تربية وتعليم

 مهام المدرسة بين الأخلاق والإيتيقا

لا شك أن كل حديث عن المهام التأطيرية والتوجيهية والتخليقية للمؤسسة المدرسية، واستحضار دورها المحوري في صناعة قواعد ومعايير العيش المشترك خلال كل محاولة تسعى الى فهم العديد من الوقائع الاجتماعية الراهنة،يمر حتماً عبرالتمييزالدقيق بين مفهومين متداخلين، يُستعمَلان أحياناً كمترادفينرغم اختلافهما في المعنى والدلالة؛يتعلق الأمر بمفهومي الايتيقاl’éthique والأخلاقlamorale.فالتمييز بين هذين المفهومين سيساعدنا لا شك في فهم إشكالية تخليق مجتمع المدرسةبأبعادها المتعددة والمعقدة، وفي التعرف بشكل دقيق على المهام الحقيقية للمدرسة في علاقتها بمتطلبات ومقومات العيش المشترك.

فرغم ميل بعضالباحثينإلى عدم التمييز بين الايتيقاوالأخلاق، بحجة أنهما قابلين للتبادل،فلاشك أن أغلبهم يميل إلى الاعتقاد بضرورة هذا التمييز، مستلهماً تلك التفرقةالشهيرة التي أقامها ايمانويل كانط بين مذهب الاخلاق الذي يقوم على الواجبات العامة من جهة، ومذهب السعادة الذي يقوم على النصائح الخاصة التي ترشد الى الحياة المثلى من جهة أخرى[1]. ومن ثمة يشيرون بمفهوم الأخلاقإلى دائرة الواجب الكلي، بينما يحيل مفهوم الايتيقا الى دائرة الحياة الطيبة. بلغة أخرى، فالأخلاق، من هذا المنظور، تشير الى الجواب عن سؤال: “ما ذا يجب أن أفعل؟” Que dois-je faire الذي يفضي إلى تقرير أخلاق واحدة وكلية موجهة للجميع، أي واجبات ملزمة تجري أحكامها بالسوية على الناس جميعاً. أما الإيتيقا، فهي تجيب عن سؤال: “كيف أحيا؟”، أي “كيف ينبغي على المرء أن يعيش؟”؛ وهو سؤال يفضي إلى تقرير أخلاق موجهة إلى كل فرد فرد،ترسم الطريق الأمثل لتحقيق الحياة الخيرة والطيبة le bien-vivre، وهو ما يجعل هذه الأخلاق متعددة وشخصية ونسبية، تختلف بالضرورة معانيها باختلاف مذاهب وتوجهات الأشخاص[2].

بهذا المعنى، فالايتيقا مسألة شخصية، بينما الاخلاق هي مسألة بينذاتية[3]intersubjective.فعندما نكون في إطار الايتيقا فإننانعبر عنالقيمالخاصة والشخصية، بينما عندما نكون في إطار الاخلاق فإننا نتساءل عما هي المعايير المشتركة بين كل الأشخاص الذين يمكنهم ان يدخلوا في علاقات بين بعضهم البعض. لذلك، فالايتيقا لا تلزم إلا الشخص الذي يعبر من خلالها عن قيمه الشخصية[4].

ما نود التأكيد عليه هنا، في العلاقة بموضوع تخليق مجتمع المدرسة، أن كل خلط بين هذين المفهومين وعدم الالتفات إلى الخيط السميك والرفيع بينهما، يمكنه أن يُسْنِدَ للمدرسة وظائف لا تدخل ضمن اختصاصاتها، بل ومنافية لمهامها الحقيقية.

