ترجمةفلسفة

ميشيل مايار Michel Meyer: هل توجد حداثة خطابية؟*

     تقابل الأنطولوجيا الخطابة في نشأتها كما في رهاناتها. وإذا ما عثرنا على كليهما عند أرسطو، فذاك بفضل وضوحه، من جهة الخدمات التي يمكن للدّيالكتيك أن يقدّمها والتي لم يقدر أفلاطون، مهووسا بطرق التلاعب الفكرية للسّفسطائيين، أن يعترف بها للحجاج. غير أنّ ما سيلحق ذلك من الميتافيزيقا، وإلى حدّ هيدجر، سيستلهم من ستاجيريت( أي أرسطو) Stagirite متناسيا خطابته.

     ذلك أنّه علينا أن نعترف بأنّه لا يمكن تفادي النقد الأفلاطوني. فأليس الحجاج حقّا شيئا آخر غير تقنية تهدف إلى جعلنا نفعل ونفكّر، وعنفا مسلّطا على الحرّية كما على احترام الحقيقة؟ فالاعتقاد ليس البرهنة، والإقناع ليس العقل، والرأي ليس العلم. هذه مقابلات كشف أفلاطون بداهتها. ومن الصّعب اليوم فعلا، مثلما كان بالأمس، مفاضلة السّفسطائي الإغريقي الخطيب الشعبي، الذي يولّده مجتمعنا الديمقراطي أيضا، بانتظام في تحوّل أزماته.

    هذه الخطابة وقد اختزلت في الدّعاية وتمجيد اللامعقول. فما الفائدة من البحث عن معقولية تخصّ الحجاج إذا ما كان عليه أن يظلّ خادما لكلّ ما يخرج لدينا عن مجال العقل؟ سنظلّ نعترض بأنّ أكبر النقاشات الفلسفية تقيم في موضع آخر، بجانب القيم الجوهرية، التي يلزم الحديث عنها إذن، إذ هي التي تحدق بها المخاطر. وفي الجملة، إذا كانت الخطابة غير ضارّة، فستكون على الأقلّ ثانويّة. لقد قيل كل شيء: يمكننا بكامل الصراحة، أن نعيد أفلاطون الخطابة إلى سجنه.

    غير أنّنا لم نشهد حتى اللحظة استتباعات أو بالأحرى مسلّمات مثل هذا التصرّف المتمثّل في حرمان الخطابة من كلّ إمكانية. فما هو نموذج المعقولية، واللّوغوس، الذي يفترضه مثل هذا الاتهام للخطابة؟ يتعلّق الأمر بالطبع بلوغوس منغلق على نفسه، لا يكون فيه النقاش سوى ناقلا لحقائق جاهزة. ومن هنا يأتي دور الحدس والبداهة. فهل هذا فعلا معقول؟ هكذا لن يُطرح سؤال لا نملك له بعدُ جوابا( بطريق الحدس) أو ليس لنا إمكانية توليده من أجوبة أخرى نملكها ( بطريق الاستنتاج). إنّ سؤالا هكذا مغلقا، ليس إذن، إلاّ ذريعة للجواب من خارج وبمعزل عن أي شيء.لا يمكن لأيّ مشكل واقعي أن ينشأ، لأنّه توجد في موضع ما، القضيّة التي تلغيه. يخفي الحجاج ما يجعله عقيما، بواسطة ما يستخدمه من لعبة التناقضات، بينما الجهل بالقضيّة الحقيقيّة فهو وحده ما يجعل الحجاج ممكنا. إنّ معرفة هذه القضية التي نتخاصم حولها، هو فعلا ما يناقض الحجاج. فلنحسّن إذن وسائلنا للمعرفة ولن يكون لنا ما نتجادل حوله: ألا تتحدّث الحقيقة عن نفسها ولنفسها؟ إنّ الخطابة تتسلّل فينا كنقيصة للنفس، لتنضاف إلى جهلنا، إلى نقصاننا الطبيعي.

