الفلسفة بصيغة المؤنثفلسفة

نور حريري: العودة الى الاصل

منشور طويل، أتقاسم فيه معكم قراءاتي حول “العودة إلى الأصل” والعلاقة بين الفلسفتين الوجوديتين الغربية (اليونانية الأوروبية) والإسلامية، وتشابهات بين فلسفة ابن سينا والتحليل النفسي اللاكاني، لمَن يُحب ولديه الوقت:

لماذا نعود إلى الأصل باستمرار؟ وهل نستطيع العودة إلى الأصل؟
الأصل الإسلامي؟ الأصل المسيحي؟ الأصل الوجودي في الفلسفة؟ الأصل الأسطوري؟ الأصل البيولوجي أو التاريخي الفينيقي أو الفرعوني أو ما شابهه؟

في التحليل النفسي تُسمّى هذه الحالة بـ “همّ الأصل”، “الشوق إلى الأصل” وفيها شيء من المَرَض وسببها انفصال الوحدة النفسية بين الواقع والقانون (بين الحقيقة والشريعة)، حين يكون الواقع مؤلمًا ومرعبًا، تصبح العودة شكلًا من أشكال التعويض لبناء سور واحد متواصل يصل الماضي بالحاضر، والحقيقة بالشريعة.

لكن، بعيدًا عن عوالم النفس وسياسات الذاكرة والأيديولوجيا، حيّر سؤال “الأصل” الفلاسفة منذ القدم، وليس غريبًا هنا أن أهم كتاب فلسفي رياضي عبر التاريخ هو كتاب الأصول لإقليدس، حيث حاول إقليدس البحث عن “أصل” الأشياء المادية في عالمنا من خلال ردّها إلى أشكال هندسية أصلية، وفيثاغورث أيضًا الذي عشق الأعداد، وراح يبحث عن الأصل فيها، ووجد الأصل في الواحد، ومن هنا جاء التوحيد الإلهي بشكله البدائي، ووحدة الوجود، فجاءت الفلسفات الوجودية فيما بعد لتقول أيضًا بـ “الأصل”، والموقف الأصيل والأصلي، الذي يسبق أي موقف معرفي وأي صيرورة تاريخية، ووجدت في هذا الأصل “الحرية” و “العلاقة مع الله” قبل التمايز والتجسد والتعدد.. وهنا تتجسد أولى أشكال العلاقة بين الرياضيات والدين.

ثم جاءت فلسفات وجودية متطورة وأكثر علمية كثيرة تقول “لا”، هذا غير ممكن، العودة إلى الأصل مستحيلة، فجاءت أفكار التأويل والتفسير والتفكيك والهندسة غير الاقليدية والفيزياء النسبية، لتقول هذا غير ممكن. لا في العالم المادي ولا في العالم غير المادي.

وهذا ليس في الفلسفة الغربية وحسب، بل أيضًا في الإسلام، فالتأويلية الإسلامية أيضًا ترى أن الأصل لا يمكن تصوّره لأنه يكون محجوبًا بعملية التصوّر نفسها. مثلاً، نقرأ في معجم لسان العرب: “أصَّل الشيء أي قَتَله علمًا”، أي بحث فيه إلى حدِّ إنهاكه. ومن هنا ظهر التأويل والتفسير بأشكاله المختلفة والمذاهب المختلفة. كما يعرّف العلّامة أبو حسن الجرجاني التأويل مثلا فيقول: هو صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى يحتمله، إذا كان المحتمل الذي يراه موافقاً للكتاب ..

من بين الوجوديين المسلمين الذين أحب رؤيتهم إلى الأصل هو ابن سينا، أجمل الميتافيزيقيين بالنسبة لي، الذي أسمى الأصل بـ “الشيء” نسبةً إلى الخوازرمي.

يرى ابن سينا أن الأصل لا يمكن إدراكه، فأسماه “الشيء”، هو واحد لا لأنه يطابق العدد واحد، ولا نقول عنه “موجود” أو “غير موجود”، الأصل هنا غير محدَّد، لا نستطيع إدراكه. هو “أنكَرُ النكرات”، وبذلك رفض تأصيل الأصل، لكنه فتح البحث في الطبيعة وسمح بسؤال الوجود والمعرفة. كيف؟ وضع المجهول في المستقبل. أين المجهول هنا؟ ليس في الماضي، بل في المستقبل.

