

محمد بن عليلو[1]
“وإن كان غيرنا قد فحص عن ذلك فبين أنه يجب علينا أن نستعين على ما نحن بسبيله بما قاله من تقدمنا في ذلك، وسواء كان ذلك الغير مشاركا لنا في الملة أو غير مشارك في الملة“
ابن رشد
إن الغرض من هذا القول أن نقدم قراءة لهذا الشعار انطلاقا من فهم يتضمن بعدين: إذ يشير الأول إلى أن الشعار يتضمن رهانا يتمثلفي محاولة إعطاء أو إعادة الدرس الفلسفي إلى الواجهة، وبيان ما يمكن أن يفيده هذا الدرس في بناء إنسان يؤمن بالإنسانية، وبهذا تكون الفائدة المرجوّة منه فائدة إصلاحية خاصة على المستوى الجمعي. أما المتضمن الثاني فهو تأويل ينظر فيما قد يُستفاد من هذا الدرس على المستوى الفردي حيث ينصهر النظر في العمل ويتآلف الفكر والسلوك.
أولا: شعار الأولمبياد: من مستوى الشعار إلى غايات تنويرية
فيم تفيد الفلسفة؟ كثيرا ما طرح ويطرح هذا السؤال، وكثيرا ما نوقش عبر التاريخ، فهذا السؤال لا يطرح إلا من قبل من فهم المنفعة في الأمور المشخصة كالفائدة التي تجنى من العلوم المادية وغيرها. والحق أنه حيثما ولّى الإنسان وجهه وجد أن ما يُقام به العيش على وجه هذه البسيطة تحركه فلسفة، فيكفي أن نقول بعبارة مستعارة “انظـــر تجد”.
لكن ما علاقة هذا القول بمضمون الشعار؟ ما الذي يبديه الشعار؟ وما الذي يخفيه؟
ظاهريا اتخذت هذه الجملة “من أجل بناء مواطن عقلاني متشبع بثقافة الحوار وتقبل الاختلاف” شعارا لمسابقة في مادة الفلسفة بالطور الثانوي في المدرسة المغربية، كمثل ما يقام في مادة الرياضيات مثلا، لكن من وراء هذا المنطوق إيمان بالتغيير وإيمان بالدور الوجودي للمدرسة.
يتضمن الشعار ترسانة من المفاهيم الفلسفية من قبيل: “المواطن“، “المواطنة“، “العقلانية“، “ثقافة الحوار“، “تقبل الآخر“،والتي يمكن القول أنها مفاهيم وليدة الحداثة من حيث تاريخ تطور الأفكار. أما النظر في توظيفها يجعلنا نفهم أنها انتقيت بوعي وعناية ليُعبّر بها عن قضية أو مفهوم عام وهو الديمقراطية، أو بصيغة أدق، كيف نصل إلى وضع مجتمع ديمقراطي من خلال التربية والمدرسة؟ ومنه يمكن اختصار الشعار في الصيغة التالية: “من أجل الديمقراطية”.

هذا، وتوحي المفاهيم الموظفة في الشعار بوجود صوت يريد التعبير عن التأخر التاريخي على مستوى السلوك، إذ ما زال التعصّب طاغيا والحوار مقصيا والاختلاف منبوذا، والحال كما يقول جان ماري بونوا“إن مسألة الاختلاف تروج في عصرنا، بل إنها تعمه وتسوده. اختلاف الجنسين، واختلاف الثقافة والطبيعة، والاختلاف بين الثقافات … إن كل هذه الاختلافات أصبحت اليوم قائمة تفرض نفسها”[2].
كل المفاهيم السالفة الذكر تعبّر إذن عن النقط التالية:
_ دور الدرس الفلسفي في التغيير على مستوى الفردي والمجتمعي؛
_ السعي نحو بناء الإنسان المغربي بناءً حداثيا؛ أي الإنسان المؤمن بالديمقراطية؛
_ الإيمان بقدرة المدرسة المغربية (وهنا تدخل جميع المواد المدرسة) على التغيير الفكري الفردي والمجتمعي.
هكذا تتبين هشاشة تلك الفكرة الشائعة في المجتمعات المتأخرة تاريخيا عن الفلسفة أو إن كان لها من أهمية فلا تظهر إلا على المستوى الفردي؛ أي على نفسية المتفلسف، والحق أن القيم الفلسفية ترمي دائما إلى المواطنة والاعتراف بالآخر. يقول الأستاذ عز الدين الخطابي: “إن الاعتراف بالآخر وباختلافه وتبني التسامح كمبدإ للإقرار بقيمة وأهمية تصوراته ومعتقداته، يجسد ما يسمى بالثقافة الديمقراطية التي تقوم على فكرة المواطنة …”[3]. من هذا القول نفهم سر ربط الفيلسوف جون ديوي الديمقراطية بالتربية والمدرسة، إذ لا يعتبر أي مجتمع ديمقراطيا بمعنى الكلمة إلا إذا كونت المدرسة ديمقراطيين حقيقيين”[4].