 هكذا إذن، فإنّ النموذج ، النموذج القضوي propositionnel للعقل هو الذي باسمه تجد الخطابة نفسها مرفوضة. فكيف أمكن لمثل هذا النموذج أن ينشأ ؟ ما الذي حدث فعلا للّوغوس السقراطي، المفتوح والتساؤلي، حتّى يتجمّد من جهة إلى أخرى، في لوغوس قضيّاتي ؟ يقتضي الجواب أن نفهم ما يآخذه أفلاطون على سقراط. نحن نتذكّر، أنّ هذا الأخير كان يكتفي بوضع ما يقوله محاوروه موضع السّؤال وينهي الحوار باستنتاج لا جواب( لا حلّ) non-résolution عن السؤال المطروح في البداية. لا يهتمّ سقراط بالجواب مادام يعرف أنّه لا يعرف شيئا. ففيم قد يفيد التساؤل إذا لم يكن لأجل الوصول إلى جواب؟ هل يمكن لمعرفة ما أن تكون جوابا ؟ كيف يمكنني أن أجد جوابا عن أسئلتي إذا ما كنت أجهل ما أبحث عنه؟ وإذا كنت عارفا بما يلزمني العثور عليه، فهل لي حاجة للبحث عنه؟ لا يخلو هذا التفكير من كثير من المغالطة، لن يكون لها أدنى أثر حاسم لا يمكن ردّه، في الفصل بين المعرفة وما يتّصل بالأشكلة. وبما أنّه لا وجود لسؤال دون جواب، وأنّ تمفصلهما لا يؤدّي إلاّ إلى مغالطة، وجب أن تُستوضح المعرفة على نحو مغاير. ذلك أن المعرفة تتعالى على الأفراد خلافا للأسئلة التي ترتبط في كلّ مرّة، بما يمكن لأحدهم أن يجهل أو بما عرف من قبل. هذا ذاتي(أي السؤال)، بينما ذاك( أي المعرفة) لا يمكن أن تكونه. يمكن دون شكّ، أن تُولّد المعرفة بمناسبة مشكل ناشئ، مثلما تزعمه نظرية التذكّر، لكن لا يمكن بالمرّة لهذه المعرفة أن تجد مشروعيّتها في السّؤال، أي أن تُحتزل في كونها جوابا، إلاّ أن تكون بصورة ظرفية خالصة، أي غير جوهريّة. لكن،علينا أن نتساءل كي نتذكّر من جديد، كما يقول أفلاطون، ألا يجب على الديالكتيك، الذي قد يصبح علما، أن يكون بالأساس شيئا آخر، حتّى لو ظل لعبة السؤال/ الجواب؟ هذا تضادّ لم يغفل عنه أرسطو الذي قسّم العلمي إلى الديالكتيك والمنطق والحجاج، وهو الذي سيجعل له نظريات ذات قيمة من أجل رسم حدوده بوضوح. أمّا أفلاطون فسيجد في نظرية المثل المشهورة ما يبحث عنه للتشريع لمعرفة لا يجب أن تجد حقيقتها إلاّ من ذاتها.

    ماذا تعني الأفكار في إطار تمشينا؟ فيم كان الانزياح من الخطابة إلى الانطولوجيا، مع ما نتج عنه بالذات من تشويه الحجاج؟ حينما يسأل سقراط مثلا :” ما الفضيلة؟”، فإنّه يعتقد أنّه لا يمكن لنا الإجابة عن مثل هذا السؤال، إذا كانت صياغة السؤال لا تدلّ على الوحدة؟

    يمكن أن نعطي لأيّ جواب جوابا آخر و ربّما نواصل ذلك عند الاقتضاء، وسينتهي بنا الأمر فعلا إلى تضادّ. بينما يمكن أن نجيب عن سؤال عمّا هو س، وج، د، بطرق مختلفة ولا شيء في السؤال يمنع التعدّد. الفضيلة هي الشّجاعة، وهي العدالة وهكذا دواليك. ومثلما أن نابليون هو إمبراطور الفرنسيين فهو المنتصر في معركة اوسترليتزAusterlitz ، وهو زوج جوزيفين، وأنّه أيضا لست أدري.