إننا نفترض هنا أن المدرسة عليها أن تُلَقِّنَ المتعلمين “ما عليهم أن يفعلوا” وليس “كيف يحيون ويعيشون”. بلغة أخرى، عليها أن تلقنهم الاخلاق باعتبارها معايير جماعية تتمتع بنوع من الوجوب والإلزامية الجماعية المطلقةمادامتهي صدى لصوت المجتمع الذي تندرج في اطاره المدرسة وتتفاعل معه، وليس الايتيقا التي هي مجرد صدى لصوت الفرد كفرد، أي قناعات فردية وخاصة، وقيم شخصية ومعايير نسبية. ذلك أن الإجابة على سؤال”ماذا نفعل؟”، أي محاولةاستجلاء مظاهر وحدود المحظور والمباح بمجتمع معين، من السهل الاتفاق حولها، أما الإجماع حول الإجابة عن سؤال ” كيف نعيش؟” فيبدو صعباً إن لم نقل مستحيلاً. أكثر من ذلك، إذا كان الحد الأدنى من الاجماع حول الإجابة عن السؤال الأخلاقي “ما ذا نفعل” يبدو ضرورياً لكي يستطيع المجتمع إعادة انتاج نفسه بنوع من التعايش السلمي بين افراده، فالحرص على تعدد وتنوع واختلاف الإجابات عن السؤال الايتيقي “كيف أعيش؟” وعدم اختزالها، بروح دوغمائية جاهزة، في جواب واحد، يعتبر بدوره إحدى ضرورات ومستلزمات العيش المشترك.

إننا نعتقد أن المدرسة إذا انتقلت من تلقين الأخلاق باعتبارها معايير جماعية مؤسِّسَة للعيش الجماعي المشترك،إلى تلقين الايتيقا باعتبارها مسألة خاصة وشخصية، فإنها ستُصادر ثقافة الاختلاف، وستقتل إمكانية الإبداع والابتكار، وستُجْهِض التأسيسلما يسميه ايميل دوركايم ب”استقلالية الإرادة” لدى المتعلمين. وللتذكير فالمدرسة في المنظور الدوركايمي عليها أن لا تكتفي بتلقين روح الانضباط والارتباط بالجماعات الاجتماعية، بل عليها أيضاًأن تنمياستقلالية الإرادة لدى المتعلمين.

بلغة أخرى،إذا انتقلت المدرسة من تلقين الاخلاق الى تلقين الايتيقا ستنحو بالضرورة، على غرار ما يقع بالأنظمة السياسية التسلطية الكُليانية والشمولية،إلى تنميط المتعلمين وصهرهم في بوثقة واحدة، وبالتالي مصادرة كل اشكال التعدد الثقافي والاجتماعي والسياسي والديني.ومن ثمة ستتخلى عن أحد أهم أهدافها الكبرى أيتعزيز البناء الديموقراطي للمجتمعات الإنسانية، الذي يمر حتماً عبر نشر ثقافة المواطنةالتيتقتضي تشرُّب واستبطان ثقافة التعدد والتنوع والاختلاف.

للتوضيح أكثر،أعطي بعض الأمثلة تبين ما يندرج ضمن المهامالتخليقيةللمدرسة وما يخرج عن دائرة هذه الوظائف، أو لنقل أين تنتهي قارة الأخلاق وأين تبدأ قارة الايتيقا بمجتمع المدرسة:

●يمكن للمدرسة، في إطار مهامها التخليقية، أن تلقن المتعلمين آداب المائدة، وتغرس فيهم الوعي والايمان بضرورة اقتسام طعامهم وشرابهم مع المحتاجين والفقراء،أو بتجنب الأكلات السريعة الصناعية والمشروبات الغازية، أو بالاقتصاد في الأكل، ولكن ليس من وظائفهاان تلقنهم أن هناك طريقة واحدة ووحيدة للأكل والشرب فتؤكد، مثلاً، على ضرورة الأكل باليد والشرب في إناء الفخار، وتستقبح وتستهجن، بالتبعة، الأكل بالسكين والشوكة أوالشرب في الكأس الزجاجي، لان ذلك لا يندرج في إطار الاخلاق بل الايتيقا.

●يمكن للمدرسة أن تلقن قيمة التضامن الاسري، وتؤكد على أهمية دور الاسرة في إعادة انتاج النوع البشري وفي تحقيق حد أدني من التوازن النفسي والبيولوجي للفرد، لكن ليس من وظائفها التخليقية أن تستهجن العزوبة سواء كانت اختيارا واعيا أو مفروضاً،فتشيد بالمتزوجين والمتزوجات وتذم العازبين والعازبات؛لأنهاإذا فعلت ذلك، ستكون قد خانت وظيفتها الحقيقية.

●يمكن للمدرسة أن تلقن ضرورة الاهتمام بالشأن العام، فتؤكد على أهمية الانخراط في العمل السياسي والمدني؛لكن ليس من وظائفها الأخلاقية أن تلقن للمتعلمينأنطريق المواطنة الحقيقية والوطنية الصادقة يمر حتماًعبر الانتماء لهذا الحزب السياسي أو ذاكأو هذه الجمعية أو تلك.

●يمكن للمدرسة أن تؤكد على أهمية الدين في إعطاء معنى لحياة الناسوحل لغز موتهم ومصيرهم، ولكن ليس من وظائفها الأخلاقية أن تلقن المتعلمين أن غير المتدينين هم مجرد دودة زائدة في جسم المجتمع، أو أن أتباع الديانات الأخرى هم مجرد “أبناء قِرَدَةَ وخنازير”. 

●يمكن للمدرسة أن تؤكد على ضرورة اهتمام المتعلمين بمظهرهم الخارجي وحثهم على، ولكن ليس من وظائفها أن تقوم بنوع من المفاضلة بين أنواع اللباس، مثل القول بأن ارتداء الجينز والقميص ذو الكمين (التيشورت) والحذاء الرياضي أفضل من ارتداء الجلباب والعمامة وانتعال البُلغة بالنسبة للرجل، أو التأكيد على أن ارتداء التنورة والبنطلونوالحذاء الكعب أفضل من الجلباب والحجاب بالنسبة للمرأة.

●يمكن للمدرسة أن تسعى لتهذيب الذوق الفني والحس الجماليللمتعلمين عن طريق تربية موسيقية متنوعة، لكن ليس من وظائفها أن تختزل كل أشكال الوعاء الموسيقي المتنوع في لون أو صنف واحد باعتباره الصنف الوحيد الذي يجب أن يحظى باهتمام الدولة والمجتمع والمتعلمين، وتستهجن الأشكال الموسيقية الأخرى.

هذه الأمثلة وغيرها، تعطينا فكرة عن ضرورة الالتفات إلى التمايز المهم بين الأخلاقوالايتيقا، وتبرز لنا أن التأطير القيمي والأخلاقي للمتعلمين وتخليق مجتمع المدرسة لابد أن يأخذ بعين الاعتبار هذه الفروقات الدقيقة بين المفهومين لكي تكتفي المدرسة بتلقين الاخلاق فقط. فإذا لم تحرص المدرسة على احترام هذه الفواصل والحدودفتنتقل من تلقين الاخلاق الى تلقين الايتيقا، فسيتحول المدرس، بالضرورة، إلى داعية، وسيتخذ الفعل البيداغوجي طابعاً دعائياًفَجّاًومفضوحاً، وستتحول، بالتبعة، المدرسة الى مؤسسة تنميطية وتوحيدية تقتل الطاقات الإبداعية، وتحارب التنوع، وتصادر الحق في الاختلاف الذي يعد إحدى مقومات التعايش السلمي وإحدى ركائز العيش المشترك.

الهوامش


[1]طه عبد الرحمان، سؤال الاخلاق: مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية. الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، 2000، ص.17.

[2]طه عبد الرحمان، نفس المصدر، ص17.

[3]Descombes Vincent, « Que peut-on demander à la philosophie morale ? », Cités, 2001/1 (n° 5), p. 13-30. DOI : 10.3917/cite.005.0013. URL : https://www.cairn.info/revue-cites-2001-1-page-13.htm

[4] Descombes Vincent, Ibid.

Related posts
تربية وتعليمفلسفة

المصطفى رياني: حفريات الفكر النقدي المغربي المعاصر

تربية وتعليمديداكتيك تدريس الفلسفة

مفهوم القصدية في فلسفة الذهن، جون سورل نموذجا

أنشطة فلسفيةتربية وتعليم

تأمل فلسفي في الظهور الإنساني خارج خرائط القوّة

تربية وتعليمترجمةفلسفة

فلاسفة العقد الاجتماعي: هوبس، لوك وروسو

Sign up for our Newsletter and
stay informed