرأة الرّجل شريكته وهي جارته. وزوجها جارها”. وهذا يدلّ على أنّ الشّريك جارٌ، وعلى أنّ الجوار والتَّقاسم والأمن هو من أظهر معاني المشترَك[10].
يتسنّى لنا من هذا المنظور اللّغويّ وصفُ المشترَك من حيث هو “موضع” الهمّ على هذا النّحو التّأليفيّ: المشترَك هو موضع تثنّي الذّات (صيرورتها اثنين أو زوجًا) وانثنائها على ذاتها (صيرورة العودة إلى الذّات) حين لا يكون الرّأيُ واحدًا بل مشتركٌ باعثٌ على الهمّ. وفي هذا الموضع تكون الذّات مهمومةً بسؤال مربك هو: أيّ الآراء هو رأي الذّات المعبِّر عن حقيقتها؟ ما السَّبيل إلى الطّمأنينة وسكينةِ النَّفسِ؟
المشترك من زاوية النّظر هذه موضعُ التباس شديد مردُّه حالة التّساوي الّتي يتبدّد فيها الاختلاف والفرق وتغيب فيها العلّة الكافية المرجّحة لأحد الخيارات على الخيارات الأخرى الممكنة. فالذّات المشتركة تلتبس عليها آراؤها ولا يتمايز بعضها عن بعض، فتحار في تعيين الرّأي الواحد المعبّر عن وحدتها وهويّتها. فالمشترَك إذن موضع أزمة: هو الموضع الّذي تفيق فيه الذّات على انهيار بداهة الوحدة الزّائفة وتلاشي وَهْمِ الهويَّة الواضحة البديهيَّة. ونحن لا ندرك أزمة المشترك إلاّ بأداة مشتركة وفي فضاء مشترك (اللّغة/ الثّقافة/ الحوار…).
توجَد إذن وضعيّاتٌ لا تكون فيها الذّات (الفردية والجماعيّة على السّواء) هي هي. وفي مثل هذه الوضعيّات يكون المشترَكُ مشكِلاً، وذلك لأنّه يكفُّ عن كونه موضع الوحدة والتَّواطؤ ويصير مجرّد إحداثيّة من إحداثيّات التعدُّد وبابًا من أبواب الاختلاف. وحين تصير الذّاتُ متعدِّدةً مختلفةً لا يمكن لها إلاّ أن تحدِّث نفسها مهمومةً، فقد ضاعت وحدتُها والتبست هويّتُها وصارت مسكونةً بالغيريّة: تحدِّث نفسَها بأنّ رأيها مشترَك ليس بواحد. وصيرورةُ المشترَك موضعًا للهمّ والحيرة هي الّتي تصيّر كلّ المشتركات إلى هذا الضّرب من التّثنّي والانثناء مهما كانت طبيعة هذه المشتركات (اللّغة/ الدّين/ الثّقافة/ العقل/ الدّولة/ التّاريخ…). فالسّرد والإيمان والإبداع الرّمزيّ والتّأمّل النّظريّ والسّلطة السّياسيّة والذّاكرة ما هي إلاّ بحثٌ دؤوب عن الجوار والسّكن: أن ينبسط للذّات ومن معدنها جوارٌ تسكن إليه في غيريّته وتستجير به فيجيرها ويؤمِّنُها.
