
ترجمة يوسف اسحيردة

في ظل حُمى العُطلة، أي العُطلة بأي ثمن (حتى عن طريق الاقتراض البنكي)، مفهوم جديد ذلك الذي يمنحه ميشال أونفري للعطلة في هذا الحوار الشيق مع مجلة لوفيغارو. هل الاستمتاع بالعطلة بعيدا عن التمثلات الرأسمالية أمر مُمكن؟ نعم، يُجيب صاحب ” نفي اللاهوت “، مُقدما دليله الفلسفي. دليل، كما سُيلاحظ القارئ، صالح حتى بعد العُطلة.
المجلة : نعيش أجواء العطلة الصيفية كما تعلمون. ما هي الأولويات بالنسبة لكم في هذه الفترة؟ عدم القيام بشيء، إعادة قراءة الكلاسيكيات،إعادة نسج روابط مع أقاربنا، قضاء وقت ممتع بما أن هذا الأخير محسوب؟
ميشال أونفري: في الفلسفة، كما في أي مكان آخر، أنا ذو نزعة اِسمية، أي لا أُجوهِرُ أي شيء، عكس المؤسسة المُتفلسفة التي لا تعتاش سوى على هذا. وبالتالي فأنا لا أُضفي طابعا جوهريا على العطلة. عُطلة أمي، التي هي عاملة نظافة متقاعدة، عطلة أخي الصغير، الذي سيبلغ عامه الستين قريبا ويعمل في الصيانة الميكانيكية للمُعدات داخل مقلع، عطلة زوجة أخي التي تعمل في مقصف، ليست هي طبعا عُطلتي، ولا هي تُشبها. فهي لا تخضع لنفس الضرورات الجسدية والنفسية والروحية والاقتصادية.
طالما أننا بصحة جيدة، فالتقاعد عطلة طويلة. عُطلة عامل يدوي يُعاني في الشغل، حالة أخي الذي يرهقه سُكَّرِيٌّ شديد منذ ثلاثة عقود، ليست هي نفسها عطلة عامل فكري يجد متعة في الشغل، التي هي حالتي…عُطلة شخص يتوفر على قدرة شرائية ليست هي نفسها عطلة شخص يُعاني من مشاكل أواخر الشهر. قبل القيام بنظرية للعطلة، يجب القيام بسوسيلوجيا.
من جهتي، لم يكن ممكنا أبدا أن أتخيل، مُنحدرا من الوسط حيث أنحدر، أن حياتي قد تكون سعيدة بهذا القدر: عملي هو في واقع الأمر شغفي، أقرأ، أُدَوِّنُ ملاحظات، أكتب كتبا، يتم استدعائي في الاعلام من أجل الحديث عنها، ألقي ندوات حيث يأتي الجمهور بكثرة، قُرَّاء بأعداد كبيرة نسبيا يسمحون لي بأن أعيش من قلمي: أي عطلة إذن يُمكنني أن أخترع؟
لا وجود بالنسبة لي لانفصال بين الأسبوع ونهاية الأسبوع، الأيام العادية وأيام العُطل، سنة العمل والعطلة، يوم نُويل ويوم في الأسبوع. أشتغل كل الوقت. لِنَقُل أن عطلة الآخرين هي أيضا عطلتي: أقل استدعاءً من أجل سفاسف الأمور من طرف سفاسف الناس، يُمكنني أن أشتغل عشرة ساعات في اليوم. هذه الأيام : على مديح لِلُوكريتوس من أجل كتابي القادم.
