ترجمةفلسفة

ٍريمون بودون: من أجل فرد مستقل

لقاء  مع ” ٍريمون بودون “

ترجمة محمد امباركي **

باحث في سلك الدكتوراه، تخصص علم الاجتماع، جامعة ابن طفيل القنيطرة. المغرب.

في سنة 1993، التقت مجلة العلوم الإنسانية “ريمون بودون”(***).  هذا الأخير الذي يظل من بين أشهر علماء الاجتماع الفرنسيين، كان من أنشط المدافعين عن الحرية الفردية ضد الحتمية الاجتماعية التي كانت تهيمن على السوسيولوجيا آنذاك.

وهذه مضامين الحوار.

عبر أي مسار فكري وصلتم الى السوسويولوجيا؟

خلال سنوات 1960، كنت أرغب في التوجه نحو العلوم الإنسانية لكن دون أن أدري أي تخصص أختار. خلال هذا العصر، كانتالفلسفة تجد نفسها بدون مصداقية. كان الاقتصاد يغريني، لكن كان يبدو لي أن هذا التخصص قائم الذات. كان لدي شعور بأنه ينبغي أن أبقى في مسارات هي قيد البناء، وأنه من غير الممكن إضافة غير بعض الأجزاء الى ماهو موجود أصلا. في الواقع، كان الأمر من باب الوهم طالما أن علم الاقتصاد أصبح يعاني من أزمة خلال الخمسة عشرة سنة اللاحقة.

كان لدي الانطباع أن علم الاجتماع هو أكثر أهمية لأنه بدا لي التخصص الأقل تبلورا، وأيضا يكتنفه الغموض نتيجة المقاربات المتعددة. إذن فالمصلحة  الفكريةهي التي قادتني الى السوسيولوجيا أكثر منها المصلحة الاجتماعية.

من بين الأعلام البارزةلهذا العصر، من هم الذين تعتبرهم أنهم كانوا الأكثر مساهمة في توجيهك الى السوسيولوجيا؟

في فرنسا، كنت اشعر بالانجذاب خاصة من جهةجون ستويتز الذي كان يبدو مهمشا الى حد ما وسط علماء الاجتماع وذلك بسب إرادته في القيام بعمل هو حقا عمل علمي. ولكن الذي جسد في نظري، هذه الإرادة في أن يصنع من السوسويولوجيا علما، هو بول لازارسفيلد. أتاحت لي المنحة التي حصلت عليها، إمكانية أن أقضي عاما واحدا بجامعة كولومبيا سنة 1962 الى جوار بول لازارسفيلدالذي كان أيضا بمثابة معلمي الحقيقي. إلا أنه كنت نوعا ما ساذجا في هذا الوقت، لأنه في الواقع،  لم تكن للرياضيات أهمية داخل السوسيولوجيا بالشكل الذي كنا نتخيل أنها سوف تكتسي تلك الأهمية مستقبلا.

من خلال الاحتكاك بمجموع منشوراتكم الضخمة، يتجلى لديكم مشروع فكري عظيم هو مشروع إحراج السوسيولوجيا برمتها؟

من الممكن تصنيف مؤلفاتي الى فئتين واسعتين. بعضها هو حصيلة منفعة شخصية، بعضها الآخر أعتبره من قبيل الواجب البيداغوجي. في الواقع، أعتقد أنه يتعايشداخل اصطلاح “السوسيولوجيا” تنوع هائل من المقاربات. كنت أعتبر دائما أنه من واجبي البيداغوجي هو أن أستخرج من هذا التنوع ما يظهر لي أكثر أهمية وخصوبة. إن الدلائل التي أكتب هدفها إذن، هو مساعدة الطلبة على القيام بالتمايزات الفكرية، مساعدتهم على أن يجدوا أنفسهم داخل هذا المجموع المتعدد المسمى ” سوسيولوجيا”. إنه انشغال ديداكتيكي وليس هيمني. فهذه التمايزات موجودة في الواقع وأشعر انه من مسؤوليتي أن أجعلها مرئية وفي متناول الإدراك.

إذن، ماهي هذه الأوجه المتعددة للسوسيولوجيا، وكيف يمكن في نظركم، تمييز الغث من السمين؟

منذ العصر الكلاسيكي للسوسيولوجيا، كانت هناك أعمال ذات قيمة معرفية حقيقية لأنها أتاحت لنا فهم حقيقة هذا العالم. وهي حالة ألكسي دو طوكوفيلوماكس فيبر بشكل خاص، واللذان قدما أجوبة لمشكلات كانت تبدو غامضة في السابق. إنهما سلطا الضوء خصوصا على التمثلات التي يحملها الناس عن العالم. ليس من الصدفة، أن يكون كبار علماء الاجتماع، هم أولئك الذين بلوروا نظريات تفسيرية.