تدور معاني المشترك في معظمها حول نواة دلاليّة محوريّة هي: الالتباس والتّساوي والجوار. وقد يكون التّساوي الملغي للتباين والفرق من مقتضيات الجوار وشروطه. ففي “الجيرانيّة” تكون الإضافة واحدة على التّساوي: أنا جار لجاري الّذي هو جارٌ لي. أمّا “الأستاذيّة” مثلا فالإضافة فيها فارقيّة إذ لا تتحقّق الأستاذيّة لشخص إلاّ متى تحقّقت “التّلمذيّة” في شخص آخر. و”الأبوّة” تتحدّد بالإضافة إلى “البنوّة”، و”المواطنيّة” تقتضي “الدّولاتيّة”… أمّا “الجيرانيّة” فإضافتها إلى “الجيرانيّة” على التّساوي، تمامًا مثل الصَّداقة أيضًا. وهذا يعني أنّ الجوار والتّساوي معنيان متكاملان ومتداخلان. وهما يشكّلان في تداخلهما هذا النّواة الدّلاليّة لمفهوم المشترك. وفي مقابل ذلك يبدو الالتباسُ غريبًا عن تصوّر المشترك. إذ من شأن المشترك أن يكون واضحًا بديهيًّا مألوفًا. فممّ يتولّد الالتباسُ في تصوّر المشترك؟ يتولّد الالتباس في المشترَك من إفادة المشترك لمعنى الشّراكة. فكيف ذلك؟
4. لحظة رابعة
المشترك هو أوّلا وبالذّات موضوع الشّركة، والشّريك هو المشارك، والاسم “الشّرك” وهو النّصيب أو الحصّة، وجمعُه أشراكٌ كالقسم جمعه أقسام، وشاركتُ فلانًا صرتُ شريكه[11]. والشّراكة هي العلاقة الّتي تجعل من شيء مَّا مشترَكًا بين شركاء وذلك بمقتضى ما لكلّ واحد منهم من نصيب أو قسم معلوم محدّد.
علاقة الشّراكة هي إذن تجميع لمتفرّق معلوم في مشترَك معلوم تكون فوائدُه قابلة للقسمة من جديد على الشّركاء بحسب ما تمّ الاتّفاق عليه في عقد شفويّ أو مكتوب. وتكون قسمة الفوائد عادلةً متى كانت متناسبةً مع نسبة كلّ نصيب من “رأس المال” المشترك. والمعنى الأساسيّ للمشترك بوصفه موضوع شراكة هو حاصل مجموع الأقسام من جهة المساهمات ومن جهة الفوائد. وميزة المشترك من هذا المنظور أن يكون معلومَ القيمة ولشركاء معلومين، وأن يكون محصّلَ تجميع “بعْديّ” لا قائمًا “قبليًّا” في وحدة أصليّة.
المواطنة الليبرالية مثلاً هي مشتركٌ سياسيٌّ بهذا المعنى للمشترك. فهي ليست شراكةً قبْليّة في كيان هُوَويٍّ، وإنَّما هي شراكة بعديَّة في كيان تعاقديٍّ. والمواطن الليبراليّ ليس في حاجة إلى أسس ميتافيزيقيّة لمواطنته أيْ لوجوده ذاتًا قانونيّة داخل المدينة بوصفها كيانًا سياسيًّا: فهو يساهم بنصيب معلوم في العمل والإنتاج والتّبادل والضّرائب، ويكون بمقتضى تلك المساهمة شريكًا لبقيّة المواطنين في الدّولة، ويطالب بناءً على تلك المساهمة بنصيب معلوم من الفوائد العامّة. ولعلّ مصدر الالتباس في هذا الضّرب من المشترَك راجعٌ إلى أمرين أساسيّين هما:
- أنّ الشّراكة في كلّ مشترك لا تحافظ على بساطة العلاقات بين نصيب المساهمة ونصيب الفائدة. ففي الشّراكة تكون العلاقاتُ والنّسبُ قابلةً للتعقيد والالتباس. وهذا ما جعل السّؤال عن العدالة في الفكر السّياسيّ من أشدّ الأسئلة إعضالاً وإحراجًا.فما هو نصيبي من المشترك الوطنيّ والإنسانيّ، من حيث المساهمة كما من حيث الفائدة؟ وهل العلاقة بين المساهمة والفائدة عادلة أم لا؟ هذا السّؤال يحقّ للأفراد والجماعات طرحُه.
- أنّ الشّراكةَ في كلّ مشترَك لا تتوقّف ضرورةً مع توقّفزمن الشّركاء وإنّما هي تمتدّ إلى أزمان أخرى أيْ إلى أزمان الفروع من الأبناء والأحفاد. وهكذا يصير المشترَكُ إلى ميراث فيزداد التّعقيد والالتباس بقدر تكثّر المعنيّين به وتداخلهم. فماذا ورثنا من الميراث المشترك الّذي نسمّيه تراثًا وتاريخًا؟ هل ورثنا منه الفوائد والامتيازات أم ورثنا الدّيون والفقر ماديًّا ومعنويًّا؟ هذا السّؤال يحقّ لنا جميعًا طرحُه دون تردّد أو خجل.