المجلة :ضمن الدروس العديدة لفترة كوفيد، كان هناك الانقطاع المفاجئ، جراء الأزمة الصحية، للرابطة الاجتماعية، وأحيانا حتى العائلية. في مجتمع خاضع باستمرار لإغراء الفردانية، أليست إعادة نسج هذه الرَّابطة بأُولى الحاجات المُلحة؟
ميشال اونفري : الرابطة ليست جسدية فحسب. فقد أَمْكَنَانَا أن نتكاتب، ونتكلم، ونتهاتف، ونتبادل أطراف الحديث عبر السكايب. عدم القدرة على الالتقاء جسديا قد أوضحت العلاقات التي كُنَّا نملكها مع هذا الشخص أو ذاك. الكثير من العلاقات هي هَيِّنَة، سطحية، خفيفة، مظهرية، تافهة ودون جدوى بحيث، رب ضارة نافعة، أن الحجر كان مناسبة للبعض من أجل تنظيف علاقاتهم. مُسبقا، في العائلة، يبدو لي أن تعايشا ومُساكنة إجباريتان يُمكن أن تُصبحا عنيفتان في هذه الظروف…
بما أن العمل أو الأنشطة الخارجية قد اختفوا، فقد وجد البعض أنفسهم محكومين بوجه لوجه كان ربما اختبارً للحقيقة. الواحد أعاد اكتشاف الآخر، نحو الأفضل ونحو الأسوأ، نفس الشيء مع الأطفال الذين اكتشفوا ربما الوجه الحقيقي لآبائهم.
أعتقد أن هذا الاختبار قد كشف، بالمعنى الفوتوغرافي للكلمة، الطبيعة الحقيقية للعلاقات التي يُقيمها كل واحد مع الآخر. مع الآخر ومع نفسه…إعادة نسج الرابطة الاجتماعية؟ ربما. لكن مع من ولماذا؟ إذا كان كوفيد قد أسقط أرضا صروحا متداعية وعزز أخرى في المقابل، وحتى صنع أخرى، فلنَقُل إن ذلك ليس بالأمر الجيد ولا السيء: كانت الحياة في جميع الأحوال ستجد سُبلا أخرى من أجل الوصول إلى نفس الغايات…
المُلح دائما هو أنشاء علاقات حقيقة. لا يُوجد أكثر إلحاحا من المُلح.
المجلة: العطلة هي بعض الشيء فن عدم القيام بشيء. لكن، كيف ننجح في عدم القيام بشيء عندما يظهر أننا جميعا نعاني من مرض يُمكن نعته بالتحرك الدائم؟ أو، إذا أحببتم، كيف يُمكن النجاح في تحقيق حياة عاطلة؟
ميشال اونفري: عدم القيام بشيء هو الجحيم بالنسبة لي! يحدث لي بين الفينة والأخرى، داخل القطار بين كَنْ وباريس والعودة، أن أشاهد باستغراب بالغ أشخاصا يمضون ساعتي الطريق في عدم القيام بشيء…أرى منهم أيضا من يُسَخِّرُ تلك الأوقات لمشاهدة أفلام، بحسب ما لمحت منها، يُمكن لتاريخ السنيما أن يستغني عنها. هناك أيضا أولئك الذين، بالغين برأس أقرع وبطن كبيرة، يلعبون ألعاب إلكترونية العين مشدودة إلى الشاشة طيلة 120 دقيقة. إنه انتصار اللهو بالمعنى الذي يعطيه إياه باسكال. إنهم يتحدثون عن البلياردو، وعن الكرة المدفوعة بالقدم، وعن صيد الأرنب أو الخنزيرالبري.
ما زلنا فيها لحد الآن: الهدوء، والصمت، والتأمل، والوحدة هي أقل أشياء العالم قسمة بين البشر…ومع ذلك فهي الخيرات الأكثر قيمة. إنها ما يصقل الحياة العاطلة: حياة داخلية صاخبة. لا أضع شيئا فوق الهدوء، والصمت، والتأمل، والوحدة.
المجلة: أليس الكسل نشاطا ساميا، جد فلسفي، لأنه يسمح بالتأمل ويُعزز التفكير؟
ميشال أونفري: لِنَقُل أن كل شيء يعتمد على الكسول! أعرف مَنْ بالكاد يقودهم كسلهم أبعد من أنفسهم – ما لا يكاد يذهب أبعد من شخصهم الصغير، وهذا ليس ببعيد…إنه كسل التمركز حول الذات، كسل المغرور، كسل النرجسي التائه في انعكاس صورته…كسل السِّكير على منضدة الحانة، كسل العاطل الذي لم يعد يبحث عن عمل ويمضي أيامه امام التلفاز يحتسي الجُعة، كسل الخامل الذي، مثل ثعبان العشب، يبحث عن كل مكان مشمش حتى ينام فيها، هذا الكسل نادرا ما يكون فلسفيا، لِنتفق على ذلك.
