
بقلم: نبيل عبد الفتاح

عالم جديد ومختلف يتشكل أمامنا، ونجد صعوبة فى فهم تغيراته فائقة السرعة ، ومألاته، وصعوبة تبدو في استخدام المناهج والنظريات والمفاهيم الموروثة من الحداثة وما بعدها فى تحليل ظواهره، وتشكلاته الجديدة، وتطوراته التي تبدو ومضاتية .
قد نبدو فى مرحلة المابعديات، إلا أن إمعان النظر فيما يحدث نصطدم بحالة الاضطراب، وبعض من السيولة، والشعبوية والقومية والعرقية فى مواجهة بعض الطبقات السياسية ، والأحزاب فى العالم الاكثر تطورًا. إنً النظر المدققة نسبيا في عمق هذه الظواهر تشير إلي اننا إزاء ردود أفعال على تطورات تبدو خارج السيطرة، من الدول والسلطات السياسية، والمجتمعات التي يتفكك بعضها، وتتذرى، وما يجمعها ليس الجغرافيا السياسية والسيادة التى تبدو كمفهوم من الماضى في اعقاب نهاية الحرب الباردة ، حيث توجد فواعل جديدة كبعض المؤسسات الدولية الاقتصادية النيوليبرالية ، وبعض منظمات المجتمع المدني الكوني ، وفواعل مادون الدولة وخاصة المنظمات المسلحة كما في منطقة الشرق الأوسط .
سيبدو العالم غريبا من منظور بعض السياسيين والكتاب فى جنوب العالم على نحو تتحول معه الغرابة لدى بعضهم إلى ستار يخفي بعض ما يجرى فى عالمنا، ويصعب فهمه، وتتحول الغرابة إلى حجاب حاجز يحول دون فحص وتحليل عمليات التحول فائق السرعة.
عالم جديد مختلف فى كل تفاصيل الحياة، ينزوي بعضها ، ويندثر بعضها الأخر ،وبعض بقايا الحداثة، و ما بعدها، أو عالم الحداثة الفائقة وفق هابرماس،أو عالم ومجتمعات السيولة وفق زيجمونت بإومان ، إلى عالم الإناسة الروبوتية، وتغيراته ، حيث عمليات التحول التقنى والاجتماعى والعلمى، والثقافى نحو عالم مختلف تماما هو عالم ما بعد الإنسان.
كل الظواهر السياسية والاجتماعية والثقافية تحمل بشائر هذا التحول الحامل لتطبيقه فى كافة المجالات ويختلف مع مألوف ما عرفته الإنسانية من تحولات وقطائع سابقة في السياسة والاقتصاد، والفلسفة، والسوسيولوجيا والقانون، والنظم السياسية من الشمولية الماركسية والحزب الواحد الذى انهار مع الإمبراطورية السوفيتية –ولا تزال بعضا منه فى الصين، وكوريا الشمالية- ما بعد إنهيار حائط برلين، إلى النظم الليبرالية والنيوليبرالية، والنيورأسمالية.
ما هى حالة عالمنا الآن؟
يبدو عالمنا المختلف فى طور بناء تشكلات جديدة سياسيا، من حيث الدولة القومية، التى تأثرت كثيرا، بالتحولات إلى النيوليبرالية، والعولمة وسيطرة الشركات الكونية الضخمة العابرة للحدود، والتى تجاوزت شبكاتها القانونية، مفاهيم السيادة، ومفاهيم سيادة القانون، التى باتت قوة مؤثرة على السلطات التشريعية فى دول العالم فى منح التسهيلات والمزايا لهذه الشركات ، وحل نزاعاتها من خلال أنظمة التحكيم الدولية، والوطنية ، وذلك لتجاوز السياجات القانونية الوطنية، وتعقيدات بطء التقاضى، أو الثقافة القانونية داخل غالبُ دول العالم لا سيما فى الجنوب.
الأهم فرض التصورات القانونية للشركات الكونية الضخمة التى تتجاوز المنظومات القانونية الوطنية، من خلال القوة الاقتصادية التى تحولت إلى قوة سياسية بامتياز، تؤثر على السلطات الحاكمة، والأحزاب السياسية فى الدول الأكثر تقدما، وأيضا المتوسطة، والفقيرة المعسورة التي تهاوت سيادتها مع تراجع وفشل نماذج التنمية المستقلة وتبعية نخبها الحاكمة للمراكز الغربية ومؤسساتها الاقتصادية الدولية .
على صعيد القادة والزعماء السياسيين منذ نهاية الحرب الباردة، نشهد تراجع فى مستوياتهم المعرفية والخبراتية، ونسبيا فى ملكاتهم السياسية، فى مجال السياسات الداخلية، والاجتماعية مع هيمنة السياسات النيوليبرالية، وتأثير الشركات الكونية على السياسات والقرارات الاقتصادية فى عديد البلدان المتقدمة، وفائقة التطور التى باتت تؤثر على السياسات التشريعية لا سيما القوانين واللوائح والقرارات المنظمة للاقتصادات الغربية، وغيرها من البلدان الأخرى. من ثم أصبحت السياسات الداخلية واقعه تحت تأثير النخبة الكونية الجديدة التى تمثل القوة المهيمنة على العالم. من ثم الدولة القومية باتت تتحكم فيها الأسواق، وليس المواطنين والجماعات الناخبة . من الشيق ملاحظة أن قادة الدول الأوروبية والولايات المتحدة يلعبون دور المروجين للشركات الكبرى فى دولهم، ومن ثم باتوا فى جزء اساس من عملهم مروجى صفقات اقتصادية، مع الدول الأخرى، وخاصة مع الدول الميسورة، وذات القوة المالية الريعية مثل السعودية والخليج العربى، على نحو ما استطاع الرئيس الأمريكى دونالد ترامب إبرام صفقات بترليونات الدولارات فى زيارته للمنطقة.
زعماء العالم الأكثر تطورًا هم جزء مما اسماهDavidKothkopf ديفيد روثكوبت الكاتب والمحلل السياسى الأمريكى بالطبقة العليا عالميا،والتى تتكون من 6000 شخص حول العالم، التى تتحكم فى السياسة، والاقتصاد والإعلام، ومن ثم القرارات الكبرى المؤثرة على حياة الإنسان فى عالمنا. وتتشكل هذه الطبقة من رجال الأعمال، ومصرفيين كبار، وإعلاميين بارزين، ومؤثرين ثقافيين، ورؤساء دول وحكومات.
أن إمعان النظر فى الطبقة العليا الحاكمة للعالم، دونما انتخابات، أو تفويض ، يجد أن ثمة تحول كبير فى تكوينها مع الثورة الرقمية، والذكاء الاصطناعى التوليدى، وهو ما يصفه ريجيس روبرية “بالسلطة الجديدة”، وهى سلطة رقمية كونية من وجهة نظرنا عابرة للدول والقوميات والاديان والمذاهب والثقافات، ومؤثرة على صياغة عقول وحيوات مليارات البشر فى عالمنا، تحولهم إلى محض بيانات ضخمة وأرقام، يشكلون عبر الحياة الرقمية حياة العالم كله الفعلية أيضا ،ويذهب دوبريه إلى “أن الفرسان الحمر الخاصين بهذا الجيل -أجيال الرقمنة بيل جيتس (Bill Gates)، وستيف جوبز (Steve Jobs) مؤسس أبل (ِApple) ومارك زوكربيرج (Mark Zuckerberg) مؤسس فيسبوك، وزملاءهم. ألاّ ترى فى رسل التقنية العالية High tech هؤلاء سوى أنهم تجار المعبد الذين كبروا بسرعة سيكون سخيفا، وإن كان فيه عزاء للنفس (وهما غالبا ما يتماشيان معا). إن هؤلاء الخيرين الموشحين بالذهب لا يفعلون أقل من الاضطلاع بالخلاص المستقبلى للبشرية مصمما وفق معايير الحاضر” (السلطة الجديدة الطبعة العربية ص 43،44).
ويضاف إلى الأسماء السابقة الملياردير الأمريكى إيلون ماسك، ودوره فى الانتخابات الأمريكية، وانحيازاته وخلافاته مع ترامب والإدارة الجمهورية. أن هيمنةقادة الشركات الرقمية الكونية على الاسواق، فى ظل تحول الحياة الرقمية إلى فضاءات واسعة لقيام الجموع الرقمية الغفيرة، بأشكال التعبير عن ذواتها عبر المنشورات والتغريدات، والصور، والفيديوهات، و تعري الذوات بحثا عن اعتراف الآخرين، بهم وبوجودهم.
توظف الشركات الرقمية الكونية، هذا التوق العارم للجماهير الرقمية/ الفعلية الغفيرة فى الظهور والاستعراض. وجمع وتصنيف، وتحليل هذه الرغبات، والاستعراضات، والولع والاستهلاك الرقمى المفرط ، وبيعه إلى الشركات الضخمة كونيا، وفى كل أقليم من أقاليم عالمنا بات أصحاب الشركات الرقمية هم الطبقة الكونية الأعلى والمسيطرة ، والمؤثرةعلي حياة الدول، والأسواق، والجماهير الغفيرة الرقمية، والفعلية، التى تحولت إلى محض مادة لإعادة تشكيل رغاتها، ودوافعها الاستهلاكية المتغيرة وفق سياسات شركات الإنتاج والخدمات الضخمة.
أن الجماهير الرقمية الغفيرة، غير منظمة ،وهو ماكان يطلق عليه سابقا فرنسوا بيرو François Perrouxفي كتابه Mass Et Classe)( الجماهير الغفيرة غير المنظمة في مواجهة الطبقة –المتبلورة اجتماعياً من حيث تشكلها ، ومصالحها ووعيها الاجتماعي – وتبدو الجماهير الغفيرة غير المنظمة خاضعة لتأثير القوى الاقتصادية، والشركات الرقمية الكونية، وغيرها من شركات الإنتاج والخدمات، وخاصة فى ظل حالة التشتت، والتوهان الرقمى، وعدم وجود أطر تنظيمية سياسية، تعبىء هذه الجموع الى جماعات سياسية، أو ذات برامج سياسية، فى عالم ما بعد الايديولوجية والسرديات الكبرى، والأهم هو ضعف وهشاشة غالب الأحزاب السياسية فى الدول الأكثر تقدما والمتوسطة وغيرها ، ولم تعد قادرة على التعبئة وتمثيل المصالح ، والتأثير فى توجهات الجماهير الفعلية ، أو الرقمية الغفيرة، ومن ثم باتت قابلية المحكومين للانخراط فى الأحزاب السياسية، والمؤسسات السياسية، تتسم بالمحدودية، والهزال السياسى. من ثم انفصال القيادات الحزبية عن قواعدهم الاجتماعية، وتزايد الفجوات بين الطبقة السياسية الحاكمة، وبين الجماهير الرقمية والفعلية الغفيرة، وعدم تعبيرهم نسبيا عن بعض مصالحها الاقتصادية والاجتماعية.
من هنا تتفاقم أزمات الليبرالية السياسية، وتراجع قوتها وحيويتها السياسية، وخاصة فى ظل النيورأسمالية، وشركاتها الكونية المؤثرة على سياسات الدول والسلطات السياسية الحاكمة، وتزايد أدوار الروبوتات فى العمل، والإنتاج، والخدمات، وسيؤدى ذلك إلى تزايد نسب البطالة، وعدم قدرة العاطلين على إعادة التأهيل فى وظائف جديدة والأرقام تفوق ٥٠ مليون في ٢٠٣٠ وفق ارقام قد تتزايد .
من هنا تبدو علامات التغيير فى عالمنا ساطعة ، فى الدولة ، والنظم السياسية، وفى أنماط الحياة الجديدة لا سيما الرقمية، أنه عالم جدُ مختلف.