تربية وتعليمفلسفة

من نحن سياسياً؟ من يقرّر؟ وماذا يبقى من «الإنسان» حين ينطفئ «العدو»؟

محمد صبّاح / كاتب فلسطيني

ربما لم يجب على هذه الأسئلة بوضوح أكثر من اثنين : نيكولو ميكافيلي وكارل شميت. الأول مهندس «السياسة الواقعية»، والثاني منظّر «السيادة المطلقة». كلاهما لم يُخدع بالأقنعة الأخلاقية، بل رأى في السياسة فعلًا عارياً لا تحرّكه المبادئ، بل الخوف، الحيلة، والقرار.
ميكافيلي لم يُشوّه السياسة، بل وصفها كما هي: قوة نفعية تتغذّى على الضرورة، لا على المثال.
أما شميت، فلم يُنقذ السيادة من الفوضى، بل كشف أنها لا تنبع من القانون، بل من لحظة تعليقه. فكلاهما يدرك أن السياسة لا تقوم على الأخلاق، بل على التمييز، على القدرة الحاسمة في اتخاذ موقف.

_ العدوّ باعتباره أصل السياسة :
في كتابه الأشهر مفهوم السياسي (1932)، لا يقدّم كارل شميت أطروحة ميتافيزيقية عن الدولة، بل يمارس حفراً في الطبقة المنسيّة من السياسة: العدو. بالنسبة له، لا تقوم السياسة على التفاوض أو القيم المشتركة، بل على التمييز الحاد بين الصديق والعدو. في لحظة الحرب، تتوقّف كل الشرعيات الأخرى _ الدينية، الأخلاقية، الاقتصادية _ عن إنتاج النظام، وتُترك الساحة لـ«السياسي» كي يتكلّم بلغته الأصلية: القرار في مواجهة العدو.
ليست الحرب، في نظر شميت، انحرافاً عن السياسة، بل تجلٍّ صارخ لها. وما دامت جماعة ما قادرة على تحديد من هو عدوها، فهي جماعة ما تزال تحتفظ بقدرتها السياسية. أما حين يُلغى العدو، باسم السلام أو الإنسانية أو الأخلاق، فإن السياسة ذاتها تتلاشى.
ويكتب شميت، في موضع آخر لا يقلّ عمقاً (من كتابه مفهوم السياسي) : «يفترض مفهومُ الدولة مفهوم الشأن السياسي؛ وإنّ الدولة حسب الاستعمال الحالي للغة هي الوضع السياسي لشعب منظَّم داخل وحدة إقليمية ما… إنّ الدولة (Staat)، طبقًا لمعنى اللفظ وطبقًا لظهورها التاريخي، هي ‏«حالة» (Zustand) مهيّأة خصّيصًا لشعب ما، أي الحالة المحدَّدة في الظرف الحاسم، ولهذا السبب، وعلى الضدّ من الأوضاع الفردية والجماعية الكثيرة التي يمكن تصوّرها، هي الوضع بإطلاق.»
بهذا المعنى، لا يُعرّف شميت الدولة كبنية قانونية أو تقنية أو حتى اجتماعية، بل كـ«وضع حاسم»، أي كتجسيد للقرار في اللحظة الاستثنائية. إنها ليست مجرد آلة لإدارة الحياة اليومية، بل حالة سيادية تنبع من لحظة مواجهة تُحدّد مصير الجماعة.
ولذلك، فإن أي محاولة لفهم السياسة دون الإقرار بهذه اللحظة الحاسمة _ لحظة العدو، لحظة القرار، لحظة الطارئ _ هي محاولة لبناء سردية جوفاء، لا تفهم الدولة إلا كوظيفة، لا كوجود سيادي. وهنا تظهر أهمية شميت الفلسفية: إنه لا يبحث عن تعريف شكلي للدولة، بل ينفذ إلى ما يجعلها ممكنة سياسياً : التمييز، القرار، والعدو.