إنّ الميراث مشتركٌ وهو موضوع قسمة ممكنة. وليس التّراث الرّوحيّ والمعنويّ والرّمزيّ إلاّ ميراثًا. ولا يظلّ التّراث حيًّا إلاّ بقدر ما هو مستعدٌّ لعمليّات القسمة أيْ لأن يصير ملكًا معلومًا بالفعل لكلّ الورثة بحسب ما لهم من نصيب أو من حقّ. وتعطيل القسمة بدعوى أنّ التّراث ملكٌ مشترَكٌ هو تعطيل لدورة الحياة فيه. وهذه هي خاصّية التّعامل الفلكلوريّ مع التّراث والتّعامل الماضويّ معه. فالتّعامل الفلكلوريّ مع التّراث هو بمثابة عمليّة “تحجير” للشّركة أو “حبس” لها أو “وقف”. أمّا التّعامل الماضويّ فهو الّذي لا يقبل من التّراث نصيبَنا الرّاهن منه بعد القسمة والتّوزيع، وإنّما يريد امتلاكه كلّه وفي وحدته قبل عمليّات القسمة والتّوزيع الّتي تميّز التّاريخ الحيّ للشّعوب والحضارات.
نلاحظ إذن أنّ الشّرط الأساسيّ للمشترَك باعتباره شراكةً – والّذيتوقّفنا عنده في الفقرات السّابقة – هو أن يكون نصيبُ الشّريك من المشترَك (المساهَمة والفائدة) معلومًا محدّدًا. ويمكن القول إنّ المواطنة الليبراليّة تستند من منظور سياسيّ حقوقيّ إلى هذا المعنى للمشترَك المدنيّ.فالخيرات المدنيّة هي المشترك السّياسيّ، ولكلّ مواطن نصيبٌ فيه معلومٌ من جهة المساهمة كما من جهة الفائدة. ولا يُنظَر للحرّية والكرامة إلاّ من حيث هما جزءٌ لا يتجزّأ من تلك الخيرات المدنيّة. وتتعلّق كلّ القضايا السياسيّة حينها بمحور أساسيّ هو محور العدالة الاجتماعيّة والسّياسيّة.
5. لحظة خامسة
غير أنّ لفظ المشترَك قد يفيد معنى آخر مغايرًا لمعنى النّصيب المعلوم مع الاحتفاظ بالنّواة الدّلاليّة لكلّ مشترَك وهي “الملكيّة الجماعيّة”. “قال ابن الأثير في تفسيره لقول الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم: النّاس شركاء في ثلاث الكلأ والماء والنّار. قال: أراد بالماء ماء السّماء والعيون والأنهار الّذي لا مالك له، وأراد بالكلأ المباح الّذي لا يُخَصُّ به أحدٌ، وأراد بالنّار الشّجر الّذي يحتطبه النّاس من المباح فيوقدونه”[12]. المشترَك في هذا السّياق الدّلاليّ هو ما لا مالك له، ما لا يُخصُّ به أحدٌ، المباح. وهذا الّذي لا مالك له هو بالقوّة ملكٌ للجميع. وهذا الّذي لا يُخَصُّ به أحدٌ هو الّذي يكون مباحًا للجميع، ولكلّ واحد فيه نصيبٌ.ونصيبُ كلّ شريك من هذا المشترَك المباح نصيبٌ غير محدّد وغير معلوم، بل يمكن أن يكون جميعُ الشّيء المشترَك مباحًا لأيّ واحد يستعمله.
