
ترجمة يوسف اسحيردة

“ماذا نعني بالنيتشاوية؟ يوجد تطور في فكر نيتشه : في مرحلة أولى، وبتأثير من شوبنهاور وفاغنر، رأى الفيلسوف في الأوبرا الفاغنرية مناسبة من أجل جعل ألمانيا في طليعة قارة أوربية أرادها مفكرة، تحركها الثقافة. كان ذلك اتجاه “ميلاد التراجيديا” (1872). تواطؤ فاغنر مع الارستقراطيين، البورجوازيين، أصحاب البنوك، الأمراء من أجل تمويل مسرح بايرويت، الذي كان يمثل معقل هذه النهضة المفترضة، جعل الفيلسوف يدخل في خصومة مع المؤلف الموسيقي. نضيف إلى ذلك الأزمة العاطفية التي كانت سببها الزوجة الشابة للعجوز فاغنر : كوزيما، ابنة فرانز لست، الزوجة القديمة لقائد الأوركسترا هانس فان بلو، الذي كان يصمم أعمال فاغنر، هذا الأخير أخذ له زوجته، التي كانت، في الواقع، أقرب في العمر للفيلسوف منها إلى زوجها. إلا أن الفيلسوف قد هَوَّمَ (من الهوام) حول تلك التي كان يدعوها بأريان.
في مرحلة ثانية، أكثر فولتيرية (نسبة إلى فولتير)، بعد تلك الصداقة المحطمة وذلك الحب المُحبَط، سيطمح نيتشه، على خطوات أبيقور، إلى سلام داخلي تحققه حكمة عملية : لزمن، رفقة الفيلسوف بول ري ولو سلومي، التي ستصبح لاحقا عشيقة لريكله، وبعدها صديقة لفرويد، رغب نيتشه في تأسيس مجمع فلسفي خاص بالأصدقاء، يتشاركون الحياة في ضيعة واحدة، حيث يفلحون الأرض تحقيقا للكفاف. إنه زمن “العلم المرح” (1882). العمل، القراءة، النقاش، التفكير، المشي، البساطة، كلها أمور كانت ضمن البرنامج. غير أن نيتشه قد رغب في أن يقوم ري بتبليغ لوعته إلى لو، في حين أن ري نفسه متيم بها. بعد زمن كوزيما، جاء زمن لو : خصومات جديدة.
المرحلة الثالثة هي، بالأحرى، الفترة التي نأخذها عادة بعين الاعتبار حين نتحدث عن النيتشاوية. إنها مرحلة المفاهيم الكبرى والنظرية العملاقة : خلالها أعلن نيتشه موت الإله ودعا إلى ضرورة تجاوز المسيحية التي يقدمها كديانة للعبيد تفرض، منذ ما يزيد عن ألفي عام، استبداد المثل التقشفي من خلال كراهية الجسد والبدن، الرغبات والشهوات، الحياة والتمتع؛ كما أكد وجود حقيقة واحدة : إرادة القوة، والتي يمكن أن نُعرفها بكونها قوة كامنة في كل ما يرغب بالحياة هناك حيث توجد الحياة، ومحركة لكل ما هو موجود : انطلاقا من المتناهي في الصغر لخصلة العشبة أو الزهرة وصولا إلى المتناهي في الكبر للكواكب في النظام الكوني، مرورا بما يحرك الحيوانات والبشر، ليس الخير أو الشر ما ترومه إرادة القوة، لأنها ما وراء الخير والشر، وإنما الوجود وتنمية الحياة في كل ما هو حي.
إلى جانب هذا التجاوز للمسيحية وهذه النظرة الحيوية إلى العالم، أثبت نيتشه العود الأبدي للأشياء : كل ما يحدث سبق له الحدوث لعدد لا متناه من المرات وسيعود بنفس الهيئة تماما لعدد لا حصر له من المرات. في حين أن البشر لا يملكون حرية الإرادة، الحرية مجرد وهم، فهم مجبرون على أن يكونوا كما هم، ولا شيء آخر، دون امتلاك خيار تغيير مصيرهم.
التفسير الذي ساد في القرن العشرين، بسبب جيل دولوز، والذي بموجبه أن النيتشاوية تدعو، في الحياة، إلى إرادة ما نود أن يتكرر باستمرار، هو تفسير غاية في التناقض والمغالطة، فليس باستطاعتنا أن نريد ما يريدنا قصد منعه، إعاقته، إكراهه، سيكون الأمر بمثابة إدخال الإرادة الحرة من النافذة بعد أن طردناها من الباب. كل شخص يعرف الطبيعة المأساوية لكل ما هو موجود والطابع الحتمي للعود الأبدي، وكل شخص، بعد معرفته هذه، يحب الطبيعة المأساوية لكل ما هو موجود والطابع الحتمي للعود الأبدي – وهو ما يسميه نيتشه بحب القدر (Amor Fati) ، حب مصيرك – هذا الشخص هو إنسان أعلى. الإنسان الأعلى يعلم حقيقة العود الأبدي ويحب هذا الواقع الذي يعود متخذا نفس أشكاله تماما. هذه المعرفة وهذا الحب يحققان فرح حكمة ما بعد مسيحية.
هذا إذا ما نسميه بالنيتشاوية : إعلان موت الإله؛ دعوة إلى تجاوز المسيحية، باعتبارها ديانة للحقد والضغينة؛ قراءة للعالم ما وراء الخير والشر من خلال إرادة القوة وحدها؛ تلقين عقيدة العود الأبدي لنفس الأشياء؛ حتمية كل ما يحدث وضرورة حب ما يعود – وبلوغ غبطة أرضية، طمأنينة محايثة وفرح هنا والآن.
نحن، هنا، إزاء لحظة “هكذا تكلم زرادشت” (1885-1883). هذا الكتاب المفصلي، هو عبارة عن قصيدة ضخمة يختلط فيها الغنائي، بالمجازي، بالرمزي. القصيدة تعرض شخصية تحمل أفكار نيتشه، زرادشت، يرافقه أسد وثعبان باستمرار، والذي يتكلم بطريقة مجازية وسط حيوانات تتكلم أو شخصيات غريبة الأطوار – البابا الأخير، الملكين، أكثر البشر قبحا، الرجل العلقة، المتسول المتطوع، الساحر، الظل المسافر، الكاهن، البهلوان. لجأ نيتشه إلى هذا الخيار الشعري من أجل التعبير عن تبعات نظرية العود الأبدي بعد أن فشل في البرهنة على هذا الحدس علميا.
هذا الخيار، الذي يتطلب فك الرموز والاستعارات المعقدة، ساهم كثيرا في حالات سوء الفهم التي تعرض لها فكر نيتشه – على أن أكثرها ضرار هي تلك التي جعلت من كاتب ” ما وراء الخير والشر” مبشرا بالفاشية والنازية، وذلك من خلال أخته، إليزبيث فوستر، التي كانت معادية للسامية، صديقة لموسوليني وهتلر، وقد أهدت هذا الأخير عكاز الفيلسوف. نيتشه، الذي كان يكره الدولة، الذي غادر ناشرا فقط لأنه كان يطبع نصوصا معادية للسامية، الذي كان يدعو إلى قتل أعداء السامية رميا بالرصاص، الذي كان يحتقر غريزة الجموع، الذي كان يكره الحشود والرعاع، كان ليكره، بنفس الطريقة، أنظمة القرن العشرين الشمولية. كان ليجعل من مونسوليني، من هتلر ونظرياتهما، لكن أيضا من لنين، من ستالين ومذاهبهما، نموذجا للحقد الذي أعلن عليه حربه الفلسفية.
في مطلع هذه القصيدة الضخمة، سنعلم بأن زرادشت قد غادر العالم في سن الثلاثين، وهي السن التي بدأ فيها السيد المسيح دعوته، وبأنه، متسلحا بما اكتسبه في أيام خلوته التي دامت عشرة سنوات، قد قرر النزول إلى الوادي، هناك حيث يقطن البشر، من أجل تعليمهم ما اكتشفه وما أتينا على تسميته بالنيتشاوية.”