أين “النكرة” التي تحتاج إلى “المعرفة”؟ في المستقبل، ففتح سؤال الوجود والمعرفة بطريقة مختلفة عن فتح سؤال الوجود بالطريقة الغربية التي تقوم على التمايز والتجسد والتعدد، وبذلك فتح باب العِرفان والصيرورة والتاريخ والإمكان المستقبلي بطريقة مختلفة.

“الشيء” هو نفسه المجهول x في رياضيات الجبر. حين نحلّ معادلات رياضية في غاية التعقيد (من الدرجة الثالثة فما فوق) ومن هنا تطوّرت رياضيات الجبر التي خرجت من رحم الإسلام كثقافة، لا كدين وحسب، لتحلّ معادلات المجاهيل المعقدة، وتكشف المجهول في المستقبل.

وهنا لدينا نظامان وجوديان مختلفان، لكنهما مترابطان أيضًا، كلاهما يوحِّد الله ويتأمل الطبيعة ويسأل سؤال الوجود بطريقة مختلفة، خرجا من ثقافتين مختلفتين. كلاهما جميل لأنه تطوّر تدريجيًا وأنتج فلسفات عظيمة، ففلسفات الصيروة جاءت بالتفاعل مع فلسفات الكينونة، وفلسفات الوجود الإسلامية تفاعلت مع الفلسفات الوجودية الغربية الأولى، حتى حصل تزاوج بين النظامين في الفلسفة والرياضيات، فجاءت الترجمة بين الهندسة والجبر، والترجمة بين الوجودية الإسلامية والغربية. وعرف الرياضيون والفلاسفة الأوائل أن هناك أسئلة لا تُحلّ إلا بالجبر، وأخرى لا تُحلّ إلا بالهندسة. فجاءت الهندسة التحليلية (ديكارت) والجبر الهندسي، فوُلِدت الترجمة، التي قام عليها إرث التنوير العظيم، وكل ما لدينا اليوم من أفكار وفلسفات.

ما يثير الدهشة والروع هنا أن المحلل النفسي جاك لاكان في عصرنا الحديث استخدم المصطلح نفسه، “الشيء” das ding، وهو واحد من أهم المفاهيم لديه، وهو مفهوم نفسي طبعًا له علاقة بالرغبة، لكن ما هو هذا “الشيء”عند لاكان؟

هو حالة من عدم التحديد، من الكمال الأصلي المفتَرَض قبل الدخول في اللغة والنظام الرمزي، هو الشيء الذي نبحث عنه ولا نستطيع الوصول إليه، ذلك الذي تستحيل “العودة” إليه، هو ذلك “الواقع” الذي لا نستطيع إدراكه، هو سبب “الرغبة” التي تحرّكنا إلى الأمام وتجعلنا نسعى، هو مصدر قلقنا الوجودي.

هل قرأ لاكان الخوارزمي وابن سينا؟
لا أعرف، ولا يهم، ولا مصادر تدلّ على ذلك. لكنه قرأ ابن رشد و ابن عربي، ويقول إنه يرى نفسه أقرب إلى ابن عربي منه إلى ابن رشد..

أسوأ ما يمكن أن نفعله في قراءة من هذا النوع هو أن نرّد منجزات الآخرين إلينا، أو أن نردّ منجزاتنا إليهم، فنقول هذا سرق من ذاك، أو نحن الأصل، أو هم الأصل، فنتورط من جديد بالأصل وهمّ الأصل، فننفي التاريخ والفاعلية الإنسانية، أو أن نضفي قيمة أخلاقية على العلم والفلسفة، فنقول هذه الوجودية “أفضل” من تلك، القيمة لا تأتي هنا إلا من التماسك العلمي والنظري، وقدرة الفلسفة على مقاربة الإنسان وهمومه وأسئلته، ومن ثم القدرة على التطور.

نور حريري – نص منشور كتدوينية على صفحة الدكتورة بالفايسبوك

Related posts
تربية وتعليمعامةفلسفة

كأنّنا نقول الشّيء نفسه".

ديداكتيك تدريس الفلسفةفلسفة

من حقنا أن نبتهج !

تربية وتعليمفلسفة

السلطة الثقافية والسلطة السياسية

ترجمةفلسفة

المثقفون المغالطون

Sign up for our Newsletter and
stay informed