     و في غياب جواب، يمكن أن نظلّ في نهاية الأمر، مع السؤال وقد أصبح إذن حرجا aporie. وإذا ما استعدنا نفس المثال، فلابدّ إذن، كي يكون هناك جواب، أن تكون الفضيلة شيئا محدّدا بدقّة: ما يجعلها فضيلة وليس شيئا آخر، ما يعرّفها بالضّرورة باستبعاد كلّ شيء آخر. الضرورة والوحدة والتعريف، يحيل كلّ ذلك إلى فكرة أن الفضيلة هي هذا وليست شيئا آخر؛ وهذا يفترض أن كائن الفضيلة être de la vertu موجود، وأنّ لها ماهية تتطابق معها وتؤسس لكل تطابق، مع تفريد individuation لهذه الفضيلة.  يحصل للسؤال ” ما هو س؟” تحوّل جذريّ: نؤوّله بوصفه طارحا لماهية، لفكرة ننقّب عنها(تحديدا، حتى نتذكّرها بفعل التقصّي). لقد مررنا بالفعل من السّؤال:” ما هي “س”؟” qu’est- ce que x ?  إلى السؤال :”  ما هي”س”؟  qu’est-ce que x ?. تضمّ الأنطولوجيا النشاط التساؤلي وتضمن معناه من خلال مخرج. بل يمكننا أن نتحدّث عن انقلاب أنطولوجي، إن لم يتعلّق الأمر ربّما بضربة عصا سحريّة. فمن يخبرنا بأنّ الفضيلة موجودة أساسا؟ ومن يثبت لنا أنّ ذلك هو فعلا ما نطلب في السّؤال ” ما هي الفضيلة؟”. وفي نهاية الأمر، ألم يكن سقراط على حقّ؟ لكن أفلاطون وقع  في المصادرة على المطلوب حينما صرّح بعكس ذلك : اعتبر جوابا، ما هو في الأصل إشكاليّ، أي أن يكون للفضيلة وجود (أو كيان) خاص. في حين أنّ هذا بالذات ما يشكّ فيه سقراط جذريّا، أي وحدة الجواب، ومن ثمّ وببساطة، الجواب، وهذا إلى أن يثبت العكس. تتمثّل الأنطولوجيا في إثبات حتّى ذاك الذي لابدّ من تبريره. من هنا كانت عبارتي ” ضربة عصا سحرية أنطولوجية” .لا يمكن للأنطولوجيا إلاّ أن تكون دائريّة. وفضلا عن ذلك فإنّ أفلاطون قد رتّب كلّ سؤال تعلّق بـأيّ”س” كان، ليكون لا سؤالا عن” س” ولكن عن ” كيانه” son être كشرط وحيد للجواب. وهو بفعله هذا، يخضع التساؤل للأنطولوجيا؛ ومن هنا، وبوجه عام للنزعة القضويّة propsitionnalisme.  لنَستعدْ هذا العنصر الأخير. تخبرنا ماهية الأشياء عمّا هي عليه باستبعاد ما ليست هي عليه. وهذا يعني جعل الفكرة (أو المثال) معيار تحقيق الهوية identification، معيار هُويّة ما نتكلّم عنه وأساسه في نفس الوقت، المعيار الذي بفضله تكون الأشياء هي هذه وليس ضدّها. فـ”ما هو” الشجاعة يسمح مثلا بتحديد هويّة كلّ فعل شجاع وعدم خلطه مع أيّ شيء آخر؛ إنّ كائن وفكرة وماهية الشّجاعة هي إذن ما يشرّع فعلا حقيقة أيّ قول عن الشجاعة، على أساس أنّ الماهية تبرّر كلّ ما يمكن أن نقوله عنها مباشرة أو استنتاجا. أمّا فيما يخصّ النقطة الأولى المثارة أعلاه، فهي مهمّة أيضا. ففي ظلّ الأنطولوجيا، يكون أمر التساؤل قد انتهى، وبالتالي الخطابة على غير النموذج القضويnon proposionnalisé، أي تلك التي تأبى العمل بالوكالة. ومن هنا فصاعدا، فنحن دائما على معرفة بما نبحث عنه، حالما يقال لنا بأنّنا لا يمكن إلاّ أن نبحث عن كائن ذاك الذي نسأل عنه. وسيضمن الحدس والاستنتاج تناسق هذا اللوغوس الأفلاطوني، الذي يظلّ في جانب كبير منه لوغوسنا؛ هذا التناسق الذي لا يستند في نهاية التحليل إلاّ على القرار الأنطولوجي. ولنلاحظ، مع “بيارأوبنك” أنّ الانطولوجيا لن تكون إلاّ علما نسعى إليه، ويستحيل العثورعليه. لكن كان علينا أن ننتظر عصرنا الراهن لنرى النموذج القضوي propositionnel ينهار، دون أن يُستبدل مع ذلك إلى حدّ اللحظة.