لقد أنجز  إميل دوركايم عملا أكثر تركيبا. تحوي كتاباته مشروعا هو بالضرورة مشروع معرفي تصاحبه تحاليل تفسيرية ممتازة، لكن أيضا فرضيات ثقيلة الى حدود قصوى وقابلة للاعتراض من قبيل شخصنة المجتمع.

هناك أيضا من المؤلفين أمثال فريدريك لوبلاي الذي يعتبر عمله وصفيا أكثر منه تفسيريا. هؤلاء المؤلفين يستخلصون معلومات من مجموعة بشرية معينة ويعممونها على المجتمع بأسره. إن هذا النوع من السوسيولوجيا هو ضروري بكل تأكيد.

وفي النهاية، هناك من السوسيولوجيين، من سوف أعتبرهم نبوئيينProphétiques. وإذا ما عدنا من جديد الى الأعمال الكلاسيكية، فمن الجلي أننا سنجد جانبا طوباويا أو نبوئيا لدى كارل ماركس أو أوجست كونت، لقد أرادا البحث والكشف عن قوى المستقبل. ظلت السوسيولوجيا تحمل هذا البعد على الدوام. يمكن القول بشكل من الأشكال، أن أصحاب النبوءة واليوتوبيا مفيدين في الحياة الاجتماعية، إلا أنه بالنسبة لي، أشعر أني بعيد جدا عن هذه المقاربات.

في نظركم، أين تتجلى نواة للسوسيولوجيا العلمية؟

إن السوسيولوجيا العلمية هي ما نسميه بالفردانية المنهجية التي يعود أصلها الى ماكسفيبر، وأيضا وبشكل صريح الى جوزيف شمبتر. للأسف استعاد هذا التعبير كل من فريديريك هايك و كارل بوبر اللذان وضعا له تعريفا مشابها لمواقف الفلسفة السياسية ذات النمط الليبرالي، الأمر الذي نتج عنه الكثير من الغموض. الخطأ الآخر هو الاعتقاد أن الفردانية المنهجية تدل على تفسير السلوك البشري بطريقة نفعية. إن سوء الفهم المزدوج هذا يفسر الرفض الذي تتعرض له أحيانا الفردانية المنهجية. من أجل تفادي هذا الالتباس، اقترحت مؤخرا أن يتم الحديث عن ” نزعة الفعل ” وليس عن الفردانية المنهجية.

مع ذلك، الكثير من الأشخاص يعتبرون أنكم تدافعون عن النزعة النفعية؟

صحيح، هناك بحث مستمر في اتجاه تصنيفي كصاحب نزعة نفعية. لكن لا أدري لماذا؟. لقد عبرت بوضوح عن موقفي بخصوص هذا الموضوع في الفصل الأخير من كتاب ” الأفعال المنحرفة والنظام الاجتماعي”. كنت دائما أعتقد أن النموذج النفعي هو في غاية الأهمية، لكن ليست له قيمة كونية. من الممكن أن نعتبر هذه المقاربة الاقتصادية ذات نموذج عقلاني ضيق. هذا بالإضافة الى أن  كاي بيكر  الحائز سنة 1992 على جائزة نوبل في الاقتصاد، يعتبر من ضمن هؤلاء الذين حاولوا نقل هذا النموذج الاقتصادي الى موضوعات غير اقتصادية. في الطرف الأقصى الآخر، تجدون ميلا سوسيولوجيا موجها نحو اللاعقلانية. ليس هناك بطبيعة الحال وبالنسبة لي، أي مجال لإنكار وجود جزء من العواطفواللاعقلاني في اشتغال الكائن البشري. لكن للسوسيولوجيا العفوية والمهنية هذا الميل عموما نحو التركيز على هذا المظهر من الأشياء. إذن هناك تبلور يجري حول هذين النموذجين اللاعقلاني والعقلاني الضيق.

إن فكرة العقلانية الذاتية، أو العقلانية الواسعة، تشكل نموذجا ثالثا يبدو لي أكثر أهمية.هذه المقاربة تتيح إمكانية الذهاب الى عمق المشكلات من خلال السعي الى فهم الأسباب التي تدفع الناس للتصرف بهذه الطريقة أو تلك. لما يحصل لنا الوعي حقيقة بأهمية هذا النموذج، فمجموعة من الحواجز ينبغي أن تنهار. حينما تصبح العلوم الإنسانية موحدة، سوف تختفي الحدود المحكمة اليوم. إن عمق العديد من النظريات السوسيولوجية هو في الواقع ” سيكولوجي”، وهذا لن يروق  دوركايم  الدوغمائي.

هل تحددون لنا ما الذي تشمله ” الفردانية المنهجية ” أو “العقلانية الذاتية” ؟

لديفيبروطوكوفيل مسلمتين أساسيتين تشكلان دعامة الفردانية المنهجية. أولا لا يمكن تفسير الظواهر الاجتماعية إذا لم ننظر إليها باعتبارها نتاجا لأفعال ومعتقدات الأفراد. ثانيا، هذه الأفعال والمعتقدات لها معنى، لها سبب للوجود. قد يتعلق الأمر بالمصلحة، وهنا سوف نكون بصدد النماذج النفعية، ولكن ليس بالضرورة. مثلا، مناضل “متدين” يتصرف من أجل قيم. كما أنه ليس من باب المصلحة أن أعتقد بأن اثنان زائد اثنان تساوي أربعة.

هناك مرار من يعتبر أن ” ريمون بودون ” هو مؤيد جذري لاستقلالية الفاعل، هذا الأخير باعتباره غير مرتبط بأية حتمية اجتماعية.

إن هذا الأمر يقلقني على الدوام، لأني لم أكتب أي شيء من هذا القبيل. في كتاب ” لاتكافؤ الفرص”،  قمت بتحليل الحظوظ المدرسية باعتبارها قرارات للتوجيه العقلاني، تأخذ في الحسبان الأصل الاجتماعي كنسق مرجعي. وقد قلت بشكل خاص بأن “الاختيار المدرسي يرتبط بشكل ضعيف بالأصل الاجتماعي لما يكون النجاح المدرسي جيدا، ويكون الارتباط بينهما قويا لما يكون النجاح ضعيفا.” لقد فسرت الاختلافات على مستوى السلوك بين تلاميذ من أصل اجتماعي مختلف ويحظونبنفس مستوى النجاح، من خلال حكاية صغيرة. التلميذ الذي ينحدر من أصل أرقى ويرى نفسه بأنه أدنى من أناس ينتمون الى محيطه نفسه، يقول ” لدي صعوبات في النجاح، مع ذلك يجب أن أحاول”. التلميذ الذي له نفس النتائج الدراسية، وسبق له بلوغ مستوى أسرته، يقول بأنه لا ينبغي تعقيد الحياة أكثر. إن هذا التحليل الفينومينولوجي البسيط جدا، كان يسعى الى أن يجعل من سلوكات الناس قابلة للفهم.

ألم يحن الوقت بعد لمصالحة كبرى بين المقاربة الحتموية وهاته الرؤية التي تقول بعقلانية الفاعل؟

أعتقد حقيقة، أن الاستقلالية تشتغل داخل نسق من الإكراهات البديهية للغاية. لا أرى أبدا تعارضات بين هاتين المقاربتين. إلا أنه منذ عشر أو خمسة عشر سنة، كانت النزعة الحتمية باعتبارها جرافة حقيقية ساحقة للناس، هي الموضوع الرئيسي للدراسات السوسيولوجية. اليوم، على العكس، هناك قبول أوسع للغاية لمفهوم استقلالية الفاعل.


 

(*)Pour un individu autonome. Rencontre avec Raymond Boudon. Revue Sciences humaines. Hors-série N°25. Juillet-Aout 2020.Propos recueillis par Jean-François Dortier et Jacques Lecomte.

** البريد الالكتروني :gmail.com@medmbarki66


(***)من هو ريمون بودون؟

أستاذ السوسيولوجيا بجامعة السوربون، ازداد سنة 1934، وهو الممثل الأكثر شهرة للفردانية المنهجية (أو نزعة الفعل)،التي تسلم بأنه، بغض النظر عن الإكراهات الضرورية، يظل الإنسان كائنا مستقلا. نشر ” بودون ” أعمال عدة من جملتها : ” المناهج في علم الاجتماع (1969)، لاتكافؤ الفرص. الحراك الاجتماعي في المجتمعات الصناعية (1973، إعادة الطبع سنة 2011)، الأفعال المنحرفة والنظام الاجتماعي (1977، إعادة الطبع سنة 2009)، القاموس النقدي للسوسيولوجيا. كتاب مشترك (الطبعة الرابعة 2011). توفي سنة 2013.

Related posts
ترجمةفلسفة

حوار مع أندريه كونت ـ سبونفيل

تربية وتعليمفلسفة

أزمة الجامعة.. الحرم والحرامي

الشاشة الفلسفيةديداكتيك تدريس الفلسفةفلسفة

في الحاجة إلى الفن : خصوصية الإبداع الفني من منظور الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز

تربية وتعليمفلسفة

من نحن سياسياً؟ من يقرّر؟ وماذا يبقى من «الإنسان» حين ينطفئ «العدو»؟

Sign up for our Newsletter and
stay informed