صدر حديثاً: عن دار أبكالو للفيلسوف الفرنسي بييردوهام
نَسق العَالم: الجذور اللاهوتية للعلم الحديث
ترجمها عن الفرنسية: د.بلقاسم گريسعان
يشكّل هذا المجلد السابع من العمل الموسوعي «نسق العالم» للفيزيائي ومؤرخ العلوم الفرنسي بيير دوهام مساهمة فكرية عميقة في إعادة تأريخ ولادة العلم الحديث، من منظور نقدي ينقض السرديات الشائعة حول القطيعة المعرفية المفترضة بين العصور الوسطى وبداية الحداثة. فعلى خلاف ما تُروّجه بعض القراءات الاختزالية التي تقيم فاصلاً حادًّا بين «عصر الظلمات» و«عصر الأنوار»، يؤكد دوهام، استنادًا إلى تحليل علمي دقيق وموسوعي، أن الثورة العلمية في القرن السابع عشر لم تكن لحظة ولادة فجائية للعلم، بل تتويجًا لمسار طويل من التراكمات الفكرية والنظرية، تعود جذورها إلى الفلسفة اليونانية واللاهوت الوسيط.
يتتبع دوهام تطور النظريات الكونية، خاصة في ميادين الفلك والرياضيات والفيزياء، منذ أفلاطون وأرسطو، مرورًا بالفكر المدرسي اللاتيني والعربي، وصولًا إلى أعمال كوبرنيك وغاليليو ونيوتن. ويُظهر هذا التتبع التاريخي كيف ساهم عدداً من المفاهيم الأساسية في العلم الحديث – مثل مبدأ القصور الذاتي، أو قابلية الكون للفهم الرياضي – كانت نتيجة لتفاعلات معرفية معقّدة، ساهم فيها علماء لاهوتيون وفلاسفة ومدرسيون من العصور الوسطى، كجان بوريدان، نيكول أورسم، توما الأكويني، وابن رشد.
وبعيدا عن الرؤية الصراعية التي كثيرا ما صوّرت العلاقة بين اللاهوت والعلم بوصفها علاقة تضاد ونفي، يقترح دوهام فهمًا أكثر تركيبًا وتاريخيةً لهذه العلاقة، يُظهر فيه الطابع الجدلي والتفاعلي بين الإيمان والعقل، وبين التفسير اللاهوتي للكون والنمذجة الرياضية له. ويبرهن من خلال تحليل نصوص أصيلة ومقارنة النماذج الفيزيائية، على أن بعض الافتراضات الأساسية التي تبناها العلم الحديث قد تبلورت ضمن سياقات لاهوتية وفلسفية.
يقدّم هذا العمل نموذجًا رفيعًا لما يمكن أن تكون عليه فلسفة تاريخ العلم: نقدٌ للمفاهيم الجاهزة، وإعادة بناء للأنساق الفكرية في ضوء مساراتها الواقعية والمعقدة، وانفتاح على الفوارق السياقية والزمنية التي تشكّل نسيج المعرفة العلمية. بأسلوب يجمع بين الصرامة الأكاديمية والدقة المنهجية، يعيد دوهام الاعتبار إلى مرحلة العصور الوسطى، مفندًا الصورة النمطية التي طالما وُصفت بها باعتبارها مرحلة ركود معرفي أو انحطاط فكري.
تصدر هذه الترجمة عن دار أبكالو في بغداد، بإشراف ومتابعة المركز الوطني للكتاب في باريس.
_ من هو بياردوهام؟
يُعدّ بيير موريس ماري دوهام (1861–1916) واحدًا من أهم أعلام الفكر العلمي في فرنسا، جمع بين التكوين الرياضي الدقيق والخبرة الفيزيائية العميقة، ليصبح من أبرز المنظّرين في فلسفة العلم وتاريخه. وُلد في باريس سنة 1861، وتلقّى دراسته العليا في المدرسة العليا للأساتذة (École Normale Supérieure)، حيث تبلورت خلفيته العلمية الصارمة في الرياضيات والفيزياء النظرية، قبل أن يبدأ مساره الأكاديمي في جامعات فرنسا المختلفة.
امتاز دوهِم بقدرته على الربط بين البنية الرياضية للنظريات وبين أسسها الفلسفية، وقد صاغ واحدة من أكثر الأطروحات تأثيرًا في القرن العشرين، وهي أطروحة دوهِم–كوين، التي تقرّر أنّ الفرضية العلمية لا تُختبر منفردة، بل داخل شبكة متكاملة من الفرضيات المساندة، مما يعيد النظر في طبيعة التجربة ودورها في بناء المعرفة العلمية.
وعلى امتداد سنوات طويلة، انشغل دوهِم بمشروع تاريخي ضخم تمثّل في موسوعته الشهيرة «نسق العالم: تاريخ النظريات الكوسمولوجية من أفلاطون إلى كوبِرنيك» (Le Système du Monde)، وهو عمل موسوعي فريد من نوعه يمتد لقرابة عشرة مجلدات. في هذا المشروع، أعاد بناء التطور التاريخي للعلوم الطبيعية والكوسمولوجيا، مثبتًا أنّ العلم الوسيط لم يكن قطيعة معرفية، بل كان ركيزة مركزية مهدت لنهضة العلم الحديث.