     تتأتّى الأنطولوجيا من الحاجة لجواب، علينا أن نعترف بأنّ سقراط لم يلبّها. لكن لا يمكن للأنطولوجيا، التي تقرّ بأولوية الكائن، إلاّ أن تفرغ ممارسة التفلسف ذاتها من دلالتها كما يتصوّرها سقراط. فالكائن الذي يردّ إليه كلّ تساؤل- وهذه فكرة نجدها مع ذلك في مدخل إلى الميتافيزيقا لهيدجر- هو بالضرورة ما يتعلّق به الجواب. ليس هناك أيّ فرق،منذ الآن،  بين ما يمثّل سؤالا ( الكائن ) وبين ما سيقوله الجواب. وبدون هذا الفرق، يختفي التساؤل الذي يُمفصل بين المشكل والحلّ، بما هو تساؤل.  يحلّ الكائن المشكلات بإلغائها منذ البدء، بجعلها صورا لأجوبة علينا العثور عليها. وبالتّالي فنحن نملك حلولا جاهزة لمشكلات لم نطرحها في البداية. إنّ كلّ ما تهبنا إياه الأنطولوجيا هو فعلا الحلّ بإللإلغاء لا الحلّ بالجواب. إنّ الميتافيزيقا، بإقرارها دغمائيا ما يجب أن يكون عليه كلّ جواب، بحكم الواقع، لا بما هو جواب، إذ أنّنا لم نساءل التساؤل ؛ تعطي إذن، طيلة تاريخها، الانطباع بأنّها تمنح حلاّ، حيث هي تمنع فحسب عن التّساؤل، ومن هنا نشأ وهم التساؤل. إنّ الاستماع إلى الكائن هو إحدى أوهامها. لن نلغي المتعدّد من الواقع ذاته، المتعدّد الذي قرّرنا أنّه مستحيل وخاضع، لمجرّد إقرارنا بأنّ الإجابة هي الإعلان عن الهويّة أكثر من شيء آخر. لا مفرّ، منذ الآن، من أن تظلّ الميتايزيقا في تيهان دائم وفريسة “لصراعات العقل” conflits de la raison .