ثانيا:شعار الأولمبياد والدعوة إلى اتخاذ الفلسفة طريقة حياة
يتضمن الشعار رؤية مؤمنة بدور الفلسفة في بناء “المواطن” (الإنسان)، وهذا يتناسب والدور الوجودي للفلسفة خاصة في الوقت المعاصر، ذلك أن “موضوع الفلسفة في الوقت الحاضر ليس هو الطبيعة أو العقل، وإنما هو الإنسان”[5]. وهذا لا يعني أنها مجردة دارسة له، بل يعني أيضا أنها فكر مرن يمكّن من التوجيه والتصرف في المعيش الإنساني، وهذا صلب الأطروحتين الآتيتين:
أطروحة بيير آدو، نموذج من الفلسفة الغربية المعاصرة:
يُعرف بيير آدو (1922_ 2010) بكونه فيلسوفا ومؤرخا للفلسفة، حيث قدّم في تأريخه قراءة تنظر في علاقة كل فلسفة بصاحبها، أو لنقل إنها تنظر في مدى تناسق حياة الفيلسوف وجهازه النظري. هذا المنظور نحسبه موجّها بالفكرة التالية: “قلما يلتفت مؤرخو الفلسفة إلى حقيقة أن الفلسفةالقديمة كانت أولا وقبل كل شيء طريقة حياة،فهم يعتبرون الفلسفة خطابا فلسفيا فوق كل شيء”[6].
وعليه، ستبتغي قراءتنا الإجابة عن الأسئلة التأريخية التي تـبين أن بيير آدو يسعى إلى الإجابة عنها، وهي كالتالي: كيف كان ينظر إلى الفلسفة في العهد القديم (الهيلستيني والروماني)؟ وكيف صار؟ وكيف ينبغي أن يكون؟
جوابا عن السؤال الأول، يعود بيير آدو إلى مرحلة قديمة ليبين أنه تم الحياد عن جوهر الفلسفة حين ركز الكثير على الجانب النظري فقط، والحال أن الرواقية مثلا بيّنت وجها أساسيا للفلسفة يركز على أن هذه الأخيرة هي أساسا طريقة عيش.
البيّن إذن أن آدو يعيد تعريف الفلسفة بتعريف لا ينفي ما عُهدت عليه، بل يعيد استخراج ما ظل هامشيا من قبل المؤرخين لها، ويمكن أن نلمس ذلك في القول التالي: “الفلسفة كانت طريقة وجود في العالم، تلك الطريقة التي تتعين ممارستها في كل لحظة، وكان هدفها أن تحول حياة الفرد بأكملها”[7].
تتحدد وظيفة الفلسفة انطلاقا من هذا القول في كونها تسير محايثة للإنسان توجه سلوكه اليومي وترتقي به إلى درجات من الحكمة، حتى أن الفلسفة بهذا المعنى لا تظهر في تلك التخصصات (المنطق، الميتافيزيقا، والأخلاق…)، بل تكون كلا متسقا يصير المنطق والأخلاق نمطا معاشا، يقول آدو: “الفلسفة _بهذا المعنى_ ليست نظرية مقسمة إلى أجزاء، بل هي فعل موحد يتألف من أن نعيش المنطق، ونعيش الفيزيقا، ونعيش الأخلاق. هنالك لا نعود ندرس المنطق (أي نظرية الحديث الجيد والتفكير الجيد)، بل ببساطة، نفكر ونتحدث جيدا؛ ولا نعود ننظر حول الفعل الأخلاقي بل نفعل بالطريقة الصائبة والعادلة”[8].
لكن سيغرب هذا المعنى الذي حملت عليه الفلسفة مع الأبيقورية والرواقية إلى معنى آخر حين قدمت الأديان (يخص آدو المسيحية بالذكر) تصورها للحياة حتى صار معنى الفلسفة محددا في ما هو نظري. هذا ولا ينبغي أن ننسى دور التكوين والتخصص الذي ظهر إبان ظهور الجامعة وازدهارها، حتى صار الأمر مهنة تضبط بمنطق تقني، قال: “هكذا لم يعد التعليم متجها إلى أناس يُرجى تعليمهم لكي يصبحوا كائنات بشرية ناضجة، بل متجها إلى متخصصين لكي يدربوا متخصصين آخرين”[9].