_ الإنسانية كقناع للحرب :
يحذّر شميت من محاولات إخفاء الصراعات السياسية خلف شعارات إنسانية. فحين تُشنّ الحروب باسم «السلام العالمي» أو «حقوق الإنسان»، يصبح العدو أكثر شيطنة: لم يعد خصمًا سياسيًا، بل كائنًا لا إنسانيًا ينبغي «القضاء عليه» لا مواجهته. هكذا، تصبح الحرب «أخلاقية»، فتفقد حدودها وتتحوّل إلى إبادة شاملة.
وهنا المفارقة: حتى القوى التي تدعو إلى السلام المطلق، إذا امتلكت من القوة ما يجعلها تدخل حربًا ضد من يعارض هذا السلام، فإنها بذلك تمارس فعلًا سياسياً، وتعود إلى منطق العدو والصديق.

_ ماذا يبقى من الإنسان حين ينطفئ العدو؟
في هذا الأفق، يصبح غياب العدو ليس إعلانًا للسلام، بل نهاية للسياسة ذاتها. فمن لا يملك القرار، لا يملك السياسة، ومن لا يستطيع التمييز بين العدو والصديق، لا يملك السيادة، بل يعيش في حالة فراغ سياسي، يُنذر بزوال الجماعة وتفكّك المعنى.
في كل لحظة تُلغى فيها السياسة باسم الأخلاق، يُعاد إنتاج العنف بشكل أكثر تطرّفًا. ليس لأن السياسة شريرة بطبيعتها، بل لأن نفيها هو تجاهل لحقيقة وجودنا المتنازع عليه.

_السياسة: اختبار مستمر للوجود :
ليست السياسة مجرد إدارة للمصالح أو لعبة للتسويات، بل هي، في جوهرها، اختبار وجودي. أن تكون سياسياً ، هو أن تملك القرار. وأن تملك القرار، هو أن تعرف أين تقف، ومع من، وضد من. هذا هو الحدّ الذي يجعل من السياسة فعلًا حقيقياً ، لا مجرد ديكور نخبوي أو ترف فكري.
في زمن تتلاشى فيه الحدود، وتُموَّه فيه المفاهيم، يصبح العدو هو الامتحان الأوضح لحقيقة الجماعة. فبقدر ما نستطيع أن نحدّد من هو العدو، نُثبت أننا ما زلنا نملك لغة السياسة، ونحتفظ بحدود السيادة.
أما حين تفقد السياسة هذا التمييز الحاسم، فإنها تتحوّل إلى سردية فارغة، ويغدو الإنسان فيها كائنًا هشًّا، يتوه في ضباب الشعارات، دون موقع، دون قرار، ودون معنى.

_ خاتمة :
إن كان في هذا الطرح شيء من القسوة، فذلك لأنه يتعامل مع الواقع كما هو، لا كما نحب أن نراه.
فهل نحن مستعدّون لمواجهة السياسة في حقيقتها العارية؟ أم سنواصل الاحتماء وراء أقنعة السلم و«الإنسانية» التي لم تعد قادرة على صدّ الكذب، بل باتت أخفّ منه وزنًا؟
لعلّ التحدي الأكبر ليس في مقاومة العدو، بل في الاعتراف بوجوده، لأنه وحده ما يحدّد شكلنا السياسي، ويمنحنا الحقّ في السؤال: من نحن؟

محمد صبّاح / كاتب فلسطيني .

Related posts
أنشطة فلسفيةتربية وتعليمديداكتيك تدريس الفلسفة

قراءة في شعار أولمبياد الفلسفة "من أجل بناء مواطن عقلاني متشبع بثقافة الحوار وتقبل الآخر"

تربية وتعليمغير مصنف

تفاهة الكذب: قراءة في فلسفة الكذب

الفلسفة للأطفالفلسفة

المساهمة في كتاب جماعي حول الفلسفة للأطفال

تربية وتعليمغير مصنف

العمل الإجتماعي المدرسي  بالمغرب

Sign up for our Newsletter and
stay informed