فالمشترك الّذي يكون كالماء والكلأ والنّار (الشّروط الدّنيا للحياة) هو بالقوّة ملكٌ للجميع وهو مباح لأيّ واحد منهم دون استثناء. أمّا التّعيّن الفعليّ لنصيب كلّ واحد فيكون بحسب الحاجة أو بحسب الجهد أو بحسب اتّفاق يرتّب عمليّة الاستغلال وينظّمها. وإنّالمُهْمِلَ للمشترَك الثّقافيّ والتّاريخيّ المباح لا يحقّ له أن يمنع غيرَه من استعماله بدعوى أنّه مشترَكٌ. فأصل الشّيء أن يكون المشترَك للاستعمال لا للإهمال، وذلك لأنّه شرطُ الحياة المعنويّة الرّوحيّة للمجتمع وللفرد تمامًا مثلما أنّ الماء والكلأ والنّار شرط الحياة البيولوجيّة.
هذا المعنى للمشترَك الّذي يدور حول محور الملكيّة هو نقيض دلالته الأوّلى الّتي بسطناها في اللّحظة السابقة. فهذا المعنى يكون لـ “ما لا مالك له وهو بالقوّة ملكٌ للجميع”، بينماتكون الدّلالة الأولىلـ “شركاء معلومين وبحكم نصيب أو قسم بيّن محدّد”. وهكذا يفيد المشترَكُمعنيين متقابلين هما:
- المشترك المتولّد عن تجميع ملكيّات سابقة معلومة تتّخذ شكل النّصيب أو السّهم: “ملكيّة بالفعل لمشترَك متولّد”.
- المشترَك الّذي لا يكون ملكًا لأحد ويكون بمقتضى ذلك ملكًا للجميع مباحًا لهم: “ملكيّة بالقوّة لمشترَك معطى”.(طبيعيًّا كان كالماء مثلا أو ثقافيًّاكاللّغة مثلاً).
يمكن القول بناءً على هذا التّمييز الإجرائيّ بين هذين الضّربين من ملكيّة المشترَك إنّ الخلطَ بين “الملكيّة بالفعل” و “الملكيّة بالقوّة” هو السبب المباشر لما يكتنف المشترَك من التباس رغم ما يُفترض فيه من بداهة ووضوح بحكم شيوعه. فالتباس المشترَك ينشأ من سوء تقدير الموضع: فالتّعامل مع موضع”الملكيّة بالقوّة” (الهويّة الوطنيّة مثلاً) بمنطق التّعامل مع موضع “الملكيّة بالفعل” (الثّروة الوطنيّة مثلاً) أو العكس، هو الّذي يؤدّي باستمرار إلى التباس معنى المشترك وإلى ضياع الحدود الضّابطة لمجاله نظريًّا وعمليًّا. وفي ذلك يكمن مكرُ المشترك. ولا يمكن معالجة هذا المكر دون أساس معرفيّ يضع الحدود النّظريّة الفاصلة بين ما هو مشترَك وبين ما هو خاصّ.كما لا يمكن إدارة المشترَك المدنيّ دون أساس سياسيّ يضع الحدود العمليّة الفاصلة بين حقّ الجماعة (المجتمع أو الشّعب) وحقّ الفرد.
وحين يصير المشترَك محلّ سؤال ومراجعة يصير موضوع هَمٍّ تنفطر له الذّات فتتلاشى وحدتها. وإذا كان التّوافق السّياسيّ حول مشترَك وطنيّ أدنى ضروريًّا لتجاوز أزمة مَّا، فإنّه من منظور الكيان السّياسيّ للدّولة والكيان المعرفيّ للذّات ليس إلاّ قفزًا على المشكل وتجاوزًا وهميًّا للأزمة، وذلك لأنّ التّوافق السّياسيّ يعطّل المواجهة الحقيقيّة للمشكل، أي المواجهة الفكريّة والثّقافيّة لمكر المشترَك. والجدير بنا أن يكون التّعيين المَوْضِعيِّوالمضمونيّ للمشترَك مطلوبًا لا لأجل إقراره والتّوافق عليه سياسيًّا وإنّما لأجل تثويره من داخل البنى الّتي تفرزه والمقولات الّتي تعبّر عنه. وهذا ما سنعمل على توفير الأدوات المنطقيّة والسّياسيّة لمباشرته ضدّ قابليّة مشتركنا العربيّ للانحطاط والتّبعيّة والاستبداد. وسيكون علمنا القادم في شكل كتابٍ يعالج المشترك معالجة منطقيَّة ومعالجة سياسيَّة في آنٍ واحدٍ.
[1]يندرج هذا المقال في إطار محاولةٍ فلسفيَّة أعمَّ وأشملَ. وتشتمل هذه المحاولة في المشترك على ثلاثة تمارين: تمرين فلسفيّ لغويّ وتمرين فلسفيّ منطقيّ وتمرين فلسفيّ سياسيّ. أمّا التّمرين اللّغويّ فهو موضوع هذا المقال وفيه اشتغال على مختلف الدّلالات الّتي يفترضها لفظ المشترك في اللّسان العربيّ. وأمّا التّمرين المنطقيّ فسيعالج قضيّة الأسماء المشتركة ومقدّمات القياس الجدليّ كما استقرّت في مباحث المدوّنة المنطقيّة الأرسطيّة. وأمّا التّمرين السّياسيّ فسنعمل فيه على استقصاء مسألة “الآراء” في فلسفة المعلّم الثاني أبي نصر الفارابي.
[2] لا نستعمل مفهوم “المعرفة” في معناه الوضعانيّ الدّال على جملة العلوم الموضوعيّة ولا في معناه الوضعيّ المنطقيّ الدّال على نسق القضايا ذات المعنى. وإنّما نستعمله من حيث هو دالٌّ على ما يعرَف في الفلسفة العربيّة القديمة بـ “المشهور” أو “العلوم المتعارفة” أي ما يسود بين النّاس من آراء وتصوّرات وتمثّلات. ولا نستعمل مفهوم السّياسة من حيث هو دالٌّ على ممارسة أهل السّياسة أو على وظائف الدّولة وإنّما نستعمله من حيث هو دالٌّ على البعد المدنيّ لوجود الإنسان.
[3] انظر، ابن منظور، لسان العرب. دار إحياء التّراث العربيّ. ط2، لبنان 1997. المجلّد السّابع، ص، 99-101.
[4]تمثّلات المطلق والأوّل واللاّنهائيّ وانفعالات المقدّس والغيبيّ. فهذه التمثّلات والانفعالات لا تقود ضرورة إلى فكرة التّوحيد.
[5] انظر، ن.م.
[6] انظر، ن.م. جذر (ف- ر- ق). المجلّد العاشر، ص، 243-248. ومن المعاني الأساسيّة الواردة في هذا السّياق نذكر: فارق الشّيء باينَه. والفرق تفريق ما بين الشيئين حتّى يتفرّقان. والفرق: الفصل بين الشّيئين. فرق يفرق فرقًا: فصل. وفرق له عن الشّيء بيّنه له. والفرقان هو القرآن. وكلّ ما فرّق به بين الحقّ والباطل فهو فرقان. والفرقان: الحجّة. ويُقَال: فرق لي هذا الأمر يفرق فروقًا إذا تبيّن ووضح. وفرق لي رأيٌ أي بدا وظهر. ومفرق الطّريق متشعّبه الّذي يتشعّب منه طريقٌ آخر.
[7] المعنى المركزيّ للجذر خ- ل- ج هو التنازع والجذب. “تخالجتْه الهمومُ إذا كان له همٌّ من ناحية وهمٌّ من ناحية، كأنّه يجذبه إليه”. “وأصل الاختلاج الحركة والاضطراب”. انظر، ن.م. المجلّد الرّابع، ص، 169. ورجل مختلجٌ هو الّذي اختلف في نسبه وتنوزع فيه. انظر، ن.م. ص، 171.
[8] مثلما نرى ذلك في برامج تلفزيون الواقع وصناعة النّجوم وأحوال النّاس. ومثلما نرى ذلك أيضًا على شبكات التّواصل الاجتماعيّ.
[9] ن.م. مادّة “شرك”.
[10] انظر، ن.م. مادّة “جور” ومادّة “شرك”.
[11] انظر، ن.م. مادّة “شرك”.
[12] ن.م. مادّة “شرك”.