في روايته الرائعة “أبلوموف”، وضع غونتشاروف نظرية لكسل المُنهارِ هذا. فقد ابتكر شخصية مُرتبطة بِتصَرُّفٍ، الأبلوموفية، التي تطبع ذلك الافتقاد البنيوي إلى الطاقة الذي يُفضي إلى اللامبالاة، والانهيار، وتحجر الذات، صيرورتها حجرا، تشيُّؤُها. هذا الكسل المرضي لا يبدو لي مرغوبا. إنه كسل المريض العاجز كليا عن الحركة. مع ذلك…
أما بخصوص ما تدعونه كسلا من أجل وصف “نشاط ساميِّ، فلسفي”، يبدو لي، إذا سمحتم، أن الكلمة غير مناسبة. لأن الاستعداد من أجل تلقي أفكار، وحدوس، والالهام ليس معناه عدم فعل أي شيء: إنه مناشدة ما نحن حاملوه من أجل الفِعل. بصيغة أخرى: التفكير، وحتى التفكير في التفكير. كسل أبلوموف سلبي: لا يُعِدُّ شيئا ولا يُفضي إلى شيء، كسل الفيلسوف إيجابي، فهو يُهيأُ لأن ينبثق من الذات ما هو أكثر من الذات.
المجلة: لقد تم اِعتباركم لوقت طويل كإبقوري. بتعبير آخر: فيلسوف يأمل أن يستمتع بملذات الوجود. هل ما زلتم تجدون أنفسكم اليوم في هذا الوصف لكم؟
ميشال أونفري: نعم، بالطبع. لكن “إبيقوري” كلمة مزدوجة المدخل: فهي تعني تابع إبيقور– الذي كان يُدَرِّسُ تَنَسُّكا إثيقيا يمنح لذة سلبية، الأتاراكسيا، التي تتجلى في التمتع بحالة لا نعاني فيها بأي ألم – كما تعني المُتمتع بغير ضمير، وبغير أخلاق، وبغير إيثِقا، وبغير فضيلة.
من الواضح تماما أنه، من أجل وصم الإبيقوريين التاريخيين، بما في ذلك إبيقور نفسه، كان جَعْلُ هذا الأخير مَاجِنًا يُعاهر إخوانه، ويأكل مثل شَرِهٍ، ويفتعل التقيؤ مرتين في اليوم حتى يتمكن من الأكل مُجددا، ويتردد على المومسات، ويتملق الأقوياء، ويتلفظ بكلام فاحش، ويُنفق ثروة في الطعام، وينام مع نساء مدرسته، وكل الشتائم المتلفظة في وقته، كان أسهل من مهاجمة أطروحاته ودحضها باستخدام العقل النقدي.
أسَرَّيْتُ لكم قبل قليل بأني أشتغل على مديح للوكريتوس تحديدا من أجل شرح كيف أنه مُعلمي في الحياة منذ أربعين عاما…. لكن يجب قراءة “في طبيعة الأشياء” من أجل ملاحظة الفرق بين هذا النص والكاريكاتورالذي يُقام لي…
المجلة: العطلة بالنسبة لأغلب الفرنسيين هي الشمس، والشاطئ، وحفلات الشواء بين الأصدقاء، وجولات الكرة الحديدية، الخ. هل يُمكن إيجاد معنىً في مجرد البحث عن هذه المُتع؟
ميشال أُونفري: نعم، طبعا، لأن كل واحد يجد متعته حيث يستطيع، وكما يستطيع، ومتى يستطيع. أعرف أن البعض قد يدفع ثروة من أجل حضور نهائيٍ لكأس العالم في كرة القدم أو الألعاب الأولمبية، وهو ما قد يكون بالنسبة لي جحيما مُفزعا…
في المقابل، أقول مع نفسي منذ ثلاثين عاما، دون أن أفعلها، أنه ينبغي لي التسجيل من أجل حضور عرض لأوبرا فاغنر، الذي أحب له “تريستان” و”الرباعية”. لكن أفهم دون صعوبة أن مسرح بايرويت يُمكن أن يُشكل لهؤلاء، العقوبة التي قد يُشكلها بالنسبة لي حضور هذه التظاهرات الرياضية.
لا يتبادر إلى ذهنكم، مع ذلك، أنِّي قد لا أُحب حفلات الشواء مع الأصدقاء، أو الشمس، أو السباحة…. كما لا أستبعد لعب الكرة الحديدية إذا سنحت الفرصة!
المجلة: أليست عطلة الصيف هي فترة انغماس المرء تحديدافي ملذات الحياة دون الشعور بأي ذنب؟
ميشال أونفري : لا أعتقد أن العطلة تكفي من أجل تعليق شعور الذنب، الذي هو علامة قوية لحضارتنا اليهودية-المسيحية! بالمناسبة، أعتقد، بهذا الصدد، أن ماي 68 قد فعل من اجل التخلص من شعور الذنب، أكثر مما فعلته كل العُطل منذ قرن!
المجلة: إذا كان البعض يصفونكم غالبا باعتباركم إبيقوريا، فالبعض الآخر يرون بالأحرى فيكم رواقيا. بالنسبة لكم، هل العطلة نَهَمُ أم امتناع؟
ميشال أونفري: التقسيم شأن أساتذة الفلسفة الذي يُريدون الزج بالفلاسفة في خانات. الجامعيون يعشقون إيجاد فترات عند مونتاني، آخر مُفكرينا الرومانيين: فبالنسبة لهم كان رواقيا، ثُم إبيقوريا، ثم شكوكيا…في الواقع، مونتاني كان كل شيء دفعة واحدة، بحسب الوقت، واللحظة، والفرصة، والظرف!
أُنظروا إلى رسائل سنيكا إلى لوسيلوس، تُحفة. سنيكا يؤهل مُخاطبه من خلال الاثناء له على مزايا فِكر رواقي كما إبيقوري!
لُنَقُل، إذا كان لابد من الدخول في التفاصيل التقنية، أن الميتافيزيقا والكوزمولوجيا الرواقيان يناسبانني أقل من الميتافيزيقيا والكوزمولوجيا الأبيقوريان. لا أُقِرُّ الحُلُولِيَّةَ الرواقي، في المقابل أُوافق على المادية الراديكالية للإبيقوريين.
لكن إذا كان ينبغي لي أن أهبط من سماء الأفكار، فالعطلة بالنسبة لي هي تُنَسُّكٌ أُس اثنان !لِنُقل إني أضع نفسي في عطلة الآخرين وأُركز بالكامل على أكثر ما أُفَضِّلُهُ في العالم: القراءة والكتابة…
المجلة: العطلة هي أيضا الوقت المناسب لِمحاولة نسيان النفس وتخصيص وقت أكثر قليلا للآخرين. بالنسبة لكم، ما معنى صداقة ناجحة؟
ميشال أُونفري: هي صداقة أَهْلٌ للصداقة! أو على الأقل أهل للفكرة التي أملكها عنها، والتي هي، هنا كم في أي مكان آخر، أقرب إلى الحِكَم الوجودية القديمة الرواقية والإبيقورية منها إلى أشكال التزامل اللين أو الترافق الرخو المُعاصرة.
“الأصدقاء الحميميون؟ “قِلَّة بالنسبة لي…
أخبرتكم بأني ذو نزعة اِسمية: لا أُؤمن بالصداقة الأفلاطونية، بفكرة الصداقة، بالإعلانات الشفوية للصداقة، بالتصريحات الكُبرى للصداقة. في المقابل أؤمن بكل ما يُثبت أنها تُوجد حقا، أي بالأدلة. أدلة الصداقة ينبغي أن تُعطى باستمرار، وإلا فإنها تذبل وتذوي وتموت.
الصداقة ليست غاية منشودة نصل إليها مرة واحدة وإلى الأبد. إنها فضيلة تُوضع على المحك كل يوم، قد تعرف ازدهارًا كما انحطاطا، عواطف حقيقية أو مُشاجرات أصيلة، لأن الصداقة لا تُتيح كل شيء…. مثلا، لا تُتيح أن يكون المرء عَدائيا مع صديقه! هذا أقل ما يُمكن المُطالبة به.
لا أجهل أنني أضع معايير صعبة المنال…
المجلة: مع اقتراب العُطلة، أغلب الجرائد النسائية تُوصي قارئاتها ب “إرخاء القبضة”. كيف تفهمون هذا التعبير المُتَحدِّر من اللغة الاصطلاحية النفسانويَّة؟
ميشال اونفري: أكره هذا التعبير بقدر ما أكره تعبير “اِرعى ذاتك” !إنها كل وظيفة التنمية الذاتية التي تُوجد في الحقيقة خلف هذه الحماقات! ما هي هذه القبضة التي يجب إرخاؤها؟ من قبض ماذا؟ بأي جهاز للقبض؟ فضلا عن ذلك، يبدو لي أن مُتسلقي الجبال سيلفتون نظرنا إلى كَون إرخاء القبضة معناه السقوط في الفراغ وفقدان الحياة…
لا يُمكن أن أمنع نفسي من قَرْن هذا التعبير بوصفة إرخاء تقهقري للعضلة الشرجية، يُعطيها ديافوريوسٌ لعلم النفس. (ديافوريوس هو اسم طبيبٍ سخيف في مسرحية “المريض الوهمي” لموليير).
اُفضل عليه نقيضه بصراحة، مُضاده: ” تمالكوا أنفسكم!”. لكنه عصر عقيدة الاسترخاء أكثر مما هو عصر جُهد الرغبة وتعبئة الإرادة. إنه عصر منذور للمُتْعَوِيَّةِ السُّوقية، وليس لرواقية جديدة طبعا.
المجلة: كثيرا ما نسمع أن جائحة كورونا قد أعطت ضربة قاسية لرغبات السياحة والإفلات. هل ينبغي في نظركم التخلي عن الأسفار البعيدة واكتشاف الغَرَابَة؟
ميشال أونفري: الغرابة يُمكن أن تكون سَاكِنة: فهي موجودة في النظرة أكثر مما هي موجودة في الشيء المنظور. الغرابة تُوجد بحدة في كل حضور حاد في العالم. وجدت نفسي أحيانا في أمكنة قد يقول عنها آخرون أنها غرائبية – على ممرات أجراف في جزر الماركيز، على تلال نجونج في كينيا، على متن قارب على بعد أمتار قليلة من جبال جليدية ما وراء الدائرة القطبية في جزيرة بافن، في حديقة زن قرب كيوتو حيث قادني صديق وحيث لم يكن موجودا أي سائح.
ومع ذلك، فلم تكن الغرابة موجودة في تلك الأماكن ولكن في النظرة التي كنت أُلقيها على تلك الأماكن. بحيث من الممكن أن أستعيد نفس هذه النظرة عندما أشاهد كيف نمت شجرة الصفصاف التي زرعتها رفقة أخي في حديقة منزلي بالشامبوا قرب الديف، النهر الذي يمر عبر القرية.
نَظْرَةَ، هذ أمر يُربى. لكن من، ومتى، وأين نُربي على النَّظَر في عالم أصبح يُوجد فيه الكثير لرؤيته؟ رأيت بعيني عُيُونا ميتة غير قادرة على النظر مباشرة في تجاه أهرام الأُقصر، وقناة فينيسيا الكبيرة، والمنتدى الإمبراطوري في روما، وبارثينون أثينا، إلا من خلال عدسات هواتفها النقالة، بوجودهم هم أنفسهم في الصدارة من أجل اثبات وجود هذه المآثر التي عبرت التاريخ.
الغَرَابَة هنا تتجلى في رمي الهاتف النقال في مياه نافورة تريفي من أجل مشاهدتها حقا: حينها سنرى ما ينبغي رؤيته حقا: أي الهالة المرتعشة لكل عمل قادر على شحن ذاكرة بروستية (نسبة إلى مارسيل بروست).
السياحة الجماهيرية أصبحت نزعة استهلاكية جماهيرية. بالعودة من العطلة يقول البعض أنهم “صنعوا زيارات للمتاحف”، جاهلين أن هدف أولئك الذين، بعد الثورة الفرنسية، أرادوا المتاحف، كان هو أن تصنعهم المتاحف، بصيغة أخرى: أن تعمل على تشكيل النظرة من أجل أن يكون حُكْمٌ ذوقي مُمكنا.
يجب تَعَلُّم إيجاد الغرابة هنا والآن، هناك حيث نحن. هي ليست في جغرافيا مادية، فضاء بعيد، ولكنها في جغرافيا حميمية، فضاء ذهني.
المجلة: أنتم أنفسكم، هل أنتم أكثر ميلا نحو البحث عن البعيد الكبير أو محاولة إعادة اكتشاف القريب الشديد؟ سؤال آخر: هل ستبقون في فرنسا هذا الصيف أم ستُغادرون إلى الخارج؟
ميشال أونفري: إنه ليس نفس السؤال تماما…بعد ما قُلته لكم للتو، لن أستطيع وضع “البعيد الكبير” (بالمناسبة، أين يبدأ “كبير” البعيد الكبير) في مُقابل ” القريب الشديد” لأنه، اعذروني لتكراري كلامي، لكن أعتقد، بتحديد أكثر، أنِّي أبحث عن البعيد الكبير في القريب الشديد، هناك حيث البعض، في البعيد الكبير، يُريدون الالتقاء مُجددا بقريبهم الشديد ويبحثون بيأس عن ستيك فريتس مع جُعة تحت قُماش خيمة في الصحراء.
بالنسبة للسؤال الآخر، أنا محظوظ بامتلاك منزل في سان بيير بجزيرة المارتنيك، اشتريته بعد سكة دماغية جعلت الشتاء بالنسبة لي عسيرا دماغيا. أنا بالمناسبة أُصحح حوارنا بإطلالة على بحر الكاريبي…بالنسبة لبقية الوقت، سأذهب لمقابلة أصدقاء- في كورسيكا وتولون وبوردو –وسأشتغل في مكتبي بالشامبوا بإطلالة على أسطح قريتي والكنيسة وبرج الدونجون– صورة ما أراه تُفيد غلافا لكتابي “فن أن تكون فرنسيا”.
المجلة: نعرف أنكم تُحبون تأمل المناظر النورمندية ومُراقبة نجوم الليل. ألا يبدأ درس جمال العالم عند طَرَف حديقتنا؟
ميشال أونفري: عندما أكون وحيدا في حديقة منزلي بشامبوا، ليلا، أقول دائما مع نفسي، في الصمت الحفيف للعالم، أن هذا أجمل مكان في العالم! أنه يُمكننا مد أيدينا من أجل مُلامسة النجوم – حتى وإن كان عليَّ الاعتراف بأني، في الصحراء الموريتانية، لاحظت أن شامبوا لا تأتي في المرتبة الأولى…القرية نائمة، كل شيء صامت، نسمع أحيانا طيورا ليلية، البوم، ضفادع، وهمس نهر الديف الذي ينهمر مثل نهر هراقليطيس. هناك جمال، إذا أردنا، ولكن أكثر من ذلك، هنا، ليس بعيدا عن المقبرة حيث يرقد أبي، هناك طاقة تُرابية من دونها ما كُنت لأكون ما أنا عليه.
المجلة: في عصرنا الذي يبدو أنه يريد دائما أن يُسرع، هل تسمح العُطلة بالإبطاء وتمييز الأهم. وما هو الأهم بالنسبة لكم؟
ميشال أونفري: عَيْشُ حياة فلسفية. بصيغة أخرى: وُجُودٌ يتطابق مع ما أفكر فيه وما أكتبه. وَضْعُ الفلسفة في حياتي وفي الحياة، ووَضْعُ حياتي في الفلسفة. كان أبي يقول أحيانا عن شخصٍ بأنه “إنسان جيد”. كان بإمكانه قول “إنسان جميل”، لكن ذلك لم يكن ضمن قاموسه. أعتقد أن النزوع نحو هذا، يكفي لِحياة إنسان.
(مجلة لوفيغارو، عدد صيف 2021)