       لقد كادت هذه النقلة التي ستكرّس القضوي ،le propositionnel أن تكون قاتلة للخطابة. فهي، أي الخطابة، لا تتصوّر ذاتها خارج تساؤليةintérrogativité  اللّوغوس. إنّ طرح مسألة لحلّها، هو وحده ما يولّد نقاشا: فنحن لا نرى بوضوح تقابلا بين قضايا يرتكزعلى تناقضيته الخالصة contradictoirité دون أن يكون هناك مشكل ضمني، لأجله بالتحديد، كان الاختيار، بين جوابين متصارعين على الأقلّ. لكن مع النزعة القضويّة propositionnalisme le فإنّ الأسئلة هي أبعد من أن تكون أولى، هي مشتقّة: فليست الأسئلة، كما يقول أرسطو، “إلاّ الشكل التّساؤلي لمزاعم حول الحقيقة، مزاعم يجدر الحكم عليها”.(  1. 4 ,101b33-36Topique) لا يمكن لمشكل واقعي أن يوجد بما أنّه ليس إلاّ جملة، مضمونها بالتحديد قضيّة. بينما القضيّة ذاتها، هي بالتأكيد جواب، ولكنّه، إذ لا يتعلّق بأيّ سؤال، فليس هوحقّا جوابا. إنّه ببساطة، الرافع الأدنى للحقيقة التي يعبّرعنها، إنّه وحدة المفكّر فيه، الذي لن يقاس بالرّحيق الذاتي للأسئلة الفرديّة. فإذا لم يكن هناك إلاّ القضوي le propositionnel ، فلن يكون هناك، على كلّ حال من باب المعيار، إلا مدار الحقيقة والعلم. بينما قد تكون الخطابة بالضرورة ، وبحكم تموقعها من ناحية الحقيقيّ، هناك حيث لم يبتّ بعدُ في الحقيقة أو حتّى في قابلية البتّ فيها، أقلّ منزلة: القضايا التي نناقشها هي، على الأفضل، في حالة انتظار المصادقة في شأن حقيقتها. أمّا المنطق فينظّم   الحقائق، وهو ما يمنحه تفوّقا إذا ما استندنا إلى قيم النزعة القضوية propositionnalisme . إذن، فإمّا أن يمهّد الديالكتيك لنا الطريق إلى العلم، وهو نافع في هذا الباب، وهذه أطروحة أرسطو، أو بالعكس، لا يمكن له (أي الديالكتيك) أن يدّعي القيام بمثل هذه المهمّة، لأنّه يضع نفسه خارج الحقيقة الموضوعة؛ وبما أنه يزعم الاشتغال بالقضايا، فإنّه يقدّم مجرد ظاهر الحقيقة على انّه حقيقيّ. وهو بهذا محض  تلاعب، بل هو ميل للقضويّ الذي لا يعرف إلاّ الحقيقة وتبريرها الثابت. وإذا كان هناك نقاش، فإنّ لنا فعلا قضايا ولكن لسنا داخل الحقيقيّ، فالقضويّ هو فعلا ما يملك دائما قيمة الحقيقة. وتبعا لذلك،لا يمكن لقضية نناقشها إلاّ أن تكون ظاهرا قضوياapparence propositionnelle ، ظاهر حقيقة، رأيا يتمترس خلف برهنة ليست، بما هي كذلك، إلاّ وهما. كيف يمكن لقضيّة، وبالتالي ما هو حقيقي، ألاّ تكون إلاّ إشكالية، دون أن تخون في الآن نفسه ماهية القضيّة ؟ سنتعرّف بالتأكيد في هذا الإمكان الثاني من الخيار،على أطروحة أفلاطون.

     غير أنّ نقد أفلاطون ليس له من صلاحية إلاّ تلك التي تنتفع بها القضويّة بفكرتها المطابقة للحقيقة. لقد أبّد أرسطو النموذج( القضوي) .فبالرغم من أنّه قدّم لنا نظرية في الحجاج ونظرية في العلم، فإنّه لم يفعل ذلك إلاّ من أجل أن يُبيّن أنّ الطابع الوضعي positivité  للديالكتيك يكمن في إمكان خدمة المستوى القضوي للعلم. و إذا ما شدّدنا على تصوّر أفلاطون الخاص، فلا يجب ننسى أنّه خلط العلمي بالتساؤلي في الديالتكيتيك، رغم كونهما غير متلائمين، ولم يترك إذن للخطابة في معناها الدقيق سوى طريق التلاعب.