ما الذي يرجوه بيير آدو من خلال هذه العودة إلى الحقبة القديمة؟
يمكن أن نسجل خلاصة مفادها أن آدو اتخذ مراجعة نقدية لمؤرخي الفلسفة الذين عودونا على الجانب المجرد في الفلسفة وتهميشهم لما هو مرن فيها ومحايث،ودليل آدو أن المحطة الأولى من تاريخ الفلسفة تبين صحة دعواه؛ أي أن الفلسفة كانت هاديا للإنسان في حياته العملية، وليست فقط لذة عقلية. “هذا هو درس الفلسفة القديمة: دعوة لكل كائن إنساني بأن يحول نفسه. الفلسفة تحول، تحول لطريقة المرء في الوجود والحياة، ومسعى إلى الحكمة”[10].
أطروحة طه عبد الرحمن، نموذج من الفلسفة العربية المعاصرة:
تتشكل رؤية طه عبد الرحمن للفلسفة باعتبارها “سيرة حياة” انطلاقا من مجموعة من المفاهيم التي نحتها في مشاريعه الفكرية السابقة ولعل أبرزها مفهوم الائتمان. وتشكل دعوته إلى ضرورة الإبداع في حقل الفلسفة محور عمله المعنون بسؤال السيرة الفلسفية[11]، حيث يعيد قراءة مفهوم الفلسفة انطلاقا من نقده للصبغة النظرية التي وسمت بها الفلسفة عبر التاريخ، وبذلك “نجد أنفسنا ملزمين بتجاوز التصور التقليدي للفلسفة؛ إذ لم يكن هذا التصور المتداول إلى حد الآن يعير كبير اهتمام لسيرة الفيلسوف”[12].
من هذا المنطلق إذن، يعيد طه عبد الرحمن صياغة تعريف الفلسفة في صياغة تركز بالغ التركيز على التجربة الحيّة للفيلسوف، إذ تصير ذات الفيلسوف توجه ما تقرره من حقائق وما تتبعه من وسائل. وبهذا المعنى تصير الفلسفة “سيرة مشخصة، وليست صيغا مجرّدة؛ ولما كانت الفلسفة طريقة حياة، لا طريقة كلام صارت تقدّر بالأعمال والتصرفات التي يقوم بها الفيلسوف”[13].
وعليه، فإن المستفاد من الأطروحتين معا إعادة اكتشافهما لروح الفلسفة الكامنة في تسيّر الإنسان لا في تنظيره فقط. ومن هذا المنطلق نزكي قراءتنا للشعار على أنه يتضمن رهانا يُراد تحقيقه من خلال البناء الذاتي للإنسان، أو لنقل إجمالا أن المفهوم من مفاهيم الشعار الدعوة إلى التفكير بالعقل، والتّسيّر بقيم عقلانية.
خلاصة:
إن الاهتمام بالعلوم الإنسانية وعلى رأسها الفلسفة من خلال مسابقات وندوات … يكاد يكون من أوجب الواجبات في وقتنا وواقعنا المعاصر، في وقت تتناطح فيه الأيديولوجيات ( في الشارع، في الإعلام …) وتتافس لا على سبيل خدمة التقدم والازدهار، بل على مكاسب السلطان.
[1] طالب باحث بسلك الماستر/ كلية الآداب والعلوم الإنسانية، تطوان _ المغرب.
[2]جان ماري بونا، الهُوية، ترجمة عبد السلام بنعبد العالي(مجلة الفكر العربي المعاصر، بيروت، العدد 39، 1986م)،78.
[3]عز الدين الخطابي، أسئلة الحداثة ورهاناتها في المجتمع والسياسة والتربية،(منشورات الاختلاف …، ط1، 2009م)، 76.
[4]أليفيي ربول، فلسفة التربية، ترجمة عبد الكبير معروفي( دار توبقال للنشر، ط1، 1994م)،55.
[5] اميل برييه، اتجاهات الفلسفة المعاصرة، ترجمة محمود قاسم(دار الكشاف للنشر والطباعة والتوزيع)، 53.
[6]بيير آدو، الفلسفة طريقة حياة – التدريبات الروحية من سقراط إلى فوكو-، ترجمة عادل مصطفى (مؤسسة هنداوي، 2023م)، 249.
[7]نفسه، 244.
[8]نفسه، 246.
[9]نفسه، 250.
[10]نفسه، 255.
[11]طه عبد الرحمن، سؤال السيرة الفلسفية، بحث في حقيقة التفلسف الائتمانية (مركز نهوض للدراسات والبحوث، بيروت – لبنان، ط1، 2023م).
[12]نفسه، 31.
[13]نفسه، 66.