      وإذا ما أنكرنا النموذج القضوي، ألغينا في ذات الوقت العار الأفلاطوني. إنّ اللوغوس المتجذّر في البداهة التقريرية الكونية، حافظ على وجوده اليوم. وأصبحت أزمة العقل أزمة اللغة أيضا. فنحن نعلم أنّ الحجاج، هو نقاش مسألة، ومن هنا فإنّ الخيارات المتعارضة(او الإميّات) هي التي تعرّف الخطابة. ولكن الكلام يوافق بصورة عامّة الجواب والسعي إلى إثارة أسئلة. إنّ اللوغوس، على نحو ما ينشأ في المعقولية الحديثة، التي علينا بناءها، هو لوغوس إشكالوي، problématologique والذي بما هو كذلك، مرصود للحجاج. لقد برهنت الأنطولوجيا دائما على فشلها: لقد أحاطت اللوغوس بسياج مانعة عنه الإشكاليّ،      وهو الذي عليه مع ذلك، أن يعبّر عن نفسه أكثر فأكثر، لأنّ الخاصيّة الإشكالية poblématicité ذاتها للوغوسنا هو ما يلزم مواجهته والتعبير عنه. بينما العقل الدغمائي لا يمكن له تصوّر الإشكالي إلاّ بما هو غير قابل للتصوّر، ولا يمكن له أن يتكلّم عنه إلاّ بما لاينقال indicible . إلاّ أنه، ومع أزمة العقل الغربي التي دشّنها ماركس، ونيتشه وفرويد، يجد العقل نفسه مأشكلا problématisée في أساسه بالذات، فالذات الديكارتية أصبحت ترنسندنتالية عند كانط. وبموجب عجزه عن التصريح بظرفه الجديد قصد تجاوزه، فقد أنشأ اللوغوس توجّها عبثيّا جديدا ولامعقولا جديدا: استحالة التعبير عن نفسه بوصفه عقلا، ومن هنا كان الصمت أو، كحلّ نقيض، العبادة المطمئنة للعلم بما لديه من آلة الإجابة. وكأساس لكلّ ذلك، يوجد المفهوم الشهير، مفهوم القضيّة الذي يقصي مسبقا كلّ إحالة إلى تساؤلية اللوغوس intérrogativité du logos .وظهر الكائن، الذي ننساه غالبا، بوصفه مفهوما فلسفيا، قصد ضمان وظيفة المجيب الكوني عن أسئلة مبتورة، ومنقوصة. وربّما كانت محاولة هيدجر آخر المغامرات الأنطولوجية الكبرى، بالرغم من انشغال بالتجاوز تكرّر التأكيد عليه، إذ يظلّ الكائن منظورا إليه بوصفه نقطة التقاء كونيّ لكلّ جواب وكلّ تساؤل، الأمر الذي يمنع مرّة أخرى هذا الأخير ( أي الكائن) عن أنّ يعبّر عن نفسه بالخصوص. ولدت الأنطولوجيا، وبالتالي الميتافيزيقا بالمعنى الذي نعني به دائما هذا المفهوم، من انغلاق اللوغوس على نفسه، مع اقتران باستحالة التفكير في الخطابة على نحو آخر غير جعلها قضويّة en le propositionnalisant، أي بتشويهها. تتقابل الميتاقيزيقا والخطابة بمثل ما يتقابل نفي التساؤل والاضطلاع الفعلي الصريح للعقل به. إنّ التساؤل هو فعلا المفتاح الذي أمكن رصده تاريخيّا، والذي يفتح لنا الباب لفهم هذا التقابل، الذي بزواله يفسح المجال للتّجاوز نحو خطابة جديدة وميتافيزيقا غير أنطولوجية بالمرة. يتعلّق الأمر إذن برسم طريق للفكر لا يقع فيه، لا في اللاّجواب السقراطي ولا في التزييف الأفلاطوني للجواب. من المهمّ ردّ المعضلة سقراط/ أفلاطون. فبالنسبة للأوّل (أي سقراط)، لا يمكننا أن نعطي جوابا لسؤال لأنّ الجواب متعدّد، وبالنّسبة إلى الثاني ( أي أفلاطون) فيجب علينا الجواب عن هذا السؤال بجواب يكرّس بالضّرورة وحدته. ولتجنّب المأزق، يجب على الأقلّ مساءلة التساؤل بما هو كذلك، أي بناء نظرية الإشكاليّة problématologie لا يمكن  لسقراط، الذي يسأل دون القدرة على الجواب، ولا أفلاطون الذي يجيب دون تساؤل، أن يغذّيها. فما هي إذن هذه الحداثة الخطابية، غير كونها الرجوع إلى اللوغوس، إلى معقولية أصبحت من جديد ممكنة، ومتجدّدة بفضل تساؤليّة تؤسّس الحقل القضوي لما هو عليه، أي بوصفه الجواب؟

*- المصدر: كتاب” من الميتافيزيقا إلى الخطابة : التمهيد” ميشيل مايار.1986 .

Related posts
ترجمةفلسفة

ميشال أونفري: الدليل الفلسفي للعطلة (حوار)

ترجمةفلسفة

مفهوم السياسة لدى هابرماس

أنشطة فلسفيةترجمة

في ذكرى اعدام سقراط: ثنائية الحب والفلسفة

ترجمةفلسفة

كاريسا فيليز: ما الذي يمكن أن يعلمنا إياه سقراط حول الذكاء الإصطناعي؟

Sign up for our Newsletter